قضايا وآراء
المواطن والإنسان ذو البعد الواحد (2)
أ- مفهوم المواطن:
إذا كان مفهوم المواطن قديما كان حكرا على فئة قليلة من الناس احتكرت لنفسها حق السيادة على الشعب لتجعل من العامة أداة استغلال و ترفيه بينما تتركهم يعيشون كالسوائم. مستعملة في ذلك الحق الإلهي وقد استمر هذا الوضع إلى أن ظهر العصر الحديث منفتحا على حقيقة جديدة و انطلاقا من فلاسفة عصر الأنوار من أمثال روسو و لوك و مونتسكيو.. و اعتبروا أن الحقوق تعود إلى الإنسان بمجرد ولادته و هي حقوق طبيعية في المساواة و في الملكية و العدالة. و أعلنوا أن المواطنة حق للجميع و ليست وقفا على فئة و أنهم سواء في إدارة الشؤون العامة و جاء في تعميم المواطنة في أول وثيقة رسمية هي "إعلان حقوق الإنسان و المواطن" الصادرة سنة 1791 كانت غايتها وضع حد لمصادرة الإنسان في شخصه و أمواله و حريته من قبل الحاكمين و إغفال مبادئ الحرية و المساواة و الحق في التملك و قد تطور مفهوم المواطن بانتقال الدولة من الوضع البوليسي إلى دولة تقوم على الديمقراطية الاجتماعية و حق الحياة و العمل للجميع.
بالعودة إلى المفهوم الاشتقاقي لكلمة مواطن فإن هذه الكلمة في اللغة الفرنسية يمكن تعريفها من خلال اشتقاقها اللغوي "Civitas" اللاتينية المعادلة لكلمة « Polis » اليونانية ومعناها المدينة كوحدة سياسية مستقلة فالمواطن ليس فقط ساكن المدينة ففي روما و أثينا لا يتمتع كل السكان بصفة المواطنين. غير أن ما يجب الانتباه إليه أن مفهوم المواطن يرتبط ضرورة بمفهوم الدولة. إذ لا يمكن الحديث عن المواطن خارج الدولة رغم أن الحقوق التي يتمتع بها المواطن داخل الدولة سابقة على وجودها، إنها حقوق طبيعية تخص الإنسان بوصفه إنسانا و هي حقوق مقدسة لا يمكن التنازل عنها لأنها ترتبط بجوهرية الإنسان. حتى أنه وقع الربط بين حقوق الإنسان و المواطن ذلك أن احترام حقوق الإنسان ضروري لممارسة حقوق المواطن. و عندما نلاحظ المادة الثانية لإعلان حقوق الإنسان "إن هدف كل تجمع سياسي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة... " إن ما تبلغه هذه المادة أن الإنسان لم يوجد من أجل الدولة كما أعتقد هيجل بل جعلت الدولة لخدمة الإنسان. و يمكن أن نتبين علاقة الدولة بالمواطن بوضوح عند روسو في الفصل السادس من كتاب العقد الاجتماعي متحدثا عن الدولة التي ستتأسس وفق ما يسمى "بالعقد الاجتماعي" قائلا: "وهذه الشخصية العامة، التي تتكون هكذا من اتحاد الشخصيات الأخرى كانت تحمل قديما اسم "المدينة" أو الحاضرة و تحمل الآن اسم "الجمهورية" أو "الهيئة السياسية" وهي التي يسميها أعضائها "دولة" إذا كانت سلبية غير عاملة و"هيئة السيادة" إذا كانت عاملة... وأما الشركاء فيتسمون في وجه جماعي مشترك باسم "الشعب" ويطلق على الأفراد اسم "مواطنين" على أنهم مشتركون في سلطة السيادة، و"رعايا" بصفة كونهم خاضعين لقوانين الدولة. "
إن مفهوم المواطن من خلال تحديد روسو هو مواطن من جهة كونه يشترك في سلطة السيادة أو ما يطلق عليه بالحقوق، أما المقصود بالرعايا فإنها تعني الحالة التي يكون فيها المواطن خاضعا لقوانين الدولة و هو ما يعبر عنه بمسألة الواجبات. فالمواطن من هذا المنطلق هو فرد يندرج ضمن الدولة و هو مثلما له حقوق له واجبات و هو مثلما يكون حرا وسيدا يكون في نفس الوقت مطيعا للقوانين و خاضعا لها.
غير أن خضوع المواطن للقانون لا يعني أن المواطن قد سلب حريته لأن مفهوم الحرية عند روسو يقترن بالقانون "فولدت الحرية يوم ولد القانون" و بالتالي خضوع المواطن للقانون لا يعني أنه فقد خاصية الإنسانية الحقيقية فهو:"إذا منح كل واحد نفسه للمجموعة كلها فإنه لم يمنح نفسه لأحد. " لأنه في نهاية المطاف لا يخضع لسلطان أحد و هو بهذا يحافظ على حريته.
إن هذا التحديد لمفهوم المواطن يضعنا أمام ارتباط هذا المفهوم بالدولة إذ لا وجود للمواطن خارج الدولة فقد ورد في الموسوعة العربية العالمية المواطنة بأنها اصطلاح يشير إلى الانتماء إلى أمة أو وطن و في قاموس علم الاجتماع المواطنة هي مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي و مجتمع سياسي و من خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء و يتولى الطرف الثاني الحماية، و تتحدد العلاقة بين الفرد و الدولة عن طريق القانون.
إذا كان تأسس الدولة أقترن بضرورة حماية الحقوق الطبيعية و تحويلها إلى حقوق مدنية تتجلى في فكرة المواطن إذ يجعل اسبينوزا من تأسيس الدولة غاية محددة و هي تحقيق الحرية إذ يقول في هذا السياق في كتابه رسالة في اللاهوت و السياسة: "إن غاية الدولة لا تتمثل في جعل البشر يمرون من وضع الكائنات العاقلة إلى وضع السائم... إذن فغاية الدولة في الواقع هي الحرية.. "
فإن هذا التحديد يمكن لنا أن يقدم حقيقة المواطن أو خصائص المواطن: فما يمكن أن تكون هذه الخصائص.
مكونات المواطنة = للمواطنة عناصر ومكونات أساسية ينبغي أن تكتمل حتى تتحقق المواطنة وهي التالية:
الانتماء = إذ إن من لوازم المواطنة الانتماء إلى وطن و الانتماء هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس و إخلاص للارتقاء بوطنه و الدفاع عنه. و من مقتضيات الانتماء أن يفتخر الفرد بوطنه و أن يدافع عنه و يحرص على سلامته أما المكون الثاني لمفهوم المواطنة هي منظومة الحقوق و الواجبات:فمفهوم المواطن يتضمن حقوقا يتمتع بها جميع المواطنين و هي في نفس الوقت واجبات على الدولة و المجتمع و منها:
- ضمان الحريات الشخصية مثل حرية التملك و حرية العمل و حرية الاعتقاد و حرية الرأي.
- ضمان العدل و المساواة و توفير الحياة الكريمة و الخدمات الأساسية من صحة وتعليم.
في مقابل الحقوق التي يتمتع بها المواطن عليه واجبات فمثلما واجبي هو حق عند غيري فإن حقوقي هي واجبات عند غيري. و لئن ارتبط مفهوم الحق بالحرية فإن الواجب كمفهوم أخلاقي ارتبط بالإلزام و من أهم الإلزامات هو احترام حرية الآخرين و الدفاع عن الوطن و الانتخاب.
نستطيع أن نقول أن رغم تعدد الخصائص التي تحدد مفهوم المواطن فإن أهم ملامح فكرة المواطن هي فكرة الحقوق و الواجبات. و أن علاقة الدولة بالمواطن تقوم على أساس هذه العلاقة. إذ الدولة وجدت من أجل حماية حقوق الأفراد و هو ما عبر عنه فلاسفة العقد الاجتماعي عندما جعلوا الغاية من الدولة هي ضمان الأمن و السلام مع هوبز وحفظ بقاء الأفراد أو حماية حقهم في الحياة و حماية حرياتهم و ممتلكاتهم في مقابل هذه الضمانات التي تقدمها الدولة لمواطنيها، هم مطالبون بجملة من الالتزامات أو الواجبات ذلك: "أن الحرية تحتاج إلى حدود و أن إذا استطاع أحد الناس أن يضع ما تحرمه القوانين فقد الحرية، و ذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما فعل. "
فأهم الواجبات هي احترام القوانين واحترام حدود الحرية. فالواجب في علاقة الدولة بمواطنيها أن تقوم على أساس الاحترام المتبادل كما يسمح ضمان الحرية وتجنب مخاطر الاستبداد والاغتراب السياسي حتى يكون الإنسان مواطنا حقيقيا حر التفكير ومضمون الحقوق.
هذا ما راهن عليه الفكر السياسي في عصر الأنوار وهذه الفكرة التي سعت رسمها الفلسفة السياسية للمواطن والدولة، مواطن إنسان يتمتع بكل حقوقه السياسية و المدنية والاجتماعية والاقتصادية و دولة تتبنى على أساس المشروعية و الإرادة العامة وإستمراريتها مشروطة بمدى استجابتها للإرادة العامة مستندة في ذلك إلى سلطة القانون و قوته. رغم ما يثيره الجمع بين القانون و القوة من مشكل في الدولة ذلك أن الدولة بهذا المعنى تحتاج لتطبيق القانون إلى نوع من القوة و هذه القوة هي ما يسمى بالعنف المشروع و قد اعتبر ريكور في كتابه التاريخ و الحقيقة أنه "ظهر مع الدولة ضرب من العنف له سمات شرعية و هذا الجمع بين القانون و الدولة يمثل مشكلا. "
لكن مهما تكن الصعوبات فالمهم في هذا الجمع هو حماية المواطن و حقوقه من الاعتداءات.
فإذا كانت الدولة حريصة على تحقيق فكرة المواطنة فكيف حال المواطن في ظل الحضارة المعاصرة و الدولة الصناعية وهل استجابت فكرة المواطن في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد للمواطن الحقيقي أم أن الإنسان ذو البعد الواحد ما هو إلا صورة مقلوبة عن المواطن؟
III- في التمييز بين المواطن و الإنسان ذو البعد الواحد:
نتبين بالعودة إلى كتاب ماركوز الإنسان ذو البعد الواحد و محاولة إختبار صورة المواطن على ضوئها أن ملامح حضارة التصنيع و ما تميزت به من تركيز على المنفعة والمردودية والحسابية التقنية في مقابل استبعاد القيم مثل الحرية أدى إلى تشظي صورة الإنسان و من خلفها صورة المواطن و بدأت أعراض الحضارة بما تحمله من أمراض تنتقل إلى المواطن.
فما هي ملامح حضارة التصنيع و كيف ساهمت هذه الأعراض في تفتت فكرة المواطن و أين تظهر ملامح هذا التفتت؟
أ- ملامح حضارة التصنيع و تشظي المواطن:
تتميز حضارة التصنيع كما أبرزها ماركوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، بأنها حضارة يغلب عليها مبدأ المردودية، وأن علاقة الإنسان بالإنسان هي علاقات نفعية عقلانية مجردة تعاقدية نفعية براغماتية شرسة و تهيمن في ظل هذا التصور رؤية للإنسان بأنه ذو بعد واحد، إنسان طبيعي مادي يختزل إلى قوانين الطبيعة و يخضع إلى حتمياتها ويصبح جزء لا يتجزأ منها. و تظهر الرؤية النفعية للإنسان من خلال العملية الاستهلاكية التي تقوم بتغيير وجه العالم و الحياة الاجتماعية و تحول كل شيء إلى سلعة بحيث يصبح لكل شيء مقابل و خاضعا للتبادل النفعي. و قد تحدثنا عن هذا الجانب المتشيء والمغترب للإنسان في العنصر المتعلق بالبحث في معنى الإنسان "ذو البعد الواحد" فكل شيء في هذا المجتمع خاضع للنظام غير أن النظام بهذا المعنى هو عنصر إفساد. فهل يمكن أن نتحدث عن مواطن في ظل هذا النظام؟
لو تتبعنا السياق السياسي الذي من المفروض أن تتحقق فيه المواطنة لوجدنا أنه ملغم بالعديد من الانتهاكات فإذا كان شرط تحقق المواطن هو تمتع المواطن بأهم حقوقه مثل الحرية و الديمقراطية واحترام إنسانية الإنسان فإن خاصية المجتمع الصناعي و سياسة البعد الواحد "يلقى تحبيذا من صناع السياسة" فتقنيات التصنيع هي تقنيات سياسية و من هنا فإنها تدين سلفا أهداف العقل و الحرية".
فما تعمل عليه القوة السياسية داخل المجتمع ليس حماية الحرية الإنسانية بل تسعى إلى إلغائها عبر ممارستها لأنواع من الرقابة والإخضاع للنظام فالحكومة كما يقول ماركوز لها دور قوة "الرقابة"
إذا كان المطلوب هو التعددية داخل المجتمع السياسي الديمقراطي فإن البعد الواحد قد ألغى فكرة التعددية السياسية بقضائها على برامج المعارضة. و هو ما حول: "برامج الأحزاب الكبيرة التي بلغت درجة متماثلة من الرياء. "
بحيث لا يستطيع المواطنون التميز بين الأحزاب لقوة اتحادهم و تماثلهم مما يعسر إمكانية التغيير الاجتماعي و الإبقاء على نفس النظام القائم و يحصل اندماجا سياسيا. وإذا كان من حق المواطن حرية التفكير و التعبير فإن المجتمع السياسي الصناعي من خلال العقلانية التكنولوجية يطمح إلى تصفية العناصر المعارضة والمتعالية في "الثقافة الرفيعة" بما يحجب عنها القدرة على إبراز مظاهر التناحر والاختلال في الواقع الاجتماعي لأن هذه الثقافة آخذة في التلاشي لتحل محلها ثقافة استهلاكية تنتج بكثرة وتستهلك بكثرة سواء كانت موسيقى أو أدب "لأن أدب المجتمع الصناعي ليس مهمته نفي النظام القائم بل توليده. " وحتى كلمات الحرية التي يلفظها الزعماء والسياسيون في حملاتهم على الشاشات مجرد كلمات دعائية لا معنى لها. " وحتى اللغة أصبحت مجرد لغة آمرة ومنظمة "وهي التي تحث الناس على العمل و الشراء والقبول. "
إن كل هذا لا يمكن أن يعكس إلا صورة لإنسان خاضع مسلوب التفكير و الإرادة والكلام إنهم مجرد سوائم وليس مواطنون لأن المواطن من حقه أن يعبر بحرية و يفكر و يقبل و يرفض و يتصرف بحرية غير أن المجتمع الأحادي يسلبه كل هذه الحريات بمختلف أنواعها و لن يبقى لديه من حق سوى حق القبول و الامتثال. فأين هو المواطن أمام هذا الزخم من الإملاءات والتجاوزات؟ و إذا كان شرط المواطن هو تمتعه بالديمقراطية فإن ديمقراطية النظام الصناعي: "هي التي تلغي بنفسها وبكل دعة واطمئنان مبادئ الديمقراطية. "
نستطيع أن نلخص جملة الانتهاكات السياسية كما يلي فرض الرقابة والتحكم والتلاعب عبر اللغة ووسائل الدعاية، مراقبة لصيقة على كل إنسان أو مواطن وتشجيعه فقط على القبول و منعه من حرية الاختيار والرفض والتميز وتلخيصه في منظومة الخضوع والطاعة والاستهلاك. أما السياسيون فهم في وضعية تتميز
"باستقلالهم تجاه الإرادة الشعبية الذي صار متعاظما وهذه الإرادة أبعد ما تكون عن السيادة و الاستقلال الأصليين. " فتحول الشعب إلى ضحية ألاعيب السياسيين و تزييفاتهم من خلال حضورهم المتواصل في الشاشة بحيث أن المواطن لم يعد حرا حتى في وقت فراغه "لأن أوقات الفراغ ما تزال جزءا من السياسة و السيطرة و الهيمنة. "
إن المواطن قد تكيف و تضاءلت أبعاده و تقلصت حرية تفكيره و تحول عقله من عقل ناقد إلى عقل إيجابي متكيف مع الواقع القائم. إن ما يمكن الخلوص إليه أن حضارة التصنيع تتميز باللاعقلانية غير أن هذه اللاعقلانية أصبحت تتمتع بحق المواطنة و أن هذه الحضارة توجد في مأزق كبير لأنها تغافلت عما يصير به الإنسان إنسانا و هو كرامته التي ضاعت قداستها. فهذه الحضارة اتسمت بوأد القيم الإنسانية تحت ركام اقتصاد المزاحمات مقابل انتصار قيم التنافس و المردودية والنفعية والاحتكار و هو ما ساهم في نماء التدرج الخلقي و تعارض المصالح و انعدام روح المواطنة والتعاون و أمسى المجتمع ذو بعد واحد مجتمع الإنتاج من أجل الإستهلاك والتجارة من اجل إنماء الدخل لتتحول التجارة من تبادل لإرضاء الحاجات الحياتية إلى صراعات تقتضي العنف و التحايل و الخداع و التركيز على القوة العسكرية التي تطورت من أداة للدفاع عن النفس والأوطان إلى آداة لسيطرة و التهديد و فرض الرأي و البضاعة والفكر والإيديولوجية. فكيف انعكس التقدم التقني على صورة المواطن؟
-ب- فكرة المواطن على ضوء التقدم التقني:
نخلص إذن مما سبق أن ملامح المواطن داخل المجتمع ذو البعد الواحد تميزت بتسارع خطواتها نحو هاوية اللاعقل والتشيؤ والاغتراب عن طريق عقلها الأداتي، هذا العقل الذي استفرد بحياة الإنسان الاجتماعية من خلال طبيعته السلطوية العنيفة الآمرة و حولها إلى مجرد نسق انبطاحي و أمام خواء قيمي مقابل تزايد مفرط أمام نزعة استهلاكية زائفة و حاجات زائفة و صناعة اللذة والتسلية. أمام كل هذا تشظت فكرة المواطن و أصبحت تئن تحت تأثير وسائل الدعاية و أشكال التسويق و أنماط السلوك المرتبطة بنظام إنتاج صناعي و رأسمالي.
حصرت علاقات الناس ببعضهم عن طريق عقل حسابي نفعي. فإذا كان من أبعاد المواطنة التضامنية هو تنازل المواطنون عن أنانيتهم ووضع المصلحة العامة قبل أي اعتبار حفاظا على الوطن، فإنه لم يعد ممكنا الحديث عن المواطن. إذ كيف لمجتمع يربي أفراده على حبهم لذواتهم و منافعهم و مصالحهم الخاصة و تحقيق سعادتهم على حساب شقاء الآخرين أن يصنع منهم مواطنين أحرار؟
يبدو أن فكرة المواطن في المجتمع الصناعي آخذة في التلاشي و لن يبقى من المواطن سوى الأسير. لكن هل من أمل في تحرير هذا الأسير و إرجاعه لحالة المواطن؟
يبدو أن ماركوز غير متفائل لاسيما وأن "المواطن الأسير" يحمل ثقافة الجلاد، مثقل بأصفاده، إذ أصبح الأجراء و العمال يتدثرون بقيم و حاجيات زائفة فهم مجرد أدوات خاضعة للنظام و عقولهم المستسلمة لم تعد تقدر على التغيير و الثورة لأنها انخرطت في هذا النظام و حصل تزييف في وعيها بواسطة التماثل "فإذا كان العامل و رب العمل يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني و إذا كانوا جميعا يقرؤون نفس الصحيفة فإن هذا لا يدل على زوال الطبقات و إنما يشير على العكس إلى مدى مساهمة الطبقات السائدة في تحديد الحاجيات... " (1)
فإذا كان هؤلاء مشغولون بالاختيار بين تشكيلة هائلة من البضائع و الخدمات فإنها تظل مجرد حرية وهمية زائفة "إذ أن قدرة المرء على اختيار سادته بحرية لا تلغي السادة و لا العبيد. " (2)
و بالتالي لا سبيل إلى تحرر هذه الطبقة بعد أن تماثلت و خضعت في دولة الرفاهة التي لم تنجز سوى افتقاد الحرية في إطار ديمقراطي. إن الحرية الوحيدة المتبقية "للمواطن الأسير" هي رضاءه التخلي عن حريته بكل ديمقراطية. فإذا كانت بداية المجتمع الصناعي قد تأسست على الحقوق و الحريات فإن مرحلة متقدمة تصبح ما به قام المجتمع لا قيمة له أمام تصاعد وتيرة الإنتاج و الإستهلاك. فهل من مخرج لمواطن فقد مواطنته؟
إذا كان ماركوز قد فقد ثقته في الطبقة العاملة باعتبار اندماجها في النظام القائم فإنه يجعل باب الأمل مفتوحا أمام المعطلين والمهمشين في المجتمع الصناعي لإحداث تغيير؟ فهل معنى ذلك أن المواطن الحقيقي هو الإنسان المهمش باعتباره لزال قادرا على الرفض و التمرد و الثورة و قول "لا" أمام السلطة الاستبدادية؟
إن الوعي بالأخطار و بحجم الاغتراب هو الذي يمكن أن يدفع باتجاه التعبير عن المأزق و تكوين رأي عام يتوق للتحرر من الإستيلاب. حتى يتمكن المواطن من استعادة مكانته الحقيقية باعتباره إنسانا له واجبات داخل الدولة يجب احترامها و هو حقه في التعبير و النقد و التفكير وحقوقه المتعلقة بحياة كريمة و لا يتم له ذلك إلا بوضع برنامج تحريري يقطع مع صورة الإنسان ذو البعد الواحد، وذلك بالقطع مع ما هو كائن وفضح الفوضى الفكرية و الأخلاقية و السياسية والاقتصادية التي تقصي القيم سواء كانت جمالية أو أخلاقية، إذ من المفروض أن حضارة التصنيع جاءت من أجل تيسير حياة الناس و لكي تعمم الرخاء و تنشر الحرية و الديمقراطية لا أن تجوع المواطن و تستعبده و تسلبه حقوقه و تحوله إلى مجرد بهيمة.
و أسوء ما في الأمر حلول الانغلاق في المجتمع من خلال تعميق الهوة بين أقلية في يدها الحل و العقد و اتخاذ القرار و خضوع وسائل الاتصال الجماهيري من ثقافة و فن و إعلام تحت سلطة هؤلاء. لقد فات الأوان، إذ انفلتت التقنية من قبضة الإنسان و عوضا أن يصارع بها إنه يصارعها.
لذلك لا بد من مراجعة الأوضاع و نقدها و إيجاد منظومة قيم تستطيع أنسنة الحضارة وإنقاذ المواطن من البعد الواحد حتى يتمكن من استرداد كل حقوقه التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأن حقوق الإنسان من حقوق المواطن. فهل تنجح الفلسفة في إنقاذ ما هدمته التقنية عندما تعيد التفكير في مسألة المواطن؟.
هوية حضارة التصنيع وآليات اشتغالها:
لقد بدأت اللاعقلانية تتمتع بحق المواطنة. فحضارة التصنيع بما هي راهنة تعاني أزمات خانقة و مآسي خطيرة لأنها تغافلت عما يصير به الإنسان إنسانا عندما نظرت إليه كوسيلة لا كغاية وذلك من خلال الإمعان في إرباك هذا الإنسان والتجرؤ عليه بطريقة الترصد والإصرار على اغتيال ماهو إنساني فيه عبر منهج يعتمد على الآليات التالية:
- وئد القيم الإنسانية تحت ركام اقتصاد المزاحمات.
- انتصار أخلاق التنافس و المردودية و النفعية و الاحتكار.
- تغذية الفوارق بين أبناء المجتمع الواحد وتنميط العلاقات حسب المصالح مما يساهم في انعدام الشعور بروح المواطنة و التعاون.
- طغيان المصالح الخاصة و ما تفرضه على الجميع من التعامل بطريقة ذرائعية وحذرة وانتهازية.
- المجتمع ذو البعد الواحد مجتمع الإنتاج من أجل التجارة و الإستهلاك و إنماء الدخل بما يحول التجارة من تبادل لإرضاء الحاجات الحياتية إلى صراعات تقتضي العنف و التحايل و الخداع و التركيز على القوة العسكرية لضمان البقاء الاقتصادي.
فهل من مخرج؟
بعد تراجع العقلانية المطلقة كان الاعتقاد أن التكنولوجيا هي المنقذ. فبعد التفاؤل، جاء وقت الحيرة والتساؤل عن نجاعة التقنيات الجديدة التي غزت علوم الطبيعة، كما غزت علوم الإنسان.
- وهاهي التقنية تحول الإنسان من وضع السيادة والسيطرة والعمل إلى وضع البطالة والتهميش وتوسد قارعة الوجود. إن إنسان العولمة غارق في عزلة بلا انتماء و لا أفق، حاقد على المجتمع و الحضارة الصناعية لأنها نفته في فردانية خانقة بلا حضور لا في الحضارة الإنسانية و ا الثقافة القومية ولا داخل ذاته لا سعادة و لا اطمئنان و لا مسالمة حضارة بلاأنسنة ولا إنسان.
- إن المنظومات الغربية القائمة على الأجهزة المصرفية و قنوات التبادل التي تخلق حاجات جديدة على حساب الحاجات الضرورية للعيش، تحتكر السوق، و ترفع أثمان بضاعات وتخفض أخرى حسب مصالح الشركات القومية الكبرى و المتعددة الجنسيات.
وهو ما أ وصل الحضارة ذو البعد الواحد إلى طريق مسدود هاجسها الأوحد التسلح للدفاع عن المكتسبات الصناعية، فلا بد أن يحتاط كل طرف فيتسلح أكثر و يراقب عن كثب إمكانية الآخرين الاقتصادية والعسكرية. و من الدبلوماسية ما انقلبت إلى جوسسة. وحولت الطاقات الفكرية و المادية للحضارة إلى استعداد دائم للصراع ولم يعد من حديث سوى عن الحروب الإستباقية وما تحمله من مصير مرعب وإفناء للبشرية. إن المنحدر الخطر الذي سقطت فيه الإنسانية هو نوع من الخطيئة الثانية الذي يستدعي التكفير عنها وسائل عمل مشتركة تبدأ:
- بلحظة الوعي بهول الأخطار كما هي. للتعبير عن هذا المأزق بشكل واضح و تكوين رأي عام يتوق للتحرر من الاغتراب والإستيلاب.
- في مقابل تصور صعوبة إيجاد البديل المتمثل في استعادة المواطن الحقيقي مقابل المواطن الزائف و الوهمي يجب وضع برنامج يقاوم انحرافات حضارة التصنيع و حضارة الإنسان ذو البعد الواحد.
- قطع مع ما هو كائن: لكن يجب أن لا يأخذ ذلك على أنها دعوة لمحاربة التقنية و التقدم بل لا بد أن يستهدف فضح الفوضى الفكرية و الأخلاقية التي تبعد عن القيم الإنسانية الشاملة من جراء هيمنة التكنولوجيا و المنافسة..
- تحرير الوسائل الإعلامية والثقافية من هيمنة و رقابة رأس المال وتحويلها من ملكية لأقلية سياسية واقتصادية ذات مصالح ضيقة إلى ملكية جماهرية ديمقراطية همها الدفاع عما يكون به الإنسان إنسانا وفضح كل أشكال التعديات والانتهاكات التي تحصل في مجتمع ما بمعنى أن تصبح الثقافة بمختلف أشكالها أكثر إنسانية وأكثر كونية حتى تتمكن من تحطيم تنين العولمة الظالم. قد يرى البعض أنه فات الأوان بانفلات التقنية من قبضة الإنسان إذ عوض أن تكون أداة مصارعة الإنسان في الانتصار على قوى الطبيعة القاسية تحولت هي ذاتها إلى وسيلة تساهم في قتل الإنسان
. لذلك لا بد من مراجعة الأوضاع و نقدها و إيجاد منظومة قيم تستطيع أنسنة الحضارة وإنقاذ الإنسان من البعد الواحد.
.....................
المراجع:
1- هاربرت ماركوز: "الإنسان ذو البعد الواحد". ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب - بيروت - الطبيعة الثالثة. 1988.
2- علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت من هوركايم إلى هابر ماز. منشورات مركز الإنماء القومي - بيروت - لبنان، الطبعة الأولى.
3- محمد سبيلا: "الحداثة و ما بعد الحداثة": دار توبقال للنشر. الدار البيضاء.
4- حسن مصدق: "مدرسة فرانكفورت".
5- الموسوعة العربية العالمية.
6- ماركوز: "العقل و الثورة"، ترجمة إبراهيم زكريا، بيروت
7- ماركوز: "إيروس وحضارة"
8- إمام عبد الفتاح: "هوبز فيلسوف العقلانية" القاهرة 1985.
9- كارل ماركس: "المسألة اليهودية" دار مكتبة الجيل بيروت.
10- مونتسكيو: "روح القوانين" ترجمة عادل زعيتر. القاهرة 1953.
11- اسبينوزا: "رسالة في اللاهوت و السياسة" ترجمة حسن حنفي: القاهرة 1971.
12- الوثيقة العالمية: "لإعلان حقوق الإنسان".
Christian Godin: Dictionnaire de philosophie: Fayard / Editions du Temps، 2004.
Paul Ricœur: Histoire et vérité: Collection Esprit / Seuil، Paris 1955.
Hannah Arendt: Les origines du totalitarismes، t، 2: L'impérialisme، Ed، Fayard.
Paul Ricœur: Le conflit des Interprétations، Ed، Seuil.
Jean، Jacques. Rousseau: Du contrat Social. Garnier Flammarion.
Habermas: La technique et la science comme « idéologie، ed، Gallimard، Paris، 1973.
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1195 الاثنين 12/10/2009)