قضايا وآراء
أغاني المنفيين وقاموس الغرباء في ديوان: هنا .. نسيت دموعي للشاعر خالد الخفاجي / فيصل عبدالحسن
وما عشناه من سنوات في البحث عن حلول لما لا يمكن حله من أسئلة الوجود، وكثير من الشعراء جعلوا شعرهم وسيلة، وسببا لتقبل الحياة خيرها وشرها، ومن هؤلاء الشاعر خالد الخفاجي، الذي وجد في الشعر وسيلة ليقول كلمته فيما عاشه في وطنه العراق، وما شعره من حنين له في غربته بعيدا عنه، لظروف بلاده المعروفة، فجاء شعره مهووسا باقتناص لحظات عاشها الشاعر، وشعر خلالها بتعادلية بين ما عاشه في وطنه، وما عاشاه في منفاه الإجباري، لقد حمل لنا ديوانه »هنا نسيت دموعي« أكثر من ثلاثين قصيدة تنعى الوطن المضيع، وتعيد سرد احزان المهجر وذكريات الوطن، التي حاول الشاعر ان يداويها بحب جديد، أو كتابة قصيدة جديدة.
وتشف عبارات الشاعر، وتتسابق كلماته في كل قصيدة، فيقفز قلبه قبل سطوره المقتضبة، ليرينا الطريق الذي سلكه في بعده الجسدي عن العراق، وهو طريق الحرمان والبعد عن الأحباب، والبكاء على الوطن، ومحاسبة كل من أساء لوطنه، أو خلف لأهله ذكرى سيئة، خالد الخفاجي يجعلنا في كل قصيدة ننتظر ان يقول شيئا خطيرا، لكننا لا نجد إلا دموع الشاعر يذرفها هنا وهناك باحثا في قاموسه عن كلمات تجعل التعبير عن الحزن أكثر فداحة وألما:
أسمعه يقول في هذا المجتزأ من إحدى قصائده:
» سأفتتح ذاكرتي
»بدبايس« من حرير.. / وأصرح / بطريقة حضارية
بعيدا عن القذف / بجلالة الأزقة التي / تبصق أنات / الحرافيش
وتختنق بصرير الجوع.. / ولا بالشوارع التي / تختبئ بين أحشائها
العبوات الناسفة... / التي تصبح على عويل« من قصيدة »هنا نسيت دموعي «.
وقال في مقطع آخر من قصائده القصيرة التي تبدو، كأنها رمية سهم تصيب شغاف القلب بقليل من الكلمات المؤثرة، التي تعزف موسيقاها، الحزينة، فتترك ندبا لا تمحى في النفس:
»من بعد / لم أفكر في / روحي / صار كل.. تفكيري/ فيك / حتى لو دثرتك / في جروحي / أظل أخاف / عليك«.
من قصيدة »تفكير« أو قوله: »ودروبي موصدة / لا أفواه لها / لا أبواب / جئت أنت / تنثرين براعم السكر / بين أشيائي / مثل فراشة / تناغم فنجان قهوتي« من »تراتيل في وجه امرأة خرساء« أو وهو يقول في قصيدة أخرى »يا لحظي المسجون خلف/ قضبان الحزن / يوم كانت فجيعتك / تملأ الدنيا احتجاجا / كنت أهيئ / أدواتي لأكسر / جدران الضباب / حتى أتسلل إليك« من قصيدة »زهرة الحزن« ويقول أيضا في ذات القصيدة: »حين نهاجر أرحام / أمهاتنا/ يصطدم صراخنا / بضوء الحقيقة/ وفجيعتنا آنذاك / فراقنا لحرية الملاذ / وحين تنتشلنا السماء / من دنيا التفاهات / يبكي علينا غرورنا/ ونفاقنا / وتحتج الأزقة / والذكريات / فتتراقص دموع / الأمهات« و» فقيدك لن يموت / لأنك حياة / والحب بينك وبين / الله.. لا يقهر/ هأنذا عاجز / عن الرثاء / لأني بحاجة لمن / / يرثيني« والشاعر ينقل لنا صوته الداخلي، المملوء حزنا، الذي لا يستطيع ان يرثي أحدا مهما عظم شأنه، لأنه هو نفسه بحاجة لرثاء الآخرين .
وينهل الشاعر خالد الخفاجي من القرآن الكريم الكثير من مفرداته وبلاغته، وتعبيره الدقيق عن الحالة التي يريد أن يصفها، وهذا نابع من ثقافة قرآنية، وقراءة عميقة لكتاب الله تعالى، الذي وصف أمور الحياة جميعها، ولم يترك شيئا لم يصفه، ويضعه في متناول من يريد أن يكتب أدبا إن كان شعرا أو نثرا بل إن الخفاجي استخدم آيات قرآنية في قصيدة له عنوانها( فاس والناس) قال فيها / سلاما: سلاما على فاس والناس / والوفاء / سلاما على الحب فيك / والهواء / سلاما، سلاما، سلام / قل أعوذ برب الناس / ملك الناس، إله الناس/ من شر الوسواس الخناس / على روحك / يا فاس وتنقل لنا اللغة القرآنية، التي استخدمها الشاعر ولعه الشديد بتلاوة القرآن الكريم والنهل منه، ما اغنى قصيدته، وجعلها تنال بعدا لغويا، ونفسيا عميقا في ذاكرة المتلقي، لما للغة القرآنية من أثرفي النفس العربية المسلمة، التي تربت منذ الصغر على سماع القرآن الكريم، وتلاوته، والتأثر بصوره البلاغية، ولغته الجزلة، وقصصه المؤثرة، وحكمه البالغة، التي ينهلها كل من تتبع ما جاء فيه من سور كريمة، لذلك حرص الشعراء العرب المجيدون، القدماء منهم والمحدثون، على حفظ القرآن الكريم، وفهم معانيه وتفسيره.
وقد استخدم الشاعر خالد الخفاجي في قصائد ديوانه الموسيقى اللغوية، لبناء الإيقاع الشعري المطلوب، وكذلك الطباق والاستعارة، وقد تميزت عناصره الأسلوبية في الديوان، بطرح حياة المبدع، وأثر وطنه عليه، وتلقيه الصدمات تلو الصدمات بفقدان الوطن والأهل والأحبة، وآثر كل ذلك على سيرة حياته في غربته في منفاه في المغرب بعد حياة هانئة مع الأهل والأصحاب في وطنه، قبل احتلاله واضطراره للهجرة منه، وقد وقفنا في السطور السابقة على السياق الخاص، الذي أنتهجه الشاعر، ووضحنا العناصر الإيقاعية واللغوية، واستخدامه للغة القرآنية، واعتماده الموسوعة الثقافية التراثية العراقية، المتمثلة بتاريخ عريق من الشعر، والأحداث الكبرى، والشخصيات الرمزية، التي يكفي ذكر اسمها في بيت شعري أو مقطع من قصيدة، ليحيلنا ذلك الاسم إلى خزين لا ينفد من الأفكار والصور والأحداث، ابتداء من رحلة جلجامش للبحث عن عشب الخلود، حتى هجرة الشاعر من وطنه باحثا عن وطن بديل، وحياة كريمة خارج وطنه .
أن ما امتلكه الشاعر خالد الخفاجي، واستخدمه من الصور الشعرية المبتكرة، فيما عرضنا من مقاطع شعرية مجتزأة من قصائده، أو مما لم تتح لنا فسحة العرض عرضه يحيلنا إلى حقيقة، أننا نقرأ لأحد أهم الشعراء العراقيين، الذين عرضوا مأساة العراقيين في منافيهم المختلفة، وتغنوا بمفردات فقدهم وطنهم حتى غدت هذه الأغنيات قاموسهم اليومي في منافيهم، وبعدهم الجسدي عن وطنهم، وانه بحق ديوان لأغنيات المنفيين وقاموس الغرباء.
......................
* «هنا نسيت دموعي» / للشاعر خالد الخفاجي / مطبعة أوفسيت/ الرباط - المغرب /144 صفحة من القطع المتوسط.
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2091 الأحد 15 / 04 / 2012)