قضايا وآراء

إدريس والعالم / كاظم الموسوي

من بين تلك المقالات مقال بعنوان: داخل الصندوق معركة، عن الناقد والفيلسوف محمود أمين العالم (18 شباط/ فبراير 1922- 10 كانون الثاني/ يناير 2009) وفيه خلاصة موقف ورأي. وكلاهما إدريس والعالم وسما المشهد الثقافي في مصر بميسم إبداعهما وخلدا اسميهما بما أنتجاه في مختلف مجالات الإبداع والمشاركة العضوية في العمل العام اليومي للمجتمع. فما كتبه أي منهما عن الآخر خصوصا له معناه ودلالته الثقافية وحجم التقدير والاحترام لكليهما، والثقافة في عصرهما.

يوسف إدريس أصدر أكثر من خمسين كتابا بين قصص قصيرة وروايات ومسرحيات ومقالات. ومحمود أمين العالم كذلك، له العديد من الكتب والدراسات والمقالات. وبينهما الكثير من غزارة الإبداع والاهتمام بالإنسان والموقف والجرأة والحماس من اجل التغيير. ونالا حصتهما من التعنت والسجن والهجرة. وظلا وفيين لنفسيهما ولشعبهما ووطنهما. وبقيا بما قدماه شاهدين كبيرين معبرين بوضوح عن دورهما والثقافة العربية.

أبدع إدريس في القصة والرواية والمسرح وكذلك في فن المقال وعاش حياته متنقلا بين هذه الفنون ومهنته الطبية. حولت بعض أعماله الروائية والقصصية إلى السينما فقدمت له ولها مجالات أوسع لنقل الصورة التي كتبها بالكلمات إلى عالم آخر جديد، أضاف إلى عالمه الإبداعي فرصة اخرى. وفي المقال المذكور، وهو قراءة ادريسية في كتاب لمحمود العالم، إشارات جريئة في النقد الأدبي ومواقفه من نقاد زمنه، وهم أسماء كبيرة في عالم الأدب والنقد الأدبي في العالم العربي. رغم مكانته الكبيرة في الأدب والكتابة وجد نفسه حائرا في اختيار هذه المجموعة من المقالات ووضعها بين ضفتي كتاب، ومنها هذا المقال..

كتب يوسف إدريس عن كتاب للعالم: الكتاب حقيقة صغير في حجمه، ولكني ترددت طويلا وأنا اقلب صفحاته. وكل كتاب في رأيي صندوق مغلق قد تفتحه فتفاجأ بكنز، وقد تضني نفسك فلا تخرج في النهاية إلا بقبضة لآلئ زائفة. ولكني هذه المرة متأكد من صاحب الصندوق.. فمحمود أمين العالم قد دخل حياتنا الثقافية والأدبية من أوسع أبوابها، دخل ليحتل المكان المرموق الشاغر، وحياتنا الأدبية الجديدة كانت في حاجة إلى الناقد الجديد الذي يستطيع ان يدرك أبعادها ويفهمها ومنها نفسها يستخرج الجوهر إلى الناس، يحسده ويدافع عنه... .. وفي اقصر وقت أصبح محمود أمين العالم هذا الناقد الذي تبوأ مكانه عن جدارة بين رعاة الحركة الأدبية الجديدة التي بشرت بالثورة وتفجرت معها.

سجل إدريس عن العالم: وميزة العالم ان الفلسفة عنده ليست موضوعا أكاديميا أو معادلات رياضية، ولكنها قضية تكاد تصبح .. بل تصبح فعلا قضية حياة أو موت، وقد اخذ البعض على محمود العالم حماسه وهو يعرض آراءه، ولكنها في الحقيقة ليست حماسة.. أنها اهتمام رجل وهب نفسه لرأيه وللدفاع عن وجهة نظره وفعل هذا بكل قدرة لديه. وهذا هو أروع ما في الموضوع.

وأضاف الكاتب وهو يسجل رأيه في أصحاب الآراء ومواقفهم والنقاد عن العالم أيضا: وحين اعتنق محمود العالم رأيه لم يحمله في يده صولجانا يتباهى به على الآخرين ويتهمهم بالتخلف ويشيد بسموه وتقدميته، إنما راح ببساطة يعمل من اجل إقناع الآخرين وكسبهم. لم يجعل همه ان يضبط الناس ويسجل عليهم تقاعسهم أو قصورهم، أو ينعى على الضعفاء ضعفهم. لم يحله رأيه إلى قاض أخلاقي يحكم على الضعفاء ويندد بهم، وإنما بكل سماحته مضى يبحث في الناس عن مواطن الخير ويحبذها ويمجدها، ويعيش رأيه فبينه وبين نفسه هو هو بينه وبين الناس، رأيه في وجهك هو نفس رأيه في غيبتك، وبلا تجارة بشرف الكلمة هو دائما شريف الكلمة، وبلا صراخ أو ضجيج منفعل واتخاذ لموقف الشهيد المعذب، ضحى ولم اسمعه مرة يذكر تضحيته، أو أحسست به واعيا أو مدركا لها وكأنها ما حدثت. ولم تكن هذه صفاته هو وحده، ان شعبنا حافل بالملايين من أمثاله، أخرهم وليس اقلهم هو العامل في السد العالي الذي لا يقرا ولا يكتب..

انتقل مباشرة بعد ذلك الرأي في العالم إلى كتابه: "معارك فكرية" صورة مصغرة لشخصه، كل ما في الأمر انك بعد قراءته تؤمن ان العالم يعتنق رأيه لا لأنه مع الرايجة أو ليركب موجة الاشتراكية الصاعدة، ولكن لأنه وصل إليه بعد رحلة بحث شاقة وعميقة.. بعد معاناة جادة ودءوبة لمواطن مثقف أراد ان يعرف الحق والحقيقة، وحين وصل إلى ما آمن انه الحل الحتمي ليس فقط لمشاكل شعبنا وإنما للعالم والوجود كله، وهب نفسه كلية لهذا الإيمان يدعو له ويناضل في سبيله ويدافع عنه.

وأضاف: والكتاب مذكرة ضليعة أعدها محام قدير مدافعا عن قضية الاشتراكية العلمية، مذكرة تفند في تدفق وقسوة شهود النفي من براغماتيين ووضعين منطقيين ووجوديين وغيرهم، وفي نفس الوقت تبشر بتدفق أعظم بكل ما يصلح دليلا للإثبات.

اقترب من جوهر الكتاب وطمح ان يكتب العالم أوسع من المقالات تلك ويثير فيه الجديد والتغييرات التي طرأت وما توقعه في الكتاب. وتساءل عن الحاجة الماسة ومن محمود العالم بالذات إلى كتاب عن المعارك الفكرية الجديدة للاشتراكية وأهمها معركة الاشتراكية والاشتراكيين مع الاشتراكية نفسها، أو بمعنى أدق مع بعض المفهومات الاشتراكية، وبشكل خاص تلك المفهومات التي يتسرب منها الخطأ أثناء التطبيق...

وهو ما ختم مقاله به مؤكدا: إني وان كنت اعتقد ان كتاب معارك فكرية هو من أخصب وادسم ما قرأته في حقل الفكر والفلسفة من إنتاج القريحة العربية، إلا إني أتطلع بشغف كبير إلى الكتاب القادم لمحمود أمين العالم عن معارك الاشتراكية مع الاشتراكية، إذا صح ان تسمى هذه القضايا الخطيرة معارك.

سطر الكاتب يوسف إدريس في مقاله عن محمود العالم انحيازه إلى الفكر الإنساني الذي دافع عنه العالم وناضل من اجله برغم اختلاف في بعض قضاياها والسبل إلى التطبيق العملي، ورغم معاناة كليهما من ظلم وتعسف السلطات حولها ضدهما، إلا إنهما حتى في مثل هذا المقال عكسا جانبا مهما من أسس الحوار الثقافي والأدبي والفكري الذي عاشته مصر والعالم العربي وبنيا عبّر قدراتهما وتواصلهما في السجال الفكري والأدبي وجسارتهما في البحث والتصدي الموضوعي والمعارك الفكرية معمار الثقافة العربية.

 

كاظم الموسوي

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2024 الاربعاء 08 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم