قضايا وآراء

علي مولود الطالبي .. بين مصادر الخيال وخصوبته / بلقيس شنوّ

-  التراب

-  النار

-  الماء

-  الهواء

هذه كمصدر للخيال التعبيري، وما يشتق منها فهو كثير، وله أثره في خلق الصورة الأدبية والدلالة التعبيرية والرقص على اللغة الصورية ...

 فلو وقفنا على التراب – وأخذنا منه الطين كأحد صور التراب، وقارناه بالصخر، كوجه آخر للتراب، سنجد وحي الصورة في الطين اكبر من بلاغته في الصخر، لأننا تستطيع أن تعبر في الطين عن الكثير من الخلجات، ولكن في الصخر مهما لونا به، لن يكون وقع جرسه قويا، إلا إذا أفرط الكاتب في إبداعه وخلق منه أمرا مثيرا، وكذا النار _ فلو فكرنا باللهب وما يحدثه من خيال مؤثر في نفسية الكاتب من نظم صوري على مد الورق، نجد بالمقابل الجمر مثلا، كطعم آخر للنار، يكون اقل من اللهب، _ إضافة إلى الماء، فان خِلنا الموج وتلاطمه وما يعطي من لمسات في فرط الكلام، وجدنا ما يمكن الإبحار فيه بدنيا من فضاء، أما هدوء البحر أو النهر وسير الماء، كونه وحي آخر للماء فهو اقل تعبيرا من ذاك، رغم إن الماء وما يتعلق به من مصادر تدره على الوجود، كالمطر والغيث والغيوم والبحر والنهر، يضم في طياته صورا كبرى في خزين البوح .

-   لذلك كان عمود ارتكاز عنوان ديوان الشاعر الذي اجري دراستي لمنجزه، هو الماء .

 لكن الهواء _ وصورته التي تتجلى في الرياح مثلا، وعنفوانها وهبوبها، وما تحدث من نشوة تأملية في ذهن الكاتب نجدها دربا ممتع للكاتب في استحضار تعابيره، وأما النسائم والهواء الراكد، كلغة أخرى للهواء فان حدته وشروعه في التعبير والتناغم الصوري المفعم بالخيال اقل ...

     من هذه المقدمة أقف مع ديوان ضوء الماء للشاعر العراقي علي مولود الطالبي، والذي اعتمدت في دراسة مصادر الخيال التي سبق التطرق إليها سلفا، ووقفت على استخداماته لها، مستمتعة بما يكنزه هذا الشاعر الفطن البارع في التعبير والمتمكن من التصوير والاختزال والتكثيف في صوره، مستمدا بوحه من ركيزة صورية تعبيرية ذات إيحاءات خيالية باذخة التوصيف، مبنية على تمكن الشاعر من فكره وخياله وثبوته على هرم الشعر أثناء إنجابه لقصيدته، لقد استخدم الشاعر علي مصادر الخيال منذ أول قصيدة في الديوان (علميني) إذ يقول :

النجوم الزهر .. تنثال ..

كحبات مطر ..

إنني أهواك أرضاً ..

مزجت فوق ثراها ...

صرخة الجرح .. وأنغام الوتر

نلاحظ دقه وخصوبة التعبير في انثيال النجوم كحبة المطر ! هو استخدام ممتع وتعبير بديع التصوير، وكذا هواه بأرض ممزوجة بالجروح، هذا التضاد التعبيري ... أن تهوى ارض ممزوجة بالجروح هو عين السمو في العشق، ثم ينطلق الشاعر في قصائده، إلى أن نقف عند قصيدة (نبوءة الأسوار) يقول :

أنا أسقيكِ نظرة الورد 

 وعادة السقي يكون بالماء، فاستخدام هذا الفعل وهو يعود تقريبا لمصادر الخيال بهذه الطريقة الشاعرية العالية هو دليل على حرص الشاعر في بلوغه الصورة الرمزية العالية التصوير، ويستمر في نفس القصيدة إلى أن يقول :

نهر حليب يغطي الجسم

 ما أجمل هذا الوصف، رغم جرأته لكنه يوحي إلى تكثيف لغوي في عمق التعبير، ويقول أيضا :

أكتبكِ في دفتر الماء أضحوكة 

خِل نفسك مع هذه الصورة وتأمل جوانبها، الماء وحده جعل منه الله كل شئ حي، والدفتر وماله من خصوبة الدلالة، أما الضحكة فهي عالم من وحي الخيال .

-  ويروقني أن أشير إلى براعة ترابط النصوص في الديوان مع عنوان الديوان، فلو تفحص قارئ ذاك لوجده حاضرا وبوحي وتركيز متقن، مبني على التأسيس للعنوان وترابط مضمون القصائد، وقليل من يحرص على هذا ...

ويستمر في ذات القصيدة إلى أن يصل قوله :

عَلَمُ مملكتي أنتِ

التربة فيها تضوع من دمك العسلي

ما أجمل استخدام هذا المصدر للخيال التراب - بهذه الصورة المعجونة بالتكثيف والتصوير الدلالي العميق في جعل الحبيبة عَلَم لمملكة الشخص، وتربة تلكم الدولة تفوح بدمها، ويستمر شدو الشاعر إلى أن نصل إلى قصيدة  (رجل في سماء الحكاية) إذ يقول :

أبـي .. يـا أبي .. يا دما طافحا

ويا قارب الـجرح  لا تــقـلـبُ

حتى وان ابتعد عن المعنى الدقيق للمصادر سالفة الذكر لكنك تجد ما يوحي إلى تلك المصادر، كالطفح والقارب، ويستمر في القصيدة ذاتها ليقول : أبي قال للماء

أين المفر ؟

أبي كان ضوءً

بأقداح عيني

وهل يلبس الغيم ..

لا أريد أن اشرح هذه الكلمات وافسد عليكم متعة التفكير بها وبحبكتها وموسيقاها، واعتقد شبه جازمة أن هنا استخدام صوري يطرق لأول مرة في التعبير من قبل الشاعر، ولم يطرقه احد من قبله، وان كانت هذه الظاهرة لمستها في شعر علي مولود الطالبي كثيرا، يقول أيضا :

أحلام البحار والمحيطات ..

كيف تحلم البحار والمحيطات ؟؟؟ وان حلمت ماذا سترى ؟

أبي .. وأنت تشحن المرآةَ بالأرض

كم هنا وجود تكثيف صوري واشباع لغوي مفعم في التعبير عن الإمكانية للأب المرتدي طعم الوطن !، وهنا أيضا نجد الفكر المفعم والمشبع بالشاعرية الباذخة : 

أبي ..أيها الجبل الطاهر يلبس معطف الرّيح 

يسترسل الطالبي في ولوجه عالم الشعر ببراعة حتى يقف عند قصيدة (لحظات هاربة) واستخدامه لمصدر جديد وهو النار، إذ يقول :

يا مقلة النار طلي وانظري وجعي

في كهف عيني دموع الحزن لم تنمِ

أبحرتِ يا سفني في ذكريات فمي

والنار أمواج صمتي والبكا بلمي

وهذا تصوير يوحي سلفا مما كتب الشاعر عن إمكانيته الفذة في التصوير والتعبير، وأيضا يقول :

ركضت ألثمُ هذا النهر في قلقي

إني أضعت سراط العشق من قَدَمِ

والرحلة مستمرة مع عطر المتعة ودهشة المذاق، إلى أن نحط على كتف قصيدة (تزاوج الحب ثورة) وهي قصيدة بمجملها شعر يعجز الوصف عنه، وفيها يقول :

السماء .. بها، ولها، وعليها ..

الأرض .. كذلك

في العطاء موحدات 

وهذا إشراك لمصدر جديد هو حاضر لكن أتى الشاعر بعكسه، وهو السماء والأرض، ويقول أيضا :

قرارنا إذن .. نحرق  أجسادنا

نذيب أرواحنا في بعضها

نغزل قلوبنا في شبك الماء

حريق الجسد علاقة مع النار وصورة مؤلمة لحال تلكم العشاق الذين يذوقون المر ولا يمكن أن يتزوجوا بسبب عهر العادات، لذلك يقرروا هذا الفعل ليكون درسا لكل العشاق، أما شبك الماء فتعبير يضج شاعرية، وأيضا يقول :

وليكن الماء احمر ..

لون حبنا، طعم غرامنا اللازوردي

فالسماء كفيلة بدفننا، والثرى حضنٌ أمين 

هنا جمال تعبيري فائق للروعة في جعل السماء قبر، ما أروع هذه الصورة،! القافلة مستمرة في تتابعنا لعلي وأشجانه، إلى أن تركن رحلتنا عند قصيدة (ضوء الماء) ورقة ودثامة وسكينة تعبيرها وهدوئها وسلاستها في طرق باب القلب، يقول فيها :

ضوءُ الماءِ ..

يبرُق

بريقكِ

كم هو سحر أخاذ هذا التعبير الذي اسكننا جماله شاعرنا، ويقول أيضا :

ماطرٌ

بردٌ مؤدب

تأمل البرد حين يكون مؤدبا ؟

ونبقى في متن سفينة الطالبي إلى أن نصل قصيدة ( أرجوحة بلون الصبح) فيقول فيها :

أو خنجر يخيط فَتاتَ الانتظار

ليلدَ من قسوة الصخر

برعماً

 وهذا ما أشرت إليه في الصخر وكيف أننا نجعل من الصخرة صورة موحية رغم أنها جامدة مهما فعلنا بها لن تتحرك، لكن ملكة الطالبي وفكره الناصح أجبرت خياله على أن ينسج الجمال حتى من الصخور، ويقول كذلك :

ألَمْ يُفكر

بأنّ الأرضَ تَخيبُ

لكن لا تيأس ؟ !

ألَمْ يتخيل أنّ السحبَ تعقر

لكن تلد ؟ !

كم جميل هنا التصوير والاستخدام والتأمل والأمل، وعدم الاستسلام، وأيضا قوله :

يعرف أن العصفورَ قد بنى في قعرِ البئر

عُشاً ولَمْ يغرق

 كان الحب يراقص القلب في قفصي الصدري

فيتساقط النبض رطباً

ليرتوي الشجن

من ركبة المساء .. حتى نخاع الصباح

فيتخطى الماء

والمرافئ

استمتع بين أروقة هذا المقطع، وكيف استعان بالقران الكريم (وهزي إليكِ بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) فهذا توظيف مقتدر من شاعر حكيم في التقاطه واستفادته من الموروثات الدلالية، ومر قاربنا أيضا بقصيدة (إليكِ الغرام)  إذ يقول : 

وإن الرياح التي فيكِ تعدو ..

فكانت رياحاً لهذا الـصـقيع

وهنا أجد تناغم الموسيقا مع دقة التعبير والتزاوج بين المفردات لخلق صورة معبرة متقنه في التجسيد الشعري، وأيضا وقفنا عند قصيدة (ثمن الهوى) وجاء فيها :

و أيقـنتُ درسي ..

وأدركتُ .. لابد أن نـلتـقـي ..

كـمـــــوجٍ ... !!!

ما أجمل تلك اللقيا مثل الموجة ؟ الرحلة ممتعة والوقفة عند قصيدة (عرق الضفاف) التي نص فيها احد مقاطعها عن صورة أراها تنجب نورا سرمديا من وحي الكلمات، وتتناغم بالحبكة والبصمة أيضا لشاعر مقتدر، فليس الكل قادرا على أن يخط بصمته على مدارج الشعر يقول فيها :

وترن بكهف الذاكرة ..

إننا واحدٌ

يتبدد الجليد بين رئتينا

لتستحيل مواقد الأنفاس حرائقا افريقية

كلما اقتربنا من خط الاستواء

فأنا أجمل ما فيّ أني :

زورقي نار وأسفاري لهب 

ما هذا الجمال ؟ وما هذا التوحد بين الحبيب وحبيبته ؟ هو فعلا حقيقة الحب الصادق أن يكون كما أشار إليه الطالبي، ونقف عند قصيدة (رعشة على الرمال) إذ يقول :

عـذراً لأنــكِ قــد ذرفت عـلى رمال الـحــــزن موجا راكضا 

ومواكـب الـعـشاق .. نـحوكِ زاحـفـة

كم استوقفتني هذه السطور وخليلية موسيقاها وروعة تعبيرها، وأيضا في قصيدة (حفيف الغصون) يوصي حبيبته قائلا :

فـتعـلمي لُـغـتي .. لأنـكِ

مثـلَ هذا النهـرِ .. أو كالـوردِ .. أو كـالشـمسِ

أو أنـــتِ الحـياة ..

هلا اسـتمعـتِ لهـمـسـتـي ..؟؟

جميل أن تكون الوصية والوصف هكذا، أما قصيدة (تحرير) ففيها تكثيف وتوكيد مشروع لاستخدام مفردة الوطن، التي جاء بها الشاعر نكرة، لتحمل شمولية أكثر، وتتسع لتشمل كل أوطان الدنيا، وهي آية موحية للتعبير والتصوير، لكن قصيدة (للراقدين على الريش) التي فيها من آيات الإنسانية الكبيرة والواقعية المواكبة للواقع الذي يعيشه أبناء الوطن وما يعانوه من وجع وهم وألم، إذ يقول فيها :

للنائمين على ضحكاتهم ..

إلى إطارات المواكب

سأنطفئ في منفضة المرار

صرخة

فقناديل الوجع

تُشعلُ بحطب الذكريات

وآيات شعبي تنام على مصحف الجوع

وكذا قوله :

نهر من  الفقر اغرق أمي

ما أوجع الم أمهاتنا ؟

وبعدها نعبر إلى قصيدة (حافة السماء) وفيها جاء قول الطالبي :

لتروي

قصص الإبحار

على كتف الشمس

ما هذه الرواية ؟ وكيف ستكون ؟ وأي أبحار التي تحكي عنها، في الواقع هناك تساؤلات ربما يبهمها الكثير، لان إجاباتها صعبة من ناحية المدلول التعبيري، هذا الكم المكثف من الترميز هو جلالة إمكانية كاتبه الذي جعل للشمس كتف، تروى عليه قصص البحار، وأيضا قدرة التفنن في قرع بوابة الجمل المتموجة البيان كقوله في قصيدة (تحت خط اللاوعي)

يا من سَكَبت في فمي..

نهر حبها

سأبقى احبكِ وأطرزُ وجهي بكِ

كلما أريد

لقد أخذتني هذه المقطوعة في عالم الأنهار العشقية الذي تلونت به قصائد الطالبي ولكن كل بلون مختلف عن الآخر، بحيث أكاد أن اجزم عن عدم وجود صورة متشابهة مع الأخرى في كل ديوانه، وهذه نقطة مهمة وكبيرة وغاية في الدقة والنضوج، القارب يمر أيضا في قصيدة (فراغات) وفيها يقول :

رسمت وجهك في همس الماء

هل أنت يا علي شاعر أم رسام ؟ اقسم انك كلاهما، فمن يرسم الوجه في همس الماء ذا لوحده فنان ماهر بارع متألق دون رواية شك، ونقف في ممرات قصيدة (لست ادري) وعند هذا البيت :

افرشي شمـسي رمالاً     

زورقاً في خدِّ نهري

جعل فيه شاعرنا الشمس فراش من رمل، وهذا تعبير ذو دلالة صورية غائصة في الجمال، ومتدلية من يد شاعر سامق، وكذا جعله خده نهر ويمر فيه زورق حبيبته، فهذا إعجاب تصوير ثاني معبر بدهشة، وقصيدة (مملكة الجميلات) يقول فيها :

صوتٌ سماويٌ

يتذوقُ عزف الأمطار

ويزخرفُ لوحةَ الماءِ

على هضبةِ الفضاءاتِ

بين أبجديةَ الأيامِ

طفح شعري ثري جدا، كيف تعزف الأمطار ؟ وبأي آلة نتذوق ذلكم الطعم ؟ ما أجمل تلك اللوحة التي سترسم في الفضاء الهضابي للماء، ما أروع التصوير ودقته، ولم تكتمل الرحلة بعد، ففي قصيدة (تأمل السواقي) يقول : عيون تجمع برود النار في لحاظها

ويجري الليل عند أعرافها

يتأمل سواقيه

عطش كل جدول، مالح ماؤه

إلا فيضكِ

ولو أمعنا بالتفكير بتلك العيون التي تجمع برود النار، لوجدنا ما عرجتُ عليه من الوجه الثاني للنار، وهو عكس اللهب، وان كنا قد قلنا اقل دهشة وقوة من اللهب في التصوير، لكن في جعل النار في العيون، وما تتكلمه النار والعيون من لغات يصعب فهما، إلا لمن تذوق طعمها، فهذا خيال وخصوبة وخبرة الشاعر هنا تكمن، ثمة ما أجمل أن تتأمل الساقية ؟ إضافة إلى عبقرية الجدول حين يكون فيه عطش، وملوحة كل جداول الماء إلا فيض جدول المعشوقة، فهذه حبكة الصورة في سلم البوح، في القصيدة ذاتها، استوقفت طويلا عند قول شاعرنا :

كغسق ليلة تنبح فيها الرياح

منفي أنا في جزر سحر

فوق ربابةٍ بيضاء .. أتوق  اصطيادها

علّها تنبت سنابل الهيام

بمدن أبدياتي الملتحفة فيكِ

فترجلي كالقَطر من مناهل الوجود

لله درك يا علي ... كيف تنبح الرياح ؟ أيها الفنان اجزم انك تنطلق من خيال صافي كالماء في شعرك، وواسع كالسماء، ومتنوع كالأرض، أذهلني المقطع السالف جدا، لما فيه من تزاحم صوري وبيان صوري وخصوبة شعرية، وأيضا قوله :

كأوجه الماء في مسافة الريق

وهنا دليل على أن الماء له أكثر من وجه وأكثر من لون وأكثر من عطر، وهو عكس ما معروف عن الماء كيميائيا، وهذه خيالات وأفكار والهامات الشعراء الذي يجعلوا للمفردة ما يشاؤون، ثم أن أوجه الماء تعكس عن حياء، لان ماء الوجه حياءه، أما قصيدة (صهيل الجسد .. واشتعال الأظافر) فقد رسم الطالبي بها معلم تنويري فكري كبير حين قال :

ولنثبتَ أثاراً على الماء

الماء جاء هنا بأكثر من مجاز دلالي، قد يكون الوطن وقد يكون الحبيب وقد يكون المبدأ وقد يكون الخُلُق، وقد يكون العلم وقد يكون الطيب، كل هذه المجازات وما يزيدها بالعديد هو يأخذ باب هذا التعبير، وشاعرنا هنا يريد أن يثبت على كل هذا آثار، وكلنا نعلم أن الآثار هي شواخص من العمران الجميل والمعماري المتقن والغريب والمتميز في ارض الوجود، ونلاحظ هنا تأثير المنطقة التي يسكنها شاعرنا (سامراء المقدسة) على نفسيته وخيالاته أن تجعله يستقي منها صوره، وبهذا نجد أن شاعرنا ينبه ويعلم قراءه أن يثبتوا لهم آثارا تبقى شاخصة في ارض الوجود، وهذه إنسانية الشاعر الحقيقة والتي تكتنز في نفسية شاعرنا، وكذلك قوله في القصيدة ذاتها :

ها هنا البحر .. يراقصنا

ويتلو همس المسامات 

فكيف نؤرشف أيامنا

على مسلة الطين 

رائعة هي مسلة الطين ووحي بلوغ تعبيرها، مع همس مدلولها وهي لون من مصادر الخيال التي اشرنا لها، كذلك جاء في قصيدة (لست موطني) قوله :

يـــا غــيــما يــرسـي قــافــلـتـي، رائع تصوير الكاميرا هنا، وأيضا :

غــوصـي فـي أحشائي ...

نــــــارا

وابــنـي قــرب فــؤادي دارا

كــونـي بــرقاً .. كــونــي رعــدا

كــونــي دمــعـاً ... كــونــي شـمــعــا

كــونـي غــيــمـاً .. أو مــطـرا

هــزي روحـي و الاوتــارا

رقص في موسيقا العروض، ورشاقة في الصورة وسلاستها، ووقفنا أيضا عندي قصيدة (قرار لها) إذ يقول : 

أقطف  الغيوم العاشقة

وأؤثث بياض ذاكرتي

جمال باذخ وصور مشبعة بالروعة، وجلس أيضا قلمي عند قصيدة (لؤلؤ ذوقي) وفيها يقول :

وأطلقي نوارسَ أناملي    

إلى سواحلٍ ثوتْ قربَ قافلةِ

قلبكِ

بديعة جدا هي تلك السواحل ومرور قافلة النبض على قلبها، ومررت بقصيدة (صمت العنفوان) والتي يقول فيها :

إنـي امـتـطـيـت فـم الـرمـاح ..

وهـربـــت .  .  .  .  .

نــحــو أزقـــة الأحــلام

وإذا .. بـعـرشـكِ 

يـجـرف الإحـسـاس

وهنا انزياح وخروج مكثف على كل صور الرتابة والترهل، في صورة التعبير، ففم الرماح أمر خصب، وامتطائه أمر أخصب، وهذه فنية الشاعر وحريته في رسم صورة متناغمة مع موسيقا الفراهيدي، وأيضا قوله :

وعــراق هــذي الأرض ..

ســـيــد هــذه الــدنــيــا

وعــطــر الــبــيــلــســان

يــا أيــهــا الــوطــن الــمــســافــر بــيـن أحــداقـي ..

وصــمــت الـعــنــفــوان

تغزل عبِق في الوطن من رمزية حكيمة البوح، ويختتم الطالبي ديوانه بقصيدة تعبر عن كبير إنسانيته، وكما نعرف أن أي الشاعر يكون متفوقا إنسانيا دائما، لذلك فكر الطالبي أن يكون احدهم، فغلق بباب ديوانه بقصيدة (رصاصة قبل الاحتضار) والتي تحث على عدم القتل والإجرام بالبشرية التي تضج أيامنا بها مع جلي الأسف، وكان الطالبي يضع خاتمة ما يقوله في الحفاظ على تلك النفسية البشرية يقول :

احتفه ؟؟؟

كلا ...

الإنسانية تصرخ .. الروح تشهق

ضمآن للدم، لِمَ ؟

تواق لِرجم الحياة .. بحجارة التعميد !

زنزانة الوجع ...- ...

تغص في صدري ..

الأشلاء أنفُسا تقطع ..

البشرية بوحي الرصاص يُقبّلون

كم جميل ان نحس بانسانية الكون ؟؟؟

-  بعد رحلتي هذه في محيط علي مولود الطالبي، أرى أن هذا الشاعر الشاب، يكتنز في خياله صور تكاد أن تتفرد بها شاعريته، إضافة إلى سعة رقعة خياله وإمكانيته من استحضار وحيه الشعري المستمد من موهبة حقيقة بعيدة عن بؤر التصنع، أضف لذلك، إنني شرعت في دراسة قسم من نصوصه في المستقبل ستكون لي تفسيرات عميقة فيها، أدعو زملائي النقاد أن يأخذوا جوانب هذا الديوان للطالبي ويدرسونه من نواحي يرونها هم، أملي لشاعرنا بمزيد من التألق والانصهار في حمم الشعر .

 

 

 

 

في المثقف اليوم