قضايا وآراء
مناهضة علم الكلام قديما و حديثا / عبد العزيز راجـــل
وهؤلاء الرافضون الخوض في هذا العلم والإشتغال به؛ معتبرين إياه مدخلا للكفر، ومضيعة للوقت، كان لي موقفهم هذا، تداعيات سلبية في عصرنا على فئات عريضة من المجتمع، فظهرت أحكام غير منصفة لهذا العلم- الذي اعتبره علمائنا أصلا لكل العلوم الدينية، -ويعزى ذلك إلى أنه لم يتم إلى حدود الساعة تقييم الانجاز الكلامي والنظر إليه بموضوعية، بدلا من الحكم عليه بمقايس عصرنا أو استنادا لوقائع تاريخية، لاشك أن نتائج عملية تقييم المنجز الكلامي واستيعابه، ستفضي بنا إلى ضرورة وأهمية تجديد علم الكلام و العمل على إحياء جوانب القوة فيه، طالما أن التحديات التي تستهدف العقيدة الإسلامية ما تزال مطروحة و قائمة.
1- مناهضة علم الكلام في الماضي :
كان يقول الامام الشافعي- رحمه الله -: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد و يحملوا بالجريد، و يحملوا على الابل، و يطاف بهم في العشائر و القبائل و ينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و أقبل على علم الكلام[1] .
و قد أوصى الإمام الجويني عند موته باجتناب علم الكلام قائلا: يا أصحابنا لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به[2]
و نجد الفخر الرازي قال: لقد تأملت الطرق الكلامية و المناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا و لاتروي غليلا (...) إلى أن قال: و من جرب مثل تجربتي فر وكر.
يقول ابن خلدون: أن هذا العلم هو علم الكلام، غير ضروري لهذا العهدعلى طالب العلم، إد الملاحدة و المبتدعة، قد انقرضوا، و الأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا[3].
[4]يقول أبي حامد الغزالي: (450/505ه)
فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الادلة التي ينتفع بها ، فالقرآن و الأخبار مشتملة عليه، و ما خرج عنهما فهو مجادلة مذمومة، و هي من البدع كما سيأتي بيانه، و إما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق و تطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات و هذيان تزدريها الطباع .
من خلال الأقوال التي عرضناها لهؤلاء الأئمة الأفذاذ فنجد بعضهم مارس الكلام و أدرك خطورته على الدين فنصح بعدم استعماله؛ لأنه يفضي إلى ترك كتاب الله و سنة رسوله، و البعض الآخر رأى أنه لم تعد الحاجة قائمة لعلم الكلام؛ لأن بواعثه و نشأته ارتبطت بموضوعات و مباحث زالت في عصرهم. كما نجد أحد العلماء عاب على منهج علم الكلام القائم على الجدل. و بالتالي فهو لا يوصل إلى المعرفة اليقينية، و هناك من أكد على عدم جدوائية هذا العلم لأن ما يستدل به يوجد في القرآن الكريم.
هكذا، نلاحظ أن هذه المناهضة الشديدة لعلم الكلام من قطاع كبير من علماء السلف. لها ما يبررها في زمانها. و لعل أهمها هو سوء استخدام المتكلمين للجدل الذي أفضى إلى ظهور نزعة التكفير و الفتنة و الفرقة، غير أن هذا الإنحراف كان من الأجدر أن يواجه في حينه ليصحح مسار هذا العلم الضروري للمسلم، عوض رفضه بشكل مطلق. و حسبنا في هذا الصدد أن ندرج قولة للعلامة سعد الدين التفتزاني[5] وما نقل عن بعض السلف من الطعن فيه، و المنع عنه فإنما هو المتعصب في الدين و القاصر في تحصيل اليقين، و القاصد إفساد عقائد المسلمين، و الخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين و إلا فكيف يتصور المنع عما هو أصل الواجبات، و أساس المشروعات .
فمناهضة علم الكلام قديما، لم تكن لتسري على جميع العلماء المسلمين و إنما نجد فريقا منهم أيد الاشتغال بعلم الكلام، فالذين رأوا ضرورة النظر في أصول الدين و إثباتها بالعقل ومن هؤلاء استهلال الماتريدي كتابه التوحيد ببيان أن سبيل معرفة الدين تتم بالنظر بجانب العقل و نجد للأشعري كتاب استحسان الخوض في علم الكلام يبين فيه ضرورة النظر في الدين، و من بعده الأشاعرة أمثال الباقلاني و الجويني و القاضي عبد الجبار (...) و لقد قدم
هؤلاء العلماء المؤيدين لعلم الكلام أدلة نقلية، و عقلية منها :
الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان: " يرفع الله الدين آمنوا منكم و الدين أوتوا العلم درجات "[6].
- ارشاد المسترشدين بايضاح الحجة و إلزام المعاندين بإقامة الحجة
-حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين.
- أنه يبنى عليه العلوم الشرعية فإنه أساسها و إليه يؤول أخذا و اقتباسا .
-صحة النية و الإعتقاد إذ بها يرجى قبول العمل و غاية ذلك كله الفوز بسعادة الدارين.
استند هذا الفريق إلى ما ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع في الحث على النظر و إقامة البرهان و الدليل[7]. فبالإضافة إلى فريق المناهضين و المؤيدين. نجد فريقا توسط بين المعارضة المطلقة، و التأييد المطلق لعلم الكلام و هؤلاء يميزون بين موضوعات علم الكلام، فمنه الكلام المحمود و منه الكلام المذموم. و أيضا من حيث المشتغلين به و الممنوعين من الإشتغال به؛ أي ان علم الكلام مباح عند الحاجة إليه في إزالة الشكوك في أصول العقائد، و يكون مذموما حينما يكون الكلام مخالفا للكتاب والسنة[8].
2- مناهضة علم الكلام حديثا :
التيار المناهض لعلم الكلام في عصرنا الحالي، ما هو إلا امتدادا للتيار الرافض لعلم الكلام قديما، فنفس المبررات و الطروحات المعارضة لهذا الاخير، يستند عليها المحدثين و بما أن الجمود والانحسار الذي اصاب الفكر الإسلامي انعكس سلبا على الفكر الكلامي، فكان من المستبعد أن يتم الحديث في وقتنا الحالي عن التجديد و الإجتهاد في الفكر الكلامي، في ظل تخلف يلقي بظلاله على كافة مناحي الحياة، وثقافة يغلب عليها طابع التحريم والتقديس، إن غض الطرف عن الاجتهاد في الحقل الكلامي؛ أي "عقلنة العقيدة" سيكرس واقع التبعية والتقليد، لأن ما يحمله المسلمون من تصورات ومعتقدات فهي أساس تصرفاتهم.
و يمثل التيار المعارض بقوة لعلم الكلام دراسة و تجديدا، ما يعرف بالتيار السلفي أو الظاهري فالسمة المميزة لهذا التيار هي التمسك بتقليد و حفظ آراء و فتاوى الرجال الماضين، و غلق باب الإجتهاد في العقيدة و الشريعة و كأن الحياة ساكنة و الزمان يكرر نفسه و يقتصرون على ظاهر النصوص. و يمنعون أية محاولة لعقلنة الفهم العقيدي حسب تعبير الدكتور عبد الجبار الرفاعي[9]، فهم يستندون إلى مقولات بعض علماء السلف في رفضهم لعلم الكلام و الإشتغال به، و إدراج الخوض فيه من المحظورات، دون ربطها بالسياق الذي قيلت فيه، فهم لم يرفضوا علم الكلام لذاته، و إنما رفضوه حين أدركوأنه لم يعد يؤدي وظيفته كما كان، فنأخد مثلا أبو حامد الغزالي، فهو رفض علم الكلام بحسب الرؤية اليونانية لأنها تعارض الرؤية القرآنية، و أبو حنيفة -رحمه الله- حينما نهى ابنه حماد عن الاشتغال بالكلام، فلا يعود نهيه إلى طبيعة الكلام و إنما إلى سوء استخدام المتكلمين للجدل، ثم نجد العوامل التي أدت إلى نشأة علم الكلام، و الفترة الزاهرة لهذا العلم حيث اتسم بالواقعية في تطوره و مواكبته للأحداث و المستجدات و واقعية في منهجه و موضوعه، فمنذ ظهور هذا العلم في ظل الريادة، إلى أن أصابه الإنحسار بعد القرن الخامس كما أصاب الفكر الإسلامي عموما. يظن مناهضوا علم الكلام أن الحديث عن أهمية علم الكلام في حياتنا المعاصرة، هو بعث من جديد للصراعات بين الفرق الكلامية، و إحياء المشكلات الكلامية و يظنون كذلك ان هذا العلم استنفذ غرضه تعريفا و موضوعا. و يرددون كما ذكر ابن خلدون – رحمه الله- أن الملاحدة لم يعد لهم وجود، و بالتالي فعلم الكلام لم تعد الحاجة قائمة إليه.
أقول، لقد اشتدت الحاجة الآن بشكل كبير إلى ضرورة تجديد علم الكلام فالإلحاد ما زال قائما و لكن في ثوب جديد هو العلم و الفلسفات الحديثة التي أصبحت تنافى المقولات الدينية و تطرح شكوكا حول الدين و أصبحت تحديات حضارية و سياسية تواجه المسلمين.
تحتاج منا أن ندحضها و نفنذها بالحجة والبرهان .
خاتمة:
إن أهمية علم الكلام في العصر الحديث، لا يمارى فيه أحد إلا زمرة قليلة من الناس، سيتجاوزها التاريخ، و لذلك فإن ثمة فريق وعى أهمية تجديد هذا العلم و ضرورته في حياة المسلمين، فانبروا بأقلامهم ينظرون و يقعدون لهذا العلم و يزيلون عنه تشوهات و تهافتات المتكلمين السابقين في أفق صياغة علم كلام يستجيب للتحديات المعاصرة؛ خال من أي تعقيد في متناول الجميع للخوض فيه و ممارسته و الإشتغال به للذود عن الإسلام و نشره و تبليغه و إقناع الناس به، بلغة معاصرة سهلة و بسيطة و بمناهج جديدة .
و هذا تيار بدأت تتوسع دائرته يوما بعد يوم تدعو إلى تجديد علم الكلام على كافة المستويات، و ذلك بتعدية مفهومه ليشمل مجالات أخرى، نظرا لظهور كثير من القضايا و الإشكالات المستتعصية. لذلك وجب على المثقفين الدينين العمل على إحياء الفكر الكلامي و الإجتهاد فيه، لتحقيق الشهود الحضاري لأمة ما تزال تعيش واقع التخلف و الجمود الفكري و حالة الإنحسار في كافة الميادين و الصعد.
تداخل علم الكلام مع العلوم الأخرى
يعتبر علم الكلام أصلا لكل العلوم الدينية : و يذهب الإمام أبي حامد الغزالي إلى أن العلوم تنقسم إلى قسمين عقلية و دينية و تنقسم كل من العلوم الدينية و العقلية إلى علوم كلية و أخرى جزئية، و يحتل علم الكلام مركز الصدارة بين العلوم الدينية[10].
ما زال علم الكلام يحتل الريادة و تتداخل بعض مباحثه بعلوم أخرى خاصة مع ولادة العلوم الإنسانية و إضافة إلى ارتباطه الوثيق مع العلوم الشرعية، و يرجع أسباب التداخل إلى عوامل سنقف عند بعضها كما سنعرج عن تجليات هذا التداخل لعلم الكلام مع العلوم الأخرى .
أسباب تداخل علم الكلام مع العلوم الأخرى :
1 ـ شمولية الإسلام و علومه: إن طبيعة الإسلام نفسه و العلوم المرتبطة به تأبى التمييز بين ما هو عقيدي و ما هو عملي، فالإسلام إيمان و عمل و عقيدة و شريعة دين و دنيا.
2 ـ موسوعية علماء الإسلام: عدد كبير من الأقطاب و الأفذاذ في تاريخ العلوم الإسلامية، استطاعوا أن يكونوا موسوعيين في مداركهم العلمية، بحيث يتفوقون في عدة مجالات و علوم، خصوصا في مجال العقيدة و ما يرتبط بها و الفقه و ما يرتبط به، و إذا عدنا إلى تراجم معظم الأفذاذ نجد هذه العبارة تتكرر عند الحديث عنهم؛ أي تراجمهم‘‘(…) الفقيه الأصولي المتكلم (…)‘‘[11]هذين السببين يدلان على أن العلوم الإسلامية حدودها مفتوحة. أما فيما يتعلق بتقاطع علم من العلوم الإسلامية بالعلوم الإنسانية خاصة إذا أخذنا علم الكلام كنموذج نجد ذلك أمرا طبيعيا، و ظاهرة قديمة عرف خلالها علم الكلام تأثرا و تفاعلا بين العلوم التي ظهرت في ذلك العصر و مثال على ذلك التداخل الذي عرفه علم الكلام مع الفلسفة .
أ ـ علم الكلام و الفلسفة :
من أسباب ظهور هذا العلم هو ترجمة كتب الفلاسفة و دخولها رقعة العالم الإسلامي، حيث أصبحت تشكل تهديدا و خطرا يمس عقيدة المسلمين، و نظرا للشكوك التي أثارتها جعلت علماء المسلمين ينكبون على دراسة كتب الفلاسفة. للرد عليهم بالسلاح الذي يستعملونه ، وقد اختلط علم الكلام بفلسفة اليونان وقد ذكر التفتازاني في السياق ذاته أنه:‘‘ لما نقلت الفلسفة إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون حاولوا الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه الشريعة، فخلطوا بالكلام كثيرا من الفلسفة، حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة …لولا اشتماله على السمعيات ‘‘[12] يعني بعض النصوص من آيات و أحاديث، وقد ورد هذا الكلام في معرض الحديث عن سلبيات علم الكلام، و الأضرار التي حصلت نتيجة اختلاطه بالفلسفة، ولكن تبقى الحدود فاصلة بين علم الكلام و الفلسفة، بحيث يختلف علم الكلام عن الفلسفة في أن الكلام خاص بدين معين فهو جدل يدور حول أصول دين بعينه، و لكن الفلسفة تبحث عن الحقيقة على وجه العموم، ومن حيث المنهج نجد أن الكلام يبدأ من مسلمات عقائدية يفترض صحتها أي أن المتكلم يبدأ من قاعدة معترف بها ثم يتلمس الطرق التي تؤدي إلى إثبات هذه القاعدة، أما الفيلسوف فإنه يبدأ من درجة الصفر أي من قواعد المنطق الأساسية والمقدمات البديهية منها إلى النتائج مستخدما منهجا عقليا صرفا [13] . رغم هذه التفرقة؛ فإن البعض يجعل الكلام و الفلسفة متطابقان و متحدان في الكثير من الموضوعات النظرية و العقلانية المحضة .
ب ـ علم الكلام و السياسة :
علم الكلام القديم سجال و حجج و محاجة و رفض و قبول، و الدافع في الحقيقة هو دافع سياسي، فالأشعرية أصبحت هي النظرية السياسية للدولة الأموية السنية، والإمامية أصبحت هي نظرية المقاومة، و الفرق الكلامية في حقيقة الأمر هي الأحزاب السياسية . و الكلام ما هو إلا الإيديولوجية السياسية للفرق . و قد ذهب إلى ذلك المستشار عبد الجواد ياسين في كتابه السلطة في الإسلام " … أن علم الكلام ما هو إلا انزياحا عن مناقشة القضايا السياسية آنئذ بشكل مباشر و جعل المباحث و القضايا الكلامية تعبيرا عن مواقف سياسية ".
علم الكلام و العلوم الشرعية .
يمكن ملاحظة علاقة متبادلة بين علم الكلام و بعض العلوم، و تأثير علم الكلام في هذه العلوم، سواء كان تأثيره مباشرا أو غير مباشر، و هذه العلوم هي أيضا تؤثر في علم الكلام و بما أن علم الكلام انبثق بهدف الدفاع العقلاني عن الدين، فضلا عن طابعه العقلي المحض، يشتمل على طابع نقلي، فإنه بحاجة إلى فهم الكتاب و السنة، و لهذا كانت حاجته إلى علم التفسير و الحديث و الفقه و أصوله و علم الأخلاق .
أ ـ علم الكلام و التفسير :
إن فهم محتوى بعض الآيات و الأحاديث تستند إلى المباحث الكلامية، فإن فهم الآيات القرآنية التي تتناول صفات الباري عز وجل، ومسائل الجبر و الاختيار و الشر و الخير و غيرها. إما غير ممكن أو أنه سيكون غير منقح. وهكذا الأمر بالنسبة إلى" هو الأول والآخر و الظاهر و الباطن" ففهم و تحليل الأول و الظاهر و الآخر و الباطن، يستلزم عقلية ونظرية في إطار علم الكلام[14].
ب- علم الكلام و الحديث :
يعد تفسير القرآن الكريم وجانب من علم الحديث خصوصا ما يتعلق بالأحاديث و شرحها وفهمها، جزءا من علم الكلام فعلم الحديث باعتباره علما يعنى بتمحيص الأحاديث التي بين أيدينا وهل صدرت فعلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟[15].
ج- علم الكلام وأصول الفقه :
بديهي أن نجد في علم أصول الفقه مباحث كلامية، والتي ساعدت الفقهاء في استنباط الأحكام، وقد دعا الكثير من الباحثين إلى تجريد علم أصول الفقه من المباحث الكلامية، وهذا يعكس تلك العلاقة التفاعلية بين العلمين مند ظهور علم أصول الفقه.
د- علم الكلام وعلم الأخلاق :
إذا اعتبرنا الأخلاق النظرية جزءا من علم الأخلاق، فستتضح حاجة علم الكلام إلى مثل هذا العلم. وإن مباحث الحسن و القبح من أهم قضايا علم الكلام، وهي الأساس للكثير من المسائل في هذا العلم، وهكذا فإن علم الكلام يتوقف في الكثير من قضاياه على علم الأخلاق النظرية[16].
علم الكلام والعلوم الإنسانية:
مما لا شك فيه، أن علم الكلام في ثوبه المعاصر وليد العلوم الإنسانية والفلسفة الحديثة، فما عرفته الحضارة الغربية، من تحول فكري وثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي، انعكس ذلك على العالم العربي والإسلامي، ومن الطبيعي أن يترك ذلك الانتشار الواسع والكبير للعلوم في القرون الأخيرة أثرا عميقا في المعتقدات الدينية، فمنذ عصر النهضة و مابعدها، تضاعفت معلوماتنا العلمية حول العالم في مجالات عدة مثل: علم الفلك، علم الأرض، علم الأحياء، الكيمياء، الفيزياء وبصورة عامة عن كل العلوم الإنسانية وغيرها. ومن ناحية أخرى اكتسبت مناهج الدراسات و التحقيقات الدينية اهتماما بارزا في أواخر هذا القرن، لكن من ناحية ثالثة، أوجدت نفس هذه العلوم شبهات وتساؤلات جديدة، خصوصا بعد وجود وانتشار علم الاجتماع، وعلم النفس والتاريخ والظواهراتية، وفلسفة الدين ... و غيرها[17].
علم الكلام و الفلسفة الحديثة :
يرتبط الكلام الجديد بالعلوم الأخرى من جهتين: فهو من جهة يأخذ الإشكالات الجديدة حول الدين، و من جهة ثانية يستفيد في بعض المواقع من أصولها و مناهجها في الرد على هذه الشبهات. و يوجد ارتباط وثيق بين الكلام الجديد و الفلسفات الحديثة و خصوصا الفلسفات المضافة مثل: فلسفة الأخلاق و فلسفة العلم، فلسفة السياسة، فلسفة الحقوق، فلسفة اللغة ، ويعود سبب هذا الارتباط إلى الشبهات الأساسية الموجهة في ذيل هذه الفلسفات إلى كل من الأخلاق الدينية، و مباحث علم المعرفة الدينية، و السياسية الدينية، و الحقوق الدينية ووجود معان للقضايا الدينية، كما ضيقت إلى حد كبير الساحة على الوحي و النصوص الدينية .
كما يرتبط علم الكلام الجديد بالأديان الأخرى، لأن أكثر الانتقادات و الشبهات المعاصرة اتجهت نحو الفلسفة و المسيحية و اليهودية في الغرب، ثم انتقلت إلى بلادنا بصورة واسعة مع أن هذه الانتقادات الأصولية مشتركة بين الأديان جميعها و الإسلام واحد منها . و مع ذلك فإن معرفة المتكلم الإسلامي لهذه الأديان تعطيه القدرة على إدراك ، هل أن هذه الشبهة موجهة إلى الدين كله ؟ أم يعود إلى سبب النقص المشاهد في دين ما ؟ و بما أن الدين الإسلامي خال من أي نقص؛ و هوالدين الكامل، فلا تصدق هذه الشبهات عليه مطلقا[18].
خلاصة
حاصل القول، أن علم الكلام في صيغته القديمة يتضمن الدفاع عن العقيدة بالحجج العقلية، و قد ارتبط ظهوره و نشأته بأحداث سياسية و تطورات اجتماعية ( الخلافة و مسألة القدر ) وعوامل خارجية تتجلى في احتكاك المسلمين بشعوب و حضارات و ديانات و ثقافات أخرى، الشيء الذي حتم على المتكلمين النهوض للحفاظ على سلامة العقائد الإيمانية و إثباتها ودحض الشبهات المثارة حولها. وهذا ما شكل أهم الوظائف لعلم الكلام. وقد تم الدفاع عن عقيدة الإسلام بمنهج عقلي، إضافة إلى الاستناد إلى النقل والاعتماد على الرواية الكتاب و السنة – ونظرا لأهمية هذا العلم و الدور الذي لعبه في فترة أوجه حتى عد من أهم العلوم الإسلامية.
وقد أصطلح على تسميته بعدة أسماء منها علم أصول الدين، علم التوحيد، الفقه الأكبر....
كما هو الشأن لبعض المعارف و العلوم، عرف علم الكلام تراجعا و انحسارا لأسباب عدة.مما جعل البعض من المفكرين في القرون الأخيرة المناداة بتجديد علم الكلام لينهض برسالته كما كان و كانت أولى هذه الصيحات مع مجموعة من المفكرين المصلحين رواد الحركة السلفية أمثال جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، محمد إقبال و آخرون منهم الشهيد مطهري، هبة الدين الشهرستاني و غيرهم على امتداد الوطن الإسلامي . و نظرا للتحديات الجديدة المعقدة، فإن علم الكلام الذي اصطلح عليه بالجديد، اتخذ مفهوما موسعا له، و انضافت له موضوعات و مسائل جديدة عولجت بمناهج و أدوات حديثة، غير أن دعاة تجديد علم الكلام، ما زالت تجابههم تساؤلات يقتضي الحسم فيها، لعل أبرزها ما يتعلق بنطاق تجدد علم الكلام، و قد ظهرت اتجاهات تجديدية لعلم الكلام ساهمت في إغناء الساحة الفكرية، بوضع ملامح علم كلام جديد .
[1] صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام للإمام جلال الدين السيوطي ، 15.
[2] فتح الباري (13/350) نقلا عن كتاب تحريم النظر في كتب الكلام للإمام ابن قدامة المقدسي، تحقيق سعيد دمشقي، ص18-19، دار عالم الكتب الرياض، ط1/ 1410-1990.
[3] مقددمة ابن خلدون ص 108، دارالشعب القاهرة.
[4] - إحياء علوم الدين ، دار الرشاد الحديثة : المجلد 1 ،ص 22 ، الفقرة تحت عنوان : العلم المحمود و المذموم .
[5] -- شرح العقائد النسفية للعلامة سعد الدين التفتزاني : تحقيق د أحمد حجازي السقا / مكتبة الكليات الأزهرية ط1 بمصر :1407ه/1987م. ص 12
[6] - المجادلة الآية. 11
[7] الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة الدكتور علي عبد الفتاح المغربي/ سلسلة دراسات كلامية (1)، الناشر مكتبة وهبة، ط1، 1407-1986، ص107-108، بتصرف.
[8] نفس المرجع ، ص113.
[9] افتتاحية العددان ،16-17 من مجلة الراية الإسلامية المعاصرة، عبد الجبار الرفاعي ، ص8، بتصرف.
[10] المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد الغزالي ، م1، ص6، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، طبعة جديدة رتبها وضبطها محمد عبد السلام الشافي.
[11] استفدت من هاتين النقطتين: أطروحة لنيل دكتوراة "تطور علم الأصول وتأثره بالمباحث الكلامية، للأستاذ عبد السلام بلاجي، ص187-188. كلية الآداب محمد الخامس بالرباط، وحدة المناهج.
[12] سعد الدين التفتزاني ، العقائد النسفية / نقلا عن تحريم النظر في كتب الكلام ، للإمام موفق الدين قدامة المقدسي، تحقيق محمد سعيد دمشقية ، دار عالم الكتب بالرياض /ط1990م-1410ه
[13] تاريخ الفكرالفلسفىفى الاسلام دعلى ابو ريان ص132
[14] حسن حنفي في حوار مع قضايا إسلامية معاصرة، العدد 14/1422-2001، ص41.
[15] نفس المرجع، ص74-75، حوار مع صادق لارجالي ومصطفى مليكان.
[16] نفس المرجع السابق، ص74-75.
[17] مجلة المنطلق، العدد119، ص50.
[18] نفس المرجع السابق، ص51-52.
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1568 السبت 06 /11 /2010)