قضايا وآراء

التأثير الأدبي على المكان (مجموعة الشاعر ئاوات حسن أمين مملكة ما وراء خط الاستواء أنموذجا)

المعبرة شتى الأحكامات الدالة على الحدث ألتأريخي أو المنطلق التي تنطلق منه القصيدة الشعرية أو القصة والرواية وغيرها .

 

والمكان هو واحد من هذه الأحكامات أو المنطلقات التي تبنى عليها صورة القصيدة أو المجموعة الشعرية ، حيث أنه الشاغل المؤثر الذي يفرض نفسه على خلجات الشاعر أو الكاتب لتحديد المنطلق الذي يبدأ منه ، وبالنظر لأهمية المكان وانطباعه في نفسية الشاعر وما يلم به من حدث مهم يسيطر على خلجاته وأحساسه مما يهيب به أن يجعل منه مركزاً محورياً تدور عليه أحداث وصور القصيدة في مخيلته التي تبحث عن مأوى تستقر عليه سوى أن كان هذا المستقر فوق الأرض أو السماء أو القمر والشمس والكواكب الأخرى أو في البقعة غير المسكونة في نظر الآخرين .

فما دام الشاعر يسبح في ملكوت الكون مع ضياء الشمس وفوق القمر ويغوص تحت البحار محاوراً المخلوقات البحرية تارة والعصور في الأزمنة التي لم ير أحد منها ولم يشاهدها تارة أخرى ، فهو يخترق بمشاعره وأحاسيسه هذه الأجواء المكانية متخذاً منها مادة لصوره الإبداعية التي يغرسها في قصيدته أو مجموعته الشعرية .

وما دام المكان يمثل المحور الرئيسي في كل الأشياء التي تحيط بنا منذ أن خلق الله عز وجل الخلق .

 فلا بد لنا أن نقسم المكان بحسب معناه ودلالته إلى قسمين متميزين إن لم أقل أكثر لئلا يتشعب موضوعنا .

هما المكان الأدبي والمكان التضاريسي أو الجغرافي وهذا بحسب ما يهتم به العلم الجغرافي الذي يتحدث عن التضاريسي الأرضية.. سطح الأرض والأنهار والبحار مثلاً وهذا الأخير لا أريد الخوض به الآن والدخول بين مجريات الحديث عنه بقدر ما يهمني منه التمييز بينه وبين المكان الأدبي الذي هو مركز بحثي هنا والذي يؤثر التأثير المباشر في نفسية وضروف الشاعر مما يظهر جلياً وواضحاً في إرهاصاته وصوره الشعرية المعبرة !

والمتصفح إلى دواوين شعرانا الذين عاشوا في العصور المنصرمة يلاحظ تغنيهم بالشمس والقمر والنجوم والجبال والأرض والبحار والأشجار والأزهار والفصول الأربعة وما ضمت هذه المنطلقات من الأمكنة الأدبية التي سجلها الشعراء وأرخها في مطبوعاتهم ودواوينهم التي هي الآن مراجع يعتمد عليها من قبل دارسينا في عصورنا هذه !

لذا نجد شعرائنا وأدبائنا في هذا القرن والقرون التي سبقتها يحثون الخطى في مجارات أسلافهم ليتخذوا من هذه المنطلقات مادة لأحياء التراث الأدبي والثقافي وترصيعه بمثل هذه الصور البلاغية التي تتخذ من الأمكنة الأدبية مادة أساسية لبناء هذا الصرح الثقافي .!

فالصورة الجمالية التي يسجلها الشعر والأدب للمكان تعطي على ما يعتقد باشلار مكانة موضوعية ومساحة أكبر فيقول (حين نمنح شيئاً مكاناً شعرياً يعني أن نعطيه مساحة أكثر مما نعطيه موضوعياً).

 وهكذا تغنى شعرئنا بالصحراء وعطشها وصبيرها وشظف العيش فيها وحلكة ظلامها في الليل وتلأليء نجومها في السماء الصافية. ولهذا أكد الفيلسوف باشلار على المكان في كتابه (شاعرية أحلام اليقظة) بقوله: (المكان ليس بمثابة الوعاء أو الإطار التكميلي بل أن علاقته بالإنسان علاقة جوهرية تلزم ذات الإنسان وكيانه) .

  فما  دام المكان هكذا ملزماً لذات الإنسان وكيانه عليه يقتضي بالشعراء أن يصفوا المكان حسب خلجاتهم والأفق الواسع الذي يتمسرحوا فيه لأن الأمكنة الأدبية هي ليست محدودة بالنظر كما هي الأمكنة الجغرافية ولكن تحدد هذه أي المكنة الأدبية في رؤى وأفق الشاعر ، عليه نراه يخاطب القمر والنجوم والشمس  ، ويحاور الأزمنة والعصور التي لم يرها فهو يوئنسن المكان حيثما وجد ويخاطبه كإنه يراه ! وهذه هي أقصى حالات الاندماج مع الأمكنة الأدبية .

 

والحديث عن المكان وموقعه في نظر الشعراء والكتاب واسع والبحث فيه كثير فيما لو أردنا توصيف المكان ، لكنني أردته أن يكون مدخلاً لدراستي إلى مجموعة الشاعر المبدع (ئاوات حسن أمين)  وتوصيفه للمكان في قصائد مجموعته (مملكة ما وراء خط الأستواء) . 

 

عندما نتحدث عن كثير من الشعراء الكورد الذين واكبوا هذا الجيل والأجيال التي سبقتها على وجه التحديد ، يمكننا أن نميز منهم وبدون تردد الشاعر المتألق ئاوات حسن أمين الذي يعتبر واحداً من هؤلاء الذين أقحموا تاريخ الشعر الكوردي بتجارب رائدة في نمط الأشواط الإنسانية والثورية التي مرت بأدوار من الظلم والتعسف المرير من خلال الحياة القاسية التي قضوها أبان الأحكام المقبورة !!

حيث أن هذه النخبة أدركت جلياً موقعها المتفرد في المجتمع والمسؤولية الملقاة على عاتقهم ، فاكبوا على مواكبة وتصوير الحياة البائسة التي يعيشها الشعب الكوردي بصورة خاصة والعراق بصورة عامة في قالب شعري فريد ليظهر لنا في هذه المجاميع الشعرية لهذه النخبة من الشعراء الكورد .

والشاعر ئاوات راح يقتنص الفرص والصور من الحياة وهو يقرأها بوجوه العابرين من الطبقة الكادحة ويكتنز اكبر طاقة في تصوير هذه اللحظات المعاشة في مجتمعه أينما ذهب في عموم وطنه الكبير العراق !

والشيء الملفت للنظر في مجموعته هذه والتي تبين للقارئ المتبصر الذي يدرك ماهية النسيج الشعري والبنى اللغوية التي تنعكس على هذه الحياة المعاشة في خضم هذه الأحداث الدامية ، هو توظيف المكان في مجمل قصائدها مما جعل لهذه القصائد قرب دلالي مميز على مواكبة الوضع الراهن الذي يعيشها الشاعر وشعبه من جهة ودغدغة المشاعر الإنسانية والرومانسية للقارئ أو المتلقي من جهة أخرى .

لأن توظيف المكان شعرياً يعطي للمكان بحق قيمة موضوعية تتجسد بمقاربة الروح المتلهفة لقبول الخطاب الثوري والإنساني الذي لا ينفك الشاعر يدعو إليه بقصائده ويضع يده على الجروح التي يئن منها الشعب وهذا طبعاً ما يريده القارئ وما نريده من خصوصية الشعر نفسه أن يكون ذا قيمة إنسانية وجمالية في وقت واحد .

ففي قصيدته (كرنفال فصل الخريف) الذي يبحث فيها عن مأوى ليتستر فيه مع الذين أحبهم وأحبوه مخاطباً الريح أن تنقله إلى ساحل جزيرته المجهولة لعله ينعم بحضور من يحب !

(أيتها الريح ،

قد منحتك رأسي ،

فخذيه مع موجة تائهة ..

إلى أقاصي الوجود على ساحل

جزيرة مجهولة ،

لتتأثر ذكرياتي مع الذين أحببتهم وهجرتهم)

 

وكذلك في قصيدته (لحلم)  الذي يتذكر فيها ذكرياته مع وطنه العزيز عليه محاوراً الشاعر رشدي العامل بقوله :

(في سهوب غربتي ..

عدت إلى وطني ،

على الحدود وقفت متأملاً ..

مطر القتال والعزاء،

ولكن آه يا مهد الآلام ،

كلما طال أمد الغربة ،

كلما بعدت لحظات الأفتراق!)

 

ويؤكد له لزوم حبه لوطنه المغترب منه حتى و لو بالموت فهو يستريح لو يلقاه:

(حتى ولو للقاء الموت ،

مرةً أستريح في جهة من جبهتك ياوطني)

 

و في قصيدته المهداة إلى الشاعر سعدي يوسف لا ينفك الشاعر يوظف قصائده محاوراً المكان متنقلاً بين الحين و الحين في أطراف بلاده من الشمال للجنوب و من الشرق إلى الغرب متذكراً تارةً الجبال و السهول و تارةً يؤم الاهوار و ما فيها و تارةً ثالثة يحاور من يحب في منفاه البعيد مذكراً إياه بقيمة وطنه :-

( دائم الترحال ،

مسافر على أرصفة الغربة ،

في جيوبه التمر و الشعر)

 

بهذه القصائد الجميلة يدرك القارئ مزاوجة الشاعر للمكان الذي هو محطته المحببة إليه و الذي يقرأ قصائده الأخرى  .

(إلى عاشق ،معجم الشاعر ، فصول الانقطاع ، تأمل في المناطق الناطقة ، منظر مساء شتائي ، أنا حلبجه)

و غيرها كثير من القصائد التي ضمتها هذه المجموعة التي يدل اسمها على المكان بصورة جيدة (مملكة ما وراء خط الاستواء)

مما يدل على ان الشاعر ممن لا يغنيه شيء في هذه الحياة غير وطنه و شعبه الذي يتألم لألمه و يفرح لفرحه و هو من الشعراء القلائل الذين و ظفوا المكان في أشعارهم إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الشعراء الجاهليين و ما بعدهم  ممن تحدث عن الصحراء و الجبال و وظفوا المكان الشعري في قصائدهم .

فقصائد هذه المجموعة تتراصف فيها دلالات الإيقاع الحسي لإحساس الشاعر بالغربة و الظلم و الضغط النفسي من جهة و مزاوجة هذه الإيقاعات مع المكان و قدرته الاستعارية لكثير من الكنايات الرمزية التي يوصف بها الحال الذي يعيشه مع شعبه في خضم هذا الصراع .

 

ولأنه المحور الرئيسي الذي يحاول فك الألغاز المرسومة على و جوه العابرين من أبناء جنسه و ملاحقة تأويل هذه الرمزية في أخاديد الوجوه التي أبراها الزمن التعسفي و ظلم الطغاة ، مما جعل هذه القصائد بحق أن تكون الدلالة الكنائية على تاريخ الشعب الكوردي و حياته ضمن هذه الفترة التي يمكن أن نطلق عليها فترة الزمن المنسي لمقدرات شعبنا في عموم العراق ان صح التعبير .

فالشاعر استطاع بكتاباته الرمزية و تأويلاته الانشطارية أن يرسم للقارئ هذا التاريخ الحافل بكل هذه المتناقضات ، و لكن بدل أن يكون في الطريقة السردية فقد اختار طريقة الشعر المعبر على جوهر العمق التي تتصدر إليه هذه المقطوعات الشعرية فمن خلال ومضاته الشعرية القصيرة في تراكيبها و الغنية في معانيها استطاع حقاً أن يغني مسامع القارئ الكريم بوصفات الأوضاع المأساوية التي يعيشها الكورد في صراعها مع الحروب الطبيعية و الجغرافية و المادية و السياسية المفتعلة من قبل الطغاة إلى صور بلاغية تأول هذه الأوضاع و تشرح الحالات النفسية بصورة واضحة و دلالة ظاهره للعيان فمثلاً قوله :-

 

(الموت بحد ذاته ، أنشودة الخلود)

(اجمعوا .. أوراق الشجر ، أنها الإشعار لكي أكتبها)

(ديوان الشعر ليس تجربة لإنسان ما ، و إنما تاريخ للإنسانية)

(لا تستهزئ بالشجرة الهرمة  أنها مأوى للبراعم الجديدة)

(الموت وقوفاً شجاعة)

(هلم بنا إلى الغابة ، فالسر هناك)

(مذكرات شخص بمفرده ، تجربة لعمال الأهرامات)

و هكذا في كل هذه الومضات التي وظف بها هذه الكنايات الرمزية معللاً للمتتبع أسمى آيات التأويل الذي لا يدركه المرء من خلال معايشته للأوضاع المحرجة التي يعيشها .

 

فالشاعر ئاوات معني تماماً بالتقاط صور الأشياء التي يمر عليها ويقرأها جيداً من خلال تجواله الذي لا ينقطع ، لأنها الأهم والأصعب فيجسدها في ومضات قصيرة تعطي للمتتبع معنى ، فهو يذهب إلى ما تسدله القصيدة أو الومضة الشعرية من ظلال على الروح لينشئ منها على ما أعتقد جسداً للشعر . ولأن جسد الشعر عنده يعتني بالظلال والأشباح !

وعليه راحت ومضاته تحكي عن تأريخ الحدث المخفي في نظر القارئ كما هو المثل الذي يفصح عن الحدث ألتأريخي في بضع كلمات قصيرة ولكنها ذات معنى كبير في النظر السردي والحكائي !

إضافة إلى هذا فقد أمتاز الشاعر باطلاعه على التراث وتوظيفه في قصائده وومضاته مما كان له الأثر الواضح في تكوينه الأدبي كما يظهر في قصيدته (شيرين وفرهاد).

حيث أن القارئ يدخل في حيرة لا ينفك أن يبقى تائهاً بين مجريات الموسيقى الشعرية التي تقع عليها عينيه وهو يقرأها بلهفة لا يدري هل أن ئاوات الشاعر يتحدث عن حبيبته المرأة أو حبيبته الأرض أو حبيبته القصيدة أو حبيبته الحرية  أو عن شعبه .

وبالتالي يدرك أنه يتحدث عنهن جميعاً ويضعهن بين شغاف قلبه المجبول بفيض الشعر والحب للأرض والوطن والشعب !!

وهنا لا أريد أن أسترسل بتحليل هذه القصائد في هذه المجموعة واسلب من القارئ فرصة التمتع والاطلاع عليها ولكني أدعوه أن يبحر في هذه المملكة ويرى بنفسه ماذا يكمن ما وراء خط الاستواء من دلالات رمزية أشار إليها في مجمل قصائد وومضات مجموعته مملكة ما وراء خط الاستواء !!

 

  في البصــــــــــــــ2009ـــرة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1189 الثلاثاء 06/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم