قضايا وآراء

راهنية الفلسفة العربية الإسلامية

 

استهلال:

هناك ضرورة في أن نجعل من جديد من التفلسف في حضارة اقرأ أمرا جديا وثمة لزومية وجودية في أن نعيد الاعتبار إلى فصل المقال ونتذكر طبقات العارفين ومقاباسات الأدباء ومناظرات العلماء لاسيما وأن أي إنسان بإمكانه أن يحرز على مقدار من الفلسفة لمجرد تملكه المقياس المناسب لذلك في عقله وتدبره للقرآن وما فيه من آيات وإعجاز وبيان، ولعل خير الأمور التي نطلق فيها العنان للتساؤل الفلسفي هو تفقد أروقة الذات والانتباه إلى مصير تجربة التفلسف بلغة الضاد والتفكير في طبيعة الفعل الفلسفي الذي مارسه عارفو الإسلام وحكماء العرب.

والحق أنهم أدركوا شرف الفلسفة وعظموا أنمرها ورفعوها إلى مرتبة الملة أو تفوق وأعجبوا أيما إعجاب بحكمة الإغريق وجعلوا من سقراط نبي الفلسفة وشهيد الحكمة ومن أفلاطون الحكيم الإلهي ومن أرسطو المعلم الأول وأقبلوا على تعلمها وتعليمها وحاولوا تقديم الإضافة في ميدانها لغة ومنهجا وإشكالا.

وكان لفظ "فلسفة "philosophie يعني من حيث وضعه الأول عند الإغريق ومن حيث نقله المترجمون العرب الأول : حب الحكمة وهو مصطلح مركب من كلمتين "philo ": محبة وsophos : حكمة. وعلى هذا النحو كانت غاية الفيلسوف حب الحكمة وإيثار الحق والبحث عن الحقيقة واستخلاص المعنى والرغبة في المعرفة وتشريع القيمة. غير أن البعض تصرف في هذا المعنى اللغوي وأصبح المقصود منه الجدل لذات الجدل ولاسيما عند السفسطائيين الذين خرجوا بالفلسفة غلى دائرة المنطق والحقيقة ولم تعد حكمة لذات الحكمة أو حبا فيها بل ألاعيب لفظية وتأملات فارغة واعتقادات مذهبية في بعض القواعد المدرسانية، فخرجت الفلسفة في بعض مراحلها عن غايتها في تحرير العقول وتهذيب النفس لتصبح أداة في خدمة المنفعة وأداة لتبرير السلطة.

 أما عن المعنى الاصطلاحي فإنه قد مر بعدة أدوار ومازال إلى الآن غير ثابت على حد نهائي وغير مستقر على مفهوم واحد كأن الفلسفة تشير بذلك إلى جورها الأصيل ألا وهو النقد والنفي والتجاوز والتمرد الدائم الذي تتميز بها من حيث مناهجها ومن حيث قضاياها ومن حيث مصادرها ومعاييرها في الحكم والتقويم . ومن هذا المنطلق فإننا لا نشعر مع الفلسفة براحة الاستقرار ولا نحس بسعادة نقطة مادام الوعي الفلسفي في إقبال وإدبار متواصلين . ولا مندوحة من أن البحث عن الحقيقة هو القاسم في جميع أدوارها والجامع في كل أنساقها، وإذا أمعنا النظر في هذا التعريف يتضح لنا أنه معنى من معاني محبة الحكمة لأن الدافع إلى البحث عادة ما يحفز الباحث إلى معرفة نفسه ومعرفة ما حوله من الوجود والمشاركة في قضايا عصره فهما تبريرا أو تأويلا وتغييرا وكل هذه الخصائص والمواقف هي من غايات الحكمة ومقاصدها .  

غني عن البيان أن الحديث عن الفلسفة هو حديث عن العقل وهذا ليس فقط لأن العقل هو واحد من المداخل المؤدية إلى التفكير الفلسفي بل لأن ممارسة فعل التفكير الفلسفي ذاته هو من بعيد أو من قريب ممارسة عقلية نقدية حرة، وبهذه الصفة عندما يدرس العقل ما حوله من قضايا الوجود يعلم بأنه يؤدي وظيفة التفلسف ويشعر بأن الفلسفة تمنحه حريته في مباشرة التفكر في ذاته وفي الأشياء المحيطة به.

أعطيت الفلسفة منذ اللحظة المتقدمة في التشكل في حضارة اقرأ الأولوية على سائر الرؤى والمعارف الأخرى لاسيما وأن اللوغوس يقطع مع الميتوس وأن الرجوع يكون إلى العقل عندما يتناقض مع النقل بل إن "الفلسفة بالجملة تتقدم الملة على مثال ما يتقدم بالزمان المستعمل للآلات الآلات..."[2]  

كما أن إبداع المفاهيم دائمة الجدة هو موضوع الفلسفة العربية منذ الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وأن هذه مفاهيم الجوهر والماهية وواجب الوجود والعقل الفعال والممكن والهيولى والعناصر والملة والتدبير والتعقل والإنصاف والصداقة والرئاسة والناموس والسعادة والعدالة والعمران والأفعال الإرادية كانت بحاجة إلى أصدقاء الحكمة ونوابت ومتوحدين من أوتاد الأرض يخوضون تجارب صراع وتنافس مع دعاة العقائد الجامدة وأصحاب الآراء المتهافتة من منكري النور من أجل الفوز بهذه الحكمة، لذلك لم يقيم الفيلسوف الملي في كوكب خاص به بل هو راغب ومنافس ينطوي على نزوع نحو نقد الواقع ويغامر بحياته بخوضه في قضايا السياسة والتفكير في مشاكل المجتمع ويستطلع وجهة الحضارة التي ينتمي إليها ويحيط بواقع ثقافته. فهل كانت الفلسفة معجزة إغريقية؟ وهل اليونان هم فقط اختصوا بلقب فلاسفة؟ وهل كان الحكماء العرب مجرد مقلدين لهم؟ فماهي مصادر فلسفة الضاد إذن إن لم يكن تراث الإغريق؟ وهل هي فلتات الطبع وخطرات الفكر عند العرب أم كلام الوحي في القضاء والقدر؟ والى أي مدى يجوز لنا أن نقول أن معظم الأفكار الفلسفية للمسلمين مأخوذة من النبواة؟

إذا كان الإغريق قد أكدوا موت الشيخ الحكيم واستعاضوا عنه بالفلاسفة فإن الفيلسوف العربي قد أعاد الاعتبار إلى الشيخ الحكيم القادم من الشرق وبذلك بالمراوحة بين التأويل عن طريق الصورة والرمز والقصص والتفكير عن طريق المفهوم الموقع للنصوص والمدون للتراث الموصول. علاوة على أن عاشق الحكمة العربي ما انفك يصحح أفكاره بنفسه ويراجع مقولاته منصتا إلى عبر التاريخ ودروس الواقع، ولعل أهم الأفكار التي كانت محل تطوير مستمر وتعديل دائم هي فكرة الفلسفة نفسها عن ذاتها. لكن كيف طوعت لغة الضاد العرب أنفسهم حتى يشرعوا في خوض تجربة التفلسف؟ وهل كفوا عن أن يكونوا إغريقيين ؟ ما قيمة التعريف الذي قدمه الإغريق عن الفلسفة ؟ هل مازال للآراء حكماء العرب حول نظرية الفيض والصور الروحانية والمدينة الفاضلة وقصصهم عن كليلة ودمنة وحي ابن يقظان أية قيمة فلسفية في زمن ما بعد المجتمع الصناعي ولحظة ما بعد المنعرج اللغوي؟

 

1- الفلسفة الأولى عند الكندي:

"الواحد المحض هو علة الأشياء كلها وليس كشيء من الأشياء بل هو بدء الشيء وليس هو الأشياء، بل الأشياء كلها فيه وليس هو في شيء من الأشياء...فلما كان واحدا محضا انبجست منه الأشياء كلها...إن الواحد المحض هو فوق التمام والكمال."[3]

كان العرب على بينة أن التحديدات الإغريقية للفلسفة هي مجرد مواضعات ولذلك عملوا على الاستفادة منها واستيعابها وعلى نقدها وتجاوزها لأن هذه الرؤى هي مجرد اجتهادات عقلية ويمكن للمرء أن يقبلها أو أن يرفضها في سبيل إبداع تحديدات مغايرة أكثر قرب من واقعههم الحضاري ومواءمة مع زمانية وجودهم، في هذا السياق نجد في كتاب ماهي الفلسفة ما يلي:" أن نعرف أنفسنا بأنفسنا - تعلم التفكير- وأن نعلم الموجود بما هو موجود. وأن ننظر إلى الوجود نظرة شمولية تشكل هذه التحديدات بالنسبة للفلسفة مع التحديدات أخرى كثيرة مواقف مفيدة ولكنها لا تشكل انشغالا في منتهى التحديد لأنها تبعث مع المرور الوقت على الملل وتبدو كلها منجذبة إلى الكلي والعام والمطلق"[4].

إذا تدبرنا تلقى العرب للفلسفة الإغريقية وتملكهم لحدها ومفاهيمها نستنتج أنهم فندوا النظرية التي تجعل الفلسفة توقيعا إغريقيا فقط وسعوا إلى كسر المنطق اليوناني وحاولوا الخروج من الكوسموس الأرسطي نحو تصور للكون أكثر انفتاحا وملائما للأفكار التي جاء بها القرآن والشعر الجاهلي. وبالرغم من أنهم اكتفوا تعريب الكلمة كماهي دون أي تغيير واهتموا بالنقل والترجمة للكتب والرسائل والمناظرات الإغريقية التي جاءتهم عن طريق اللغات الشرقية مثل السريالية وكانوا في ذلك مقلدين من جهة حد الفلسفة فإنهم طلبوا الخلق والإبداع من جهة تشغيلهم لفلسفة الحد واستثمارهم لما تختزنه لغة الضاد من طاقة رمزية وحاولوا تطبيق المنهاج القرآني على أرض الواقع في حضارة اقرأ لإبداع المفاهيم الخاص بهم، فكيف كان لهم ذلك ؟ وإلى أي مدى كان ما نقلوه وجيها من الناحية الفلسفية؟ فهل مثلث الترجمة عائقا أمام فهم العرب لمعنى الفلسفة كما أبدعها اليونان؟

لقد تحسس العرب عند ملامستهم للنصوص الأعجمية صعوبة الترجمة واستعصاء النقل من لغات أجنبية إلى لغة الضاد، إذ صرح الغزالي ما يلي :"المترجمون لكلام أرسطاليس لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل حتى أثار ذلك نزاعا بينهم وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام الفارابي أبو نصر وابن سينا "[5]، ونفس الموقف عبر عنه أبو حيان التوحيدي المتوفى سنة 1009 في كتاب المقابسات بقوله:"على أن الترجمة من لغة اليونان إلى العبرانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العبرية قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق إخلالا لا يخفي على أحد ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع وتصرفها الواسع وافتنانها المعجز وسعتها المشهورة لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوائب وكاملة بلا نقص ولو كانا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضا ناقعا للغليل وناهجا للسبيل ومبلغا للحد المطلوب".

 بيد أن تعلقت همة العرب بما وراء العرش وطلبهم للعلم من المهد إلى اللحد وولعهم بالمعرفة من أين أتت جعلتهم ينالون الحكمة العظمى ويفوزون بالسعادة الباقية وهي التنعم بمجاورة الحق ومصاحبته وقد عبر الكندي عن هذا التشمير والكد وعن هذا الانفتاح واحترام المختلف بقوله "ينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى به وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا فانه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق وليس يبخس الحق ولا يصغر بقائله ولا بالآتي به ولا أحد يبخس الحق بل كل يشرق بالحق"[6].

وقد كان الكندي أول فيلسوف عربي أتقن علوم اليونان ووضع تحديدات للفلسفة منقولة عنهم ومطعمة بالرؤية القرآنية للعالم ورغم أننا لا نعرف من تراجمه إلا شيء قليل جدا إلا أننا يمكن أن نذكر ستة تعريفات مشهورة له عن الفلسفة طرحها في رسالة الحدود والرسوم وهي : -1 حب الحكمة، -2- التشبيه بأفعال الله بقدر طاقة الإنسان، -3-العناية بالموت، -4-صناعة الصناعة وحكمة الحكم، -5- معرفة الإنسان نفسه، -6-علم الأشياء الأدبية والكلية إنيتها ومائيتها وعللها بقدر طاقة الإنسان.

يعترف الكندي بأن هذه الحدود تحرى في نقلها من القدماء ونلاحظ في الحد الأول اقتصاره على المعنى اللغوي الإغريقي للفظ فيلسوف وهو المحب وصوفيا وهي الحكمة أما الحد الثاني والثالث فهما محاولة لفهم طبيعة الفعل الفلسفي ذاته من حيث أن التفلسف أسلوب في الحياة يراد به أن يكون الإنسان كامل الفضيلة وأنه كما قال أفلاطون تدرب على الموت بإماتة الشهوات وترك النفس استعمال البدن كسبيل مؤدي إلى الفضيلة لأن التشاغل باللذات الحسية ترك لاستعمال العقل، بينما التفلسف هو فعل من أفعال النفس العاقلة. ويعرف الكندي الفلسفة في المعنى الرابع من جهة العلة ويشير إلى التصور الأرسطي للفلسفة الأولى الذي تبحث في العلة الأولى والذي تأتي في ما بعد العلوم التي تبحث عن العلل القريبة الأربعة ولذلك كانت الفلسفة أم العلوم وحكمة الحكم وليس مجرد علم ضمن بقية العلوم الأخرى. في المستوى الخامس يصرح الكندي بموقفه من حدود الفلسفة كما وجدها مؤكدا إن ربط المعرفة الفلسفية بمعرفة الإنسان نفسه هو قول شريف النهاية بعيد الغور لأن سؤال ما الإنسان ؟ هو السؤال الأول والأساسي في الفلسفة ؟ إذا علم الإنسان ماهو علم الكون بأسره وعرف أسرار الكل .

بيد أن الكندي يحسم أمره في نهاية المطاف متوقفا عند ما يحد به عيون الحكمة وهو الحكم الكلي والمطالب العلمية الأربعة : "هل" الباحثة عن الإنية فقط و"ما" الباحثة عن الوجود . إذ يقول بهذا الصدد:" ينبغي لنا أن نشكر آباء الذين أتوا بشيء من الحق إذ كانوا بسبب كونهم فضلا عن أنهم سبب لهم. وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق فما أحسن ما قال في ذلك"[7]  

 

2- الفلسفة بإطلاق عند الفارابي:

" وهذا العلم هو أقدم العلوم وأكملها رئاسة وسائر العلوم الأخر ...إنما تحتذي حذو ذلك العلم وتستعمل ليكمل الغرض بذلك العلم وهو السعادة القصوى والكمال الأخير الذي يبلغه الإنسان..."[8]

بعد ذلك بلغ الوعي بضرورة الاهتمام بحد الفلسفة ووضع تعريف جامع مانع لها درجة عالية مع أبي نصر الفارابي المتوفى سنة 950 ميلادي عندما عني بمعنى الفلسفة وبما ينبغي تعلمه قبل الفلسفة وعندما قال كلام في اسم الفلسفة وسبب ظهورها وأسماء المبرزين فيها وعلى من قرأ منهم وخصص الفصل السادس من تحصيل السعادة لمادة علم الفلسفة وبحث فيه عن علاقة الفلسفة بالملة وعن الفيلسوف الحق وأراد أن يجمع بين فلسفة أفلاطون وأرسطو وعلمنا أن حب الحقيقة والإيمان بقدرة الفكر هما الشرط الأساسي للبحث الفلسفي .

إذا كان أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة اعتبر الفيلسوف هو ذلك الذي يملك المعرفة بكليتها بقدر الإمكان لكن دون الحصول على معارف خاصة بكل موضوع والذي يتوصل إلى معرفة الأشياء العويصة وعللها ويحل الصعوبات الكبرى للمعرفة الإنسانية ويقدر على تعليم ما يعرفه ويجعل العلم والمعرفة لذات العلم والمعرفة ويحدد الفلسفة بأنها طلب المعلوم الأسمى، ويحدد العلم الأسمى بأنه ذلك الذي يعلم الغاية التي من أجلها ينبغي أن يقوم بكل شيء ويرى أن المبادئ والعلل هي الأسمى الممكنة معرفته، فإن أبي نصر الفارابي في كتابه الجمع بين رأيي الحكيمين يميز بين التحديد المفهومي للفلسفة والتحديد الماصدقي والتحديد المنهجي لها إذ يصرح في هذا السياق :" الفلسفة حدها وماهيتها أنها العلم بالموجودات بما هي موجودة ... والحد الصحيح مطابق لصناعة الفلسفة وذلك يتبين من استقراء جزئيات هذه الصناعة وذلك أن موضوعات العلوم وموادها لا تخلوا من أن تكون إما إلهية وإما طبيعية وأما منطقية وأما رياضية وأما سياسية. وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها حتى أنه لا يوجد شيء من موجودات العالم إلا والفلسفة فيه مدخل وعليه غرض ومنه علم بمقدار الطاقة الإنسانية ...ومدار الفلسفة على القول من حيث ومن جهة ما كما قيل أنه لو ارتفع من حيث ومن جهة ما" بطلب تلك العلوم الفلسفية "[9]  

وفي "فصول منتزعة" يضع الفارابي مفهوم الفلسفة بجانب مفهومي العلم والحكمة ويرى أن "الحكمة علم بالأسباب البعيدة التي بها وجود سائر الموجودات كلها ووجود الأسباب القريبة للأشياء ذوات الأسباب"، ويعترف بأن اسم "العلم يقع على أشياء كثيرة من بينها أن العلم هو أن يحصل في النفس اليقين بوجود الموجودات" وبعبارة أخرى "التيقن بوجود الشيء وسبب وجوده" وكذلك "التيقن بوجود الشيء وأنه لا يمكن أن يكون غيره من غير الوقوف على سبب وجوده" أما "العلم بالحقيقة ما كان صادقا ويقينا في الزمان كله لا في بعض دون بعض". وفي الفصل 53 يعطي لحد الفلسفة دلالة واقعية عملية ويميز بين علوم الغايات وعلوم الوسائل بقوله"إن الحكمة هي التي توقف على السعادة في الحقيقة والتعقل هو الذي يوقف على ما ينبغي أن يفعل حتى تحصل السعادة . فهذان إذن هما المتعاضدان في تكميل الإنسان حتى تكون الحكمة هي التي تعطي الغاية القصوى والتعقل يعطي ما تنال به تلك الغاية ."

إن كانت الفلسفة منذ الإغريق تتخذ كلية الواقع موضوعا لها سواء تعلق الأمر بالواقع الخارجي أو بالفكر أو بالعلاقات بينهما فإن فلسفة من هذا النوع تدرك غربتها المخصوصة فلا هي ضمن العالم تماما ولا هي مع ذلك أبدا خارج العالم ولا بد لها من أن تذهب إلى أبعد من هذه الإمية لأنها في وضعية حرجة إن لم نقل في عصر تراجيدي ولغز الفلسفة هو أن الحياة تكون أحيانا أمام الذات وأمام الغير وأمام الحق، وقد عبر الفارابي عن هذا الوضع التراجيدي للفلسفة عند العرب بقوله : "فأما الفلسفة فإن قوما منهم حنوا عليها وقوم أطلقوا فيها وقوم منهم سكتوا عنها وقوم منهم نهوا عنها ..."[10].

ويؤرخ الفارابي لنشأة الفلسفة وتطورها في كتاب تحصيل السعادة ويرى أن "العبارة عن جميع ما يحتوي عليه ذلك العلم كانت باللسان اليوناني ثم صارت باللسان السرياني ثم باللسان العربي وتسمى الحكمة على الإطلاق أو الحكمة العظمى وهي العلم الذي يعطي الموجودات معقولة ببراهين يقينية ويسمون اقتناء الحكمة العلم وملكته الفلسفة ويعنون بذلك إيثار الحكمة العظمى ومحبتها ويسمون المقتني لها فيلسوفا ويعنون المحب والمؤثر للحكمة العظمى ويسمون الفلسفة علم العلوم وأم العلوم وحكمة الحكم وصناعة الصناعات."[11] ويميزون بين الفلسفة الذائعة المشهورة والبرانية والفلسفة الحقيقة وعلى الإطلاق التي تعطي الغاية التي لأجلها يكون الإنسان وهي السعادة. إضافة الفارابي تكمن في تعريفه للحكمة على أنها الحذق في الأمر ونفاذ الروية فيه، إذ نجده يقول:" وكذلك النافذ الروية والحثيث فيها قد يسمى حكيما في ذلك الشيء الذي هو نافذ الرؤية فيه، إلا أن الحكمة على الإطلاق هي هذا العلم وملكته."[12]

الجديد عند الفارابي أيضا هو المقارنة بين الفلسفة والملة ووضعه الفلسفة في مرتبة متقدمة على الملة وذلك لأن" الملة محاكية للفلسفة" والفلسفة تعطي الغاية القصوى التي وجد من أجلها البشر وهي السعادة ولكن "كل ما تعطيه الفلسفة من هذه معقولا أو متصورا، فإن الملة تعطيه متخيلا وكل ما تبرهنه الفلسفة من هذه فإن الملة تقنع."[13] فكيف ستبتلع الملة الفلسفة مع ابن سينا؟ وماهي استتباعات ذلك؟

تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1136  الثلاثاء 11/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم