قضايا وآراء

الأنظمة الاشارية للنص .. حِوَار بَيْنَ نحن وأخرنا المهمش / سمر محفوض

 بالسؤال بشغف كما يكتب الموج أزمنته، حتى أخر قطرة ملح من المشهد العميق بما يشبه الحياة بعيدا عن الضجيج لوقت قابل للرفض والقبول بكل الكلمات الطيبة، أما المسافة التأملية المتاحة فهي محاولة للوصول إلى تكوين مركز ومتقد لفكرة أو لحالة حين تتعطل الخبرة المعرفية وتفشل في الوصول إلى تركيبات إدراكية مألوفة لديها فتتكون جملة روابط حسية ذهنية مناسبة متوافقة ومتآلفة مع الهواجس الداخلية (المخزون المعرفي والخبرة في التعاطي). والتي يلجأ المبدع في هذه الحالة إلى خرق نظامها أي دور المفكك غير الموضوعي لتحقيق أنماط جديدة ومتناغمة من التوازن الممتع أدواته. لذلك على سبيل الربط لا الحصر الانفتاح وقابلية الحركة- الانعكاس والانزياح- الاحتواء- الإحالة- المطابقة- النزق

- الانفتاح وقابلية الحركة – الشعر الحر. ذو اتصال واضح بكل التأثيرات مباشرة، على أن تستطيع فهمه وتقبُّله، وبما أن غالبية نشاطاتنا مهارب فعلية إذ ذاك فإن الاهتمام المتنامي تجاه أي جديد لا بدَّ أن يتفعَّل. ونخضعه للشك والترقب. ولنلتقط منا سورة النشاط أي الشعر الحر. وهو الذي لا يريد أن يحدث في مكان ما وتحت شرط ما... انه يريد ببساطة أن يحدث فحسب) فهو آني على غرار الجبلة / البلازما / وليس له هدف في بقاء أو خلود وليس له نهاية. ليس له كيان محدد أو مغر للذين يؤثرون الثابت فليس له ذلك الكيان السكوني. بل هو آني سريع ومتطور، وأنا أجد أنه أي الشكل الجديد للشعر وأعني قصيدة النثر تحديدا هي الخلاص للأدب العربي .. لأنها تحتوي مشروعها المنفتح على الداخل والمتصالح مع الخارج تكتب برحابة، وحب واختزال تجربة الشعر العربي ولغته لما فيها من تعدد الأدوار تطالب أن يكون قارئها جادا مثلها ليكتشف عالمها ويصبح جزءا منه. نقرأ في قصيدة بول شاؤول المأخوذة من ديوانه بلا أثر يذكر 2009-

(النفير الصامت المهيب المخيف لا يدرك خطاه فقط بل يحرك عينيه أيضا)

ثم يرى (جبالاً من الأجسام حطت عليه) لكن هل تنتهي  القراءة الداخلية لما بعد النثري عند هذا الحد، وأين المتلقي من معادلة نص/ تلقي - كفن أدبي يفرض ذاته بقوة وجدارة من خلال شعرائه الذين لكل منهم هندسة خاصة في النص شكلاً ومضمونا.

- الانعكاس والانزياح -

في قصائد عباس بيضون من ديوان " بطاقة لشخصين " الديوان الأخير للشاعر نقرأ قصيدة نشرتها صحيفة "الصباح"- العراقية،  يقول فيها:

أي يد تستمرىء القتل؟

بتلك البشاعة؟

اي قلب تصدّأ؟

يشعل النيران

فى سنبل القمح

قطافه انتظار

هو القلب

مستودع الرحمة

واناء المحبة

هو أول

خافق بالأرض

العاشق الأبدي

للحياة

هنا بيضون يقع فنيا على حافة السرد الحكائي، نتابع هذه التقنية المدهشة في إدارة حركة اللغة على خطوطها وفي الظهور المفاجئين ضمن عاديتها وقوة أحكامها يتحرك بيضون ويشارك بالأفعال والتأثير في تشكيل عالمها الداخلي وكيف ينعكس النص على مرآة نفسه ففي اللحظة التي يشترط النص متلقيه، سيتحول المتلقي إلى طرف محاكمة النص من خلال موضعته معرفيا في إطار ابستمي يمثل انزياحا عن الخط تتقاطع الاشتراطات أو الجذر الذي ينطلق منه النص والمتلقي عبر أدوات أبلغها الخلفية المعتمدة لصياغة الفكر ذات المصدر عباس بيضون

أي يد شيطانية

تحيل الورود رماد؟

تصبغ المآقي

بالخوف والهلع

وأنت جالس هنا

تصارع

اللاحول واللاقوة

تنقر أصابعك

على الطاولة

دون وعيك

واقفا ترى

انعكاس ظلك

تنعم الأشياء كلها فيه بالحياة فالوعي والنقر، وهو صوت له حضور مساو لحضور الإنسان فهو حي وواع وهكذا تستمر لعبة التقنية الفنية البارعة - التي لا تقدر أن تفلت منها إلا بقراءة القصيدة كلها - أما موضوعه فهو ذات الموضوع في عالم الأحياء - الولادة والموت والحياة والعذاب والخطايا والخسران، حيث الذخيرة المعرفية للمتلقي تشكل معيارا للتصنيف، مما يسمح لنا بإعادة النظر في مجموعة من المفاهيم لصالح النثرية التي تمثل قوة تجذب كل شيء لتبني منه عالمها الأخاذ. - وديع سعادة على بعد خطوة

 

بضربةِ سكّينٍ حاد

ربما ينشطر الغشاء هذه المرَّة

وتخرج الخيولُ من دمي

العروقُ مستلقية كجريمةٍ مهمَلَة

وعلى بُعد خطوة

انزلاق بسيط يمكن أن يُحدثَ المعجزات

فالمعجزات

زلَّة قدم.

- المعجزات زلة قدم  كأنه يحركنا بفكرته أو بضربة السكين يشطر خيول نزقه ويخرجها من دمه،  محولا طاقته إلى تيار. نمط الظاهرة هذا يتجلى في ابتكار طريقة الاستنتاج ليقارن عالمه الذاتي / ربما ينشطر الغشاء هذه المرَّة / مع  الخارج مساهما بصياغة المفهوم المعبر / انزلاق بسيط يمكن أن يُحدثَ المعجزات /

الإحالة- لا تستطيع أن تشرح الشعر إلا بكلام قريب منه لأنه يحيل  الى الخارج، ثمة اختلاف ما في موضوع عالم القصيدة ومحاكاتها على بعضها ..الإنسان فيها مهدد وأعزل مضغوط وسط أشيائه الحية والواعية ضمن ثلاثية (الغياب- الآن- الوجود) في عالم القصيدة تحيا وتتحرك كأنها تعي ذاتها

كما مع انسي الحاج

 

خواتيم

 

تتجنّب الحبّ حتى لا تصل بَعده إلى البغض.

تتجنّب البغض حتى لا تصل إلى اللامبالاة.

تتجنّب اللامبالاة حتى لا تصل إلى الحبّ.

تتجنّب الحبّ حتى لا تقع وراءه في القَفْر...

أنت كيفما درتَ خرابُ ما قَبْلَه، أو ذكرى نَفْسك.

موجةُ حركةٍ عمياء،

وصدى موجة...

 

مع انسي الحاج الخطاب الميتافيزيقي  ينتج خطابا فيزيقيا او واقعيا  وكلاهما عبر الماهية يضيقان على تفسير النص وتداوله  وكشف العلاقات الوشائجية  بين انساقه عبر مزج ماهو مدرك بما هو خارج اللسانيات كأسلوب لإفضاء هنا هو يبحث عن إجابات ل / تتجنّب اللامبالاة حتى لا تصل إلى الحبّ / تتجنّب الحبّ حتى لا تقع وراءه في القَفْر../ ينشد خلاصا عبر المفارقة والإحالة الأنيقة ب / تتجنّب الحبّ حتى لا تصل بَعده إلى البغض./ الصورة المعكوسة التي يعيد انتاجها / أنت كيفما درتَ خرابُ ما قَبْلَه، أو ذكرى نَفْسك /  تحيلنا الى لهف المتابعة ليعيد تثوير نثره على مستوى الصورة هو وارث هدم  ينتهك الطقس الشعري ليستفيد المنجز بدليل انزياحاته ومطابقته للفظ اليومي عبر سياقاته المتنوعة أسلوبه الانتقائي للحالة يأتي بعيدا عن المنهج، يتخذ من الإحالة شكل انفجاري متتابع بحركية دافقة لا منتهية، وهي تطير إلى الكون وتغوص إلى جزئية العنصر. بايقاع انفعالي حيوي لدراماتيك الاصطدام بغير مع انسي الحاج الاحتواء قيمة والنتيجة ليست نهائية كنموذج لا يمكنه احتواء الواقع بالطبع لأنه ليس صورته وهو لا يمكنه ان يكون غير قابل للتحقيق لان اعتباطية الخطاب بمدلوله الاستنساخي/ أنت كيفما درتَ خرابُ ما قَبْلَه / أو ذكرى نَفْسك. / موجةُ حركةٍ عمياء،/ وصدى موجة.../ لا يمكنه ان يحقق نصيا لان الأداة التي يعتمدها النص المابعد نثري في إحالاته، هي اللفظة واللفظة لا يمكنها أن تنقل  الواقع، بل تشير اليه، ومن هنا العلاقة التي يقيمها النص معنا لا تتحقق في ضوء القبول والرفض حيث يمثل صورة ذهنية مختزلة لواقعات أخرى، - ثابت ساكن كأنه فوتوغرافي أو متحرك أبعد مدى وأكثر حركة كمتخيل يصاحبه ارتباط شرطي بالمتخيل - وهي مسألة تذوق وإحساس قد يصل أو قد لايتم التوصيل  بقياس درجة حرارة اللفظ تعبيراً، والمبالغات والمطابقات اللفظية.

وديع سعادة / الرغبة نقاءٌ مالح / مرايا عاريةُ الظهر/ عشبةُ التجاويف / قريةُ ميّتة في فمي./- ليس للمساء إخوة -2

 من تكون القصيدة أو النص أو الشكل، تلك الأسئلة التي يجيب عليها النص مع مداراته طالما وجد المبدع أنه خارج ترصدها، تبدأ تكوينات النص من التأملي والبكر والمجنون داخل اختراقاتها وأسئلتها كشرط يمارس المطابقة مع الواقع العجائبي بدءاً من العنوان دون أن يدعيها.

وديع سعادة ليس للمساء إخوة -2 - مرحلة أولى

مرحلة أولى

كيف يكون هذا الشوق

كضفدعٍ خارجَ بحيرته؟

كيف هذا النهارُ رمادٌ في السماء؟

وهذه العاصفة في الرأس كيف لا تحرّك غصنًا؟

ما فائدةُ الوثوب إلى الغابات

وإطعام الغزالة النحيلة

حين تسقط عصافيرُ الدهشة

كخشبةٍ من بناية قديمة؟

أنا النموُّ الاسودُ تحت الأبراج

والحيواناتُ الكونيّة ترعاني

نؤكد مبدئيا هنا أن  قصيدة وديع سعادة، أو خطواته  مقدمات لحالة اكبر ستلي وهذا ليس اكتشافا بل  تشكيل محصلة  وإرهاصات تقود  إلى الواقع بمدارات دماراته ...وقسوته... ودخانة حيث يمكن للمدلولات / كيف / الشوق / وإطعام الغزالة النحيلة / أنا النموُّ الاسودُ / أن تتحول الى  ما يشاء هو حيث يثبت نظره دفعة واحدة الى نوافذه المفتوحة على  الكون، يترك فيك فجأة شرخاً كبيراً دون أن تمتلك قدرة التحدي أو الرفض وهل هناك أقوى من هذا الكابوس يريدنا أن نتعرى أمام لفظته وننظر في مرآته - حيث إن صحة التركيب يؤدي إلى أداء المعنى أداء صحيحا،  وفساد التراكيب يؤدي لفساد المعنى، وفصاحة اللفظ وحده لا يكفي لتكون العبارة كاملة،  فلا بد ان تتحقق للعبارة شروط معينة إضافة للفظ ذات المصدر أعلاه – وديع سعادة-

 هؤلاء الّذين يتوقون العودة

وليس لهم قطار

ولا نجمة

ولا حتّى صرصار في طريقهم يغنّي،

الّذين كّرتْ كنزةُ أحلامهم

استطاع هنا أن ينقل لنا إحساس وعطالة الغربة، أن ينقل ملامحنا جميعا وأن يرفع إصبعه وتشتتنا، وضياعنا رفضا بوجه العالم والزمن الذي يعرينا من قمصان الحلم دون ادعاء، ولا بادرة أمل كاذب في هذا السواد الرهيب الذي لا يبتعد عنا كثيرا..؟ تلك هي أيضا أسئلة الشعر التي لم تنس دمها خارج منطقة الكتابة أبداً حيث – المطابقة - التي يصعب حصرها ولكن ليس مستحيلا، إذا تم للمتلقي أن يعي حركتها وهذا مخالف للقياس هنا فهو مبني على التنافر وعدم التآلف أي تحليل اللفظ بين تراكيب ومعنى في ضوء فرضية ضبط بنية النص الداخلية أي يقرأ النص نفسه بمعنى أنه يفكك العالم المرجعي من منظوره انطلاقا من الخلفية الثقافية للكاتب الضمني، ومن هنا يُسمح لنا أن نتساءل عن جدوى هذا النوع من المقاربات أمراً ممكنا بكل أداة معيارية، ضمن النص النثري من خلال الإمكانات التأويلية المحتملة كونها تسعف النص وترصد البنية التركيبية المتحكمة به كتحليل محايث لما يقوله النص كما مع الشاعر المصري محمود قرني

العابر

معذرة أيها العابر

إن لم استطع أن أحييك

بما يناسب تلك المهابة،

فليس لدي قبعة

أرفعها من أجلك

ويداي مشغولتان ـ كما تري ـ

بتسوية اشياء

ربما تراها تافهة

لتسمح لي أولا

ألا أضفي عليك من الألقاب

ما لا أعرفه عنك

ومن جانبك

أرجوك

لا تدفعني للتملق والنفاق

ثمة باستمرار، مايمكن تسميته هاجس النزق والمطابقة اليومية للأشياء ببساطتها والقلق المضاء لدى الشاعر من الداخل والكلية التي يعيشها حين نستقرئ الفكرة التي تشغله وهو غير مهتم قليلا او كثيرا بما قد نتوقع / ويداي مشغولتان ـ كما تري ـبتسوية اشياء / ربما تراها تافهة / لتسمح لي أولا / من خلال المسافات التي لا يفصح عنها النص والتي لا تعبر عنها اللغة بل الحالة الشعورية على امتداد النزق ومطابقته للمعيوش الذي هو التجربة هنا او ملخصها دون أن نحصي المفردات التي تعبر عته وتعيده إلى أجزائه المتناهية الدقة  لنعيشه بكليته في الروح والجسد وهل هو قابل مشروعا لتحقيق النثرية وما بعدها.

 

- النزق - نحن لسنا في زمن الوحي ولا نتحرك في محيطه هو تجل فردي من ضمن تجليات فنية مشتركة وكلية ممكنة تختلف صيغها باختلاف إنتاجها، ما هو إذن المنهج الملائم لحلول النص في شموليته ونزقيته  كصوره ممكنة لهذا العالم بالاعتماد على استنطاقه تأويليا وشكلانيا، لا يخضع بالضرورة لتطويقه كما أشار الباحث الهام - ادوار سعيد - الذي يعد أحد أهم النقاد الذين فتحو النص الأدبي على تصورات منهجية قائمة على علم الاستشراف، يستخدم العادي والغرائبي معا / دون أن ينتمي إلى أي منهما وهذا يخرج عن كل المفاهيم والمدارس النقدية من وجهة نظري هي رؤية لم تستقر بعد على تصورات إجرائية يمكن أن يتعامل مع النص من خلالها، وفق نظرية الغرائبي على حساب المتوقع أو المعتاد وبالعكس كما هنا أيضا مع الشاعر العراقي الجميل والمتشرد الرائع  عقيل علي دم نيّيء».

 

دم نيّيء

بدلَ الوداع،  حمائم غافيةٌ على أسلاك الليل

بدلَ الجسد

هذا الغياب المجوّع

الثلج ينفصل عن ثوب العتبة

كذلك العوسج الغافي في برودة الهواء.

فمكَ أمام المرآة يقف

مدلّى في الكلام

ونومكَ الجميل

يرسمه النّهد العادل

بلا ظلّ

تحت ظل الاشجار المعكوسة في الملح

وفي نقاوة الخبز

بلا فساد أرسمكَ أيّها الوفيّ

هو الذي يخلق إيقاعات النص ويشير الى هيكلها الروحي موحيا بالعزل بين مختلف لحظاته لايكتفي بالتشكيل الزمني لللا ظل بل يكون أيضا فاعلا في إيقاع النص بلا فساد أرسمك، وكما البدء يشعرنا بنزق اللغة  وتحطمنا ويقظتنا والتأرجح بالنقص خلال الفراغ وتجاربنا المتفاوتة نقصا وكمالا،  كعرض لمؤشرات واقع يرفض التغير جملة وتفصيلا. النص مع عقيل علي،  يمدنا بعالم داخلي من كبت تحت قناطير الهم، مصنوع بمهارة حيث الكائن فيه يتفتت على نحو مرعب بنزقه ثم يعيد خلق نفسه أيضا. الأشياء من حوله تشاركه هذ التفتت والإعادة ذاتها -مستخدما ما حوله من بانوراما كونية / هذا الغياب المجوّع / فمكَ أمام المرآة يقف / بلا فساد أرسمكَ أيّها الوفيّ / الثلج ينفصل عن ثوب العتبة / دم نيّيء،/ يأتي بها محيطة من تشابك في الشكل وتراكب بالأصوات ليبني بها عالم النص. لا يغــفل ذاته في فجيعة قادمة، وموت قادم، أنجزه هو بنفسه،  لا القدر.. يرى ( ماكنتر) أن الطريقة الوحيدة للوصول الى معنى بالنسبة لنا هي ان نضع الفكرة  في سياق - ما سردي- من حيث كونه يحدث وفق تسلسل زمني  معين وبهذا الشكل تتشابه بنية أي فعل إنساني يحدث بالزمان والمكان مع الذات التي أوجدته أي  تشكيل الهوية، التي هي من وظائف اللغة وطبقا لرؤية سوسير فإن التفكير كتلة عديمة الشكل ويتم ترتيبها بواسطة اللغة وبالانتقال الى الحقل الابيقوري اللغوي فقد عمل المذهب الابيقوري، والذي هو في الواقع مذهب ابن سينا نفسه على جعل اللغة  شيئا دون ثقل، ترف فوق الأشياء كغيمة اللغة حقل من نبضات، لكن هنا لغة المبدع الشاعر الذي يعارض اتجاهه المخالف بالأدب باعتبار ذلك قدرة وميزة أيضا / النثر ومابعد الكتابة / لغة حرة ومتخلصة من رعب المنجز وعبئه ضمن ابتكار عالم لغوي يمنح الحرية  للمبدع وللأشياء الصامتة التي حوله ان تفعل مثله أيضاً. وإذا كانت استجابتنا لتحدٍّ ما مشروطة،  فهي بالتالي محدودة ناقصة،  إذاً فإن ذلك التحدي سيخلِّف أثره، تراكماته / نفاياته التي تتعزز أكثر بتحدٍّ جديد آخر؟ هناك إذاً ذاكرة نفاياتية دائمة، تراكمات، ندوب، وبكل هذه الندوب نحاول أن نلاقي الجديد، وبالتالي لا نتلاقى مع الجديد الذي يجري تحويلا في الوعي وفي اللاوعي، فتتغير اللحظة  لتتم عملية الامحاء بالشعر ضمن الذاكرة في عدم الفصل بين الذي كان والذي ماكان كحسٍ كامنٍ متمدد متحول من شكله الشرطي الضاغط، الى النقد والحوار والمداخلات المفتوحة ينبني على تكثيف الاتصال بين إفراده وانفتاحيته، وهذه ليست مسألة كمية وحسب، بل تثقيلية بعيدا عن طرح الظواهر المتطرفة كبديل لمشروع يشكل حياة ثقافية قائمة حقاً،  وليس مفترضة أو كامنة،  حياة بحركياتها وتفاعلاتها ومشكلاتها جديدة ليست من ابتكارات القول الناقص بل هي رؤية أشد تكثيفاً للعالم المعاش كشفت المسكوت عنه كتابة في الدائرة المحايثة للتلقي كلما زاد الخوف وضاقت مساحة الكلام في الخارج ازداد عالم القصيدة اتساعا.

 بمعنى ترك الذهنَ يستجمع المقولة بمفرده حين تبلغ تلك النقطةَ التي تسمح فيها حقًّا أن تكون كما أنت بدون ذهنية مسبقة للتقبل أو للتذوق. ماذا يحدث حين تتقبل شيئًا ما، حين تتقبل أنكَ ما أنت، أين المشكلة؟ ثمة مشكلة فقط حين لا نتقبل شيئًا ما كما هو، فنتمنى تحويله، وهي منطقة خطرة من الإبداع كشعرية نثرية تعتمد الإحالة أحيانا أوالتأويل لتوليد المُناوأة. كما يحدث مع فتحي عبدالله

 

أثر البكاء

 

الملاك الحارس

يملؤك الفرح الآن

يا صديقي العزيز

وهم يأخذونك من وراء

الأشجار والمياه

لتعرض أسنانك البيضاء

أمام الملاكمين

وهم يلهثون في ذهول

ربما يموت دون أن نأخذ

ذرة من هوائه الكبير

ودون أن تمر جثته

على الملاك الذي يحرس

السجون

فقد أخذت رائحته

الأطراف والعيون

من النوم

لحيته البيضاء حنان زائد

عن الحد

وأمومة لجناحين سوداوين

ترى الجنازات في الشوارع

والحدائق

بينما أصحاب الرؤوس الحليقة

يحملون المحفات

والجثث إلى الطائرات

ويصرخون في النهار

كالأرامل

لابد أنه راجع من شمال

البلاد

نلاحظ انها ذاكرة عاشت هلوسات  الماضي والنهوض الفكري فما هي صورة الواقع  اين بدأت الأحلام واين انتهت، ثم ما شكلها في  ذهن المبدع الشاعر هنا / تحي عبد الله / في كأثر للبكاء قبل كل شيء لابد من ملاحظة  المشهد البيئوي/ وهم يأخذونك من وراء / الأشجار والمياه / لتعرض أسنانك البيضاء / أمام الملاكمين/ الذي يرسمه عبد الله ببراعة  تشكيلي من طراز عالٍ يخطه بضمير المتكلم وينتقل من حدث / يملؤك الفرح الآن / إلى ما حدث  ويحدث ويتوقع حدوثه / وهم يلهثون في ذهول/ ربما يموت دون أن نأخذ / ذرة من هوائه الكبير/ ودون أن تمر جثته / علي الملاك الذي يحرس السجون// ويتعدى على الماضي والحاضر والمستقبل دون أن يجعل نصه منتمياً الى تيار الوعي بتاتا / لحيته البيضاء حنان زائد / عن الحد / وأمومة لجناحين سوداوين / ترى الجنازات في الشوارع / والحدائق/

  ففي أي وقت إذاً يمكننا أن نستعيد ما جرى له  كما إحدى الجمل التنبيهيه المربكة هنا / لابد أنه راجع من شمال/البلاد /

لا ياتي الشعر الا ليكون كل ما يحيطه مشغولا به هذا الأرق المتمثل بالبنية الإبداعية وانزياحاتها ستبدو في تضاعيف النص عبر انعكاسها على معطياته فارضةً نفسها سطحاً وقاعا كعنصر فاعل في تطوير الإشارة  حيث الحقيقي والاشراقي يتشوشان أمام العلامة التي تضيء أكثر من إشارة الى المعنى للتعبير عما يعجز التعبير عنه تنبض بالتصوير والرمز والإيحاء المنتمي إلى فن التعبير بالكلمة على اختلاف القوالب الإبداعية والمناخات الداخلية لتكون الشعرية وجوداً متماسكاً فعالاً،  له نكهة ومزاج مميز مشروط ببداهة الإبداع وتسامي تجربته لا لكي يؤبد لحظته على الأرض أو يستعيد خيط الروح المقطوع فقط بل يحاول أكثر من هذا حين يتوحد في صورته الماضي والحاضر والمستقبل وأسئلة الكون مما يجعل كل نص شعري عالم حقيقي محمل بلحظة التكثيف وبؤرة توتر مشحون بالحياة وهواجسها التي تكمل اختلاف الشعر نوعياً عما سبق فالعلاقة هنا مع لغة الإحساس ولغة التعبير تجاوبا مع طبيعة الحياة المتجددة التي يخوضها الشعر والعالم حاليا والمستقبلية التي يتهيأ لها لصالح الإبداع والسلام الكوني.

 

......................

*فصل من كتاب حول هوية الابداع النثر نموذجا- يتم العمل عليه

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1571 الثلاثاء 09 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم