قضايا وآراء
المواطن والإنسان ذو البعد الواحد
إيديولوجيا أمكن من خلالها أحكام قبضتها على الإنسان، وتحويل عقله من عقل أنواري إلى مجرد عقل أداتي. وقد نجح ماركوز في الكشف عن عنف الاستغلال النسقي للطبيعة والإنسان. فالفكر تم احتواءه من قبل السلطة وجرد من حق الرفض وأصبح سلعة واللغة بدورها تشيأت ولم تعد تمثل مأوى الوجود ومسكنه وإنما أداة للإشهار السلعي تمر عبره تربية الجمهور وتطويعهم مما يهيئ لحمق سياسي. وتم تسخير العلم لممارسة التسلط التي ازدادت حدتها في الواقع الاجتماعي، فإرساء قوانين عامة للظواهر الطبيعية تلاه نقل القالب نفسه الذي مهد لإخضاع الشعوب وفقا لمراسيم وقوانين المستبدين، وإخضاع المواطنين لأوامره وقوالبه مجندا إياهم تجنيدا شموليا تنظمهم على الشاكلة نفسها وتتحكم بهم قسرا. وحتى العلوم الإنسانية لم تسلم هي الأخرى من التسخير من طرف السلطات السياسية والاقتصادية. "فمثل هذا المجتمع قد يتطلب تقبل مبادئه ومؤسساته. فلا يعود من دور للمعارضة غير مناقشة الاختيارات والحلول السياسية البديلة والبحث عنها داخل الوضع القائم وسواء كان النظام مستبدا أم غير مستبد، فليس لذلك من أهمية مادام يعمل على التلبية المتدرجة للحاجيات. "ص38
إن هذه الصورة الحقيقية للمواطن في عصر التقنية هي التي دفعتنا لاختيار كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد "من أجل اختبار الوضع الحقيقي للمواطن، خاصة ونحن نشهد عصرا يكثر فيه الحديث عن حقوق المواطن داخل الدولة وضرورة احترام مبدأ المواطنة حتى أصبح تقدم الدول وحداثتها مرهون بمدى استجابتها لاحترام مواطنيها. فهل نجد حقا مثل هذا التقديس للإنسان والمواطن بصفة خاصة داخل الدول الصناعية أم أن مواطن هذه الدول حاله حال المجتمعات النامية يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف صناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك؟
لما كانت المواطنة هما فلسفيا بامتياز انشغل بها مؤسسو الفلسفة السياسية الحديثة واعتبروها من مقومات الدولة الحديثة نظرا لارتباطها بقيم الحرية والمساواة والمسؤولية وابتغاء الخير العام، فإنه لابد من ربطها بأصلها وهو الإنسان حتى نفهم مدى استجابة فكرة المواطن لطموح الإنسان في أن يعيش الحرية والعدالة والمساواة. وهو ما يدفعنا للبحث والتساؤل عن طبيعة علاقة الإنسان بالمواطن. فمن المفارقات التي يخفيها الموجود الإنساني أنه ينتمي لمملكة الطبيعة وللعالم الحسي التجريبي من جهة، ولمملكة الحرية والعالم العقلاني من جهة أخرى. فهو حيوان سياسي معرض للأهواء وفساد المآل من ناحية أولى وكائن عاقل يتوق إلى السمو والتجاوز ويقدر على احترام مقتضيات العقل والالتزام بالمواثيق والعهود من ناحية أخرى، إنه يتواتر بين الحقوق والواجبات، وهو كائن يملك فردية وخصوصية ويدافع عن حريته وهو كذلك يحتاج للاجتماع مع الآخر، وهذا الاجتماع يفرض عليه جملة من القيود. إن هذه التوترات الاحراجات هي التي تشرع لضرورة استنطاق الوجود الإنساني وتنزيله المنزلة التي يستحقها والتعرض للصعوبات التي تثيرها مسألة اندراجه ضمن عالم قيمي وسياسي وحتى اقتصادي. وقد آثرنا كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد " لأنه يكشف هذه المفارقة.
فما مدى أصالة الإنسان المواطن في مجتمع الإنسان ذو البعد الواحد؟ وهل نحن في حقبة المواطن خاصة وأن هذا العصر لا يدعي لنفسه أنه نجح في ترسيخ مبدأ المواطنة فحسب بل تعداها للحديث عن المواطن العالمي في ظل انتشار ثقافة حقوق الإنسان. فهل نجحنا حقا في ترسيخ مبدأ المواطن؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد أن نتعرف لأهم التحولات التاريخية التي أوصلت الإنسانية إلى فكرة الإنسان من جهة وفكرة المواطن من جهة أخرى، خاصة وأن مبدأ المواطن لا يمتلك مشروعية إلا داخل نظام سياسي بمعنى آخر داخل الدولة، على خلاف مفهوم الإنسان الذي يبدو أكثر عمومية أو هو مفهوم متعالي ومجرد وبالتالي فهو ليس مشروط بزمان أو مكان محدد. فمفهوم الإنسان يبقى تصورا قبليا على خلاف المواطن الذي يتمتع بقبلية ولكنها عملية بما أنه يتنزل في سياق حقوقي وسياسي. ومما يعقد المسألة أن البعض يعتبر أن سؤال ما هو الإنسان هو سؤال حديث طرحه كانط في كتاب "المنطق" عندما رد الأسئلة التالية:
- ماذا يمكنني أن أعرف؟
- ماذا يجب علي أن أفعل؟
- ما الذي يجوز لي أن آمل
إن السؤال المركزي في الفلسفة هو سؤال "ما الإنسان"؟ وبالتالي فإن الإنسان كما يقول فوكو في" كتابه " الكلمات والأشياء " في الفصل المخصص للعلوم الإنسانية "الإنسان مخلوق جديد في الحقل المعرفي واختراع حديث العهد أبدعه العلم"، ويؤكد أن ما كان موجودا قبل القرن الثامن عشر ليس الإنسان بل العالم والكائنات البشرية والنظام أما الإنسان فقد كان غائبا. والفلسفة عبر مختلف أشكالها قد رسخت هذا النسيان. إذ قامت الفلسفة الإغريقية على تمجيد الطبيعة ونظام الكوسموس المتميز بالتفاضل والتناغم وعلى اعتبار الموجود البشري خلية صغرى ضمن النظام الكلي للعالم. في حين كان مفهوم المواطن حاضرا آن ذاك. فقد وردت كلمة المواطن في كتابات الفلاسفة القدماء إلى جانب كلمات الأمة والشعب كتعبير عن أفراد المجتمع، مما يدل على أبعاد المواطنة وأهميتها منذ القديم. غير أن المواطنة اليونانية كانت مشروطة بعدة شروط، فانبنت على التفرقة والتمييز ولم تشمل كل الناس بل انحصرت في فئة معينة انطلاقا من الانتماء الجنسي والعرقي والطبقي وبقي الأطفال والنساء والغرباء والعبيد والمرضى خارج دائرة الإنسانية والمواطن. ولم يسمح بالحراك السياسي وظهرت نظرة سكونية للأشياء وللأشخاص دعمها الفكر الديني في القرون الوسطى عندما اعتبر التقوى إحدى مقومات الشخصية الإنسانية وعندما أصبحت الملكية تحدد إنسانية الإنسان، فالإنسان إنسان بقدر ما يملك، يملك ذاته ويسيطر على نوازعه ثم يملك سلطانا على الأشياء أما العبيد فهم خارج دائرة الإنسانية و المواطن لأنهم ملك لغيرهم. أما الحق الإنساني فهو تابع للحق الإلهي أو لحق الأقوى ولم يكن شاملا أو كونيا بل كانت المساواة في عدم المساواة. ولئن انبنت النظرة القديمة للإنسان والطبيعة على التراتبية والتفاضل وأنشأت خطاب سياسي يحتقر الإنسان العادي ويبحث عن أفضل النظم فإن النظرة الحديثة انطلاقا من رؤيتها العلمية والآلية قد أحدثت قطيعة مع التصور الأنطولوجي واستبدلته بتأسيس أنتروبولوجي ينطلق من فكرة الطبيعة الإنسانية في حالة الطبيعة ومبررات انتقالها للحالة الاجتماعية من خلال العقد الاجتماعي ولم يكن ذلك ممكنا إلا بتصور الأفراد على أنها مجرد قوى متصارعة من أجل حفظ الكوناتوس.
هذا التساوي في القوى سيؤدي إلى إلغاء النظرة التراتبية للإنسان وهو ما سينعكس فيما بعد على مفهوم الفرد داخل الدولة أو المواطن. ومن هنا ستنشأ فكرة المواطن الذي سيحدد من خلال منظومة الحقوق والواجبات بتعميم مبادئ الحرية و العدالة والمساواة دون تمييز. فهل معنى ذلك أن مفهوم المواطن لا يكتسب دلالته الحقيقية إلا داخل مؤسسة الدولة؟ بمعنى آخر هل عندما نكون خارج الدولة لا نكون مواطنون وعندما نكون داخل الدولة نكون مواطنون؟
أليس "الإنسان ذو البعد الواحد " هو داخل الدولة ولكنه في نفس الوقت قد فقد هويته كمواطن؟ ثم أليس الإنسان ذو البعد الواحد هو إنسان المجتمعات الصناعية التي انبنت على أسطورة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمواطن هي نفسها التي تنتهك المواطن وحقوقه فكما يقول ماركوز "الديمقراطية هي التي تلغي بنفسها وبكل دعة واطمئنان مبادئ الديمقراطية". وعلى الرغم من تبني مفهوم المواطن في كافة الدساتير والبرامج السياسية والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان فإن هذه الفكرة الجذابة والجميلة للمواطن وكأنها ظلت مجرد نوايا حسنة لا تعكس صورة المواطن كما هو في الواقع الدولي. فأمام تضخم مقولات حقوق الإنسان والمواطن في مستوى نظري وتكثف حضورها في الخطاب السياسي، لم يعادله نفس الاهتمام في الواقع. فهاهي المجتمعات الصناعية المتقدمة كما يرى ماركوز "تتطور نحو مجتمعات مغلقة بدون معارضة"، إنه مجتمع ينحو نحو التوتالتارية بسب مركب علم - تقنية- إدارة وأشكال جديدة للمراقبة وهو ما يعني أن ما يسمى بالعلم والتقنية هي مشبعة بالإيديولوجيا وتختلط بالسياسي والاجتماعي. وكتاب ماركوز بما يحمله من توصيف لواقع تداخل فيه العلمي بالتقني والسياسي يوفر لنا أرضية نقف عليها للبحث عن دلالة المواطن ومنزلته كما نظرت له الفلسفة السياسية الحديثة ثم اختبار هذه المنزلة على ضوء ما جاء في كتاب ماركوز "الإنسان ذو البعد الواحد" من تشخيص لحالة المجتمع الصناعي الرأسمالي. فهل نجح هذا المجتمع في صناعة صورة مثالية وراقية للمواطن أم أن رغم ما تدعيه هذه المجتمعات من تقدم علمي وتقني وادعاء باحترام لحقوق الإنسان لم يعمل في حقيقة الأمر إلا على تشظي فكرة المواطن والعمل على سحقها تحت ركام الإنتاج والاستهلاك لتظل فكرة المواطن مجرد صورة واهمة لا توجد إلا في خيال الفلاسفة ومنظري السياسة؟ ما هو مفهوم المواطن والقيم المرتبطة به؟ وما علاقة المواطن بالإنسان ذو البعد الواحد هل توجد مسافة وتباعد بينهما أم أن المواطن ما هو إلا الإنسان ذو البعد الواحد؟
ولعل المعضلة الأكبر تتمثل في ارتباط ترسخ مفهوم المواطن بتقدم المجتمعات الصناعية وفي نفس الوقت سعي هذا المجتمع إلى تربية أفراده على حبهم لذواتهم وحبهم لمنافعهم ومصالحهم الخاصة وتحقيق سعادتهم على حساب شقاء الآخرين. فهل يمكن لمثل هذا المجتمع أن يصنع منهم مواطنين أحرار؟ وهل يمكن القول أن ما يكشف عنه ماركوز هو تقلص المسافة المفترضة بين المواطن الحقيقي والإنسان ذو البعد الواحد. فهل من مخرج لهذا المأزق الذي وقع فيه المواطن؟ وكيف يتحقق ذلك؟ هل بإعلان الثورة على هذه الصورة النمطية للمواطن الذي فقد بشكل هادئ مواطنته خاصة وأنه لم يعد له ما يخسره سوى أغلاله؟ أم أن الثورة على هذا الوضع بات مستحيلا ومستبعدا في عالم يخشى أن يفقد مع الثورة امتيازاته؟ وما نراهن عليه في هذا البحث هو كشف زيف ادعاءات العقل التقني بأنه بلغ مرحلة من احترام الإنسان و حقوق المواطن إلى مرحلة نهائية ومثالية وكشف حقيقة الديمقراطية بلغة ماركوز التي أصبحت كما يقول "إن الديمقراطية تدعم السيطرة بشكل أقوى من الحكم المطلق ".
في التمييز بين الإنسان والإنسان ذو البعد الواحد
-أ- ما هو الإنسان؟
يعتبر سؤال "ما هو الإنسان؟ " من أعقد الأسئلة وأصعبها لتناقض الفلاسفة فيما بينهم وعجزهم عن إيجاد تعريف موحد له ولعل هذه الصورة تؤكد أن الإنسان في الفلسفة ليس إنسان أحادي البعد بل متعدد الأبعاد والدلالات إذ لو كان الإنسان أحادي البعد لاتفق الفلاسفة فيما بينهم على إيجاد تعريف موحد له. وإذا انطلقنا من القرن الثامن عشر الذي عرف انشغالا حقيقيا بالإنسان كما أشار إلى ذلك ميشال فوكو، والقرن الذي سبقه وهو عصر الثورة العلمية، فإن ملامح هذا العصر عرفت تحولات كبيرة من بينها توحيد قوانين الطبيعة وفي نفس السياق تم إدراج الإنسان ضمن جسم اجتماعي واقتصادي وسياسي، ووحد ديكارت كل البشرية تحت نفس الصفة وهو العقل وأعلن أنه أعدل الأشياء قسمة بين الناس وقام بتحديد الإنسان انطلاقا من جوهرية التفكير فتحول الإنسان إلى مفهوم جوهري وكوني وفي نفس السياق تم كسر التحالف القديم بين الإنسان والطبيعة واستبدلت بمقولة الغزو والسيطرة وحددت أهداف الإنسان "أن يصبح سيدا على الطبيعة ومالكا لها" فأعلي من شأن الإنسان وتمجيد الذات وبدأت تتشكل صورة ريادية للإنسان تتمحور حول الذاتية والفردية والحرية، وتمخض عن هذا الاهتمام خطاب فلسفي يجعل من سؤال "ما هو الإنسان"؟ السؤال الفلسفي بامتياز الذي أدان كل التصورات الميتافيزيقية والدينية والأخلاقية التي تراكمت حول مفهوم الإنسان والذي أرخ لانحلال نمط من التفكير وبشر بنهوض نمط جديد يقلص من حضور الإله في العالم ويكثف من حضور الإنسان. وحتى عندما حاولت العلوم الإنسانية دراسة الإنسان بتحويله إلى كائن اقتصادي واجتماعي وسياسي فإن هذا يؤكد على الإنسان في جوهره كائن متعدد الأبعاد لا يمكن اختزاله في بعد واحد وهو ما جعل بول ريكور ينادي بإيجاد أنتروبولوجيا جديدة بعد الرجة التي حصلت مع كل من نيتشه وماركس وفرويد يقع النظر فيها للإنسان انطلاقا "من إمكانية قيام أنتروبولوجيا فلسفية قادرة على الاضطلاع بجدلية الوعي واللاوعي" سجال التأويلات" بمعنى أخذ كل ما يساهم في تحديد مفهوم الإنسان دون إقصاء أي بعد حتى وإن كان يرمز للضعف الإنساني والهشاشة وهو ما تحاول الفنومينولوجيا تقديمه للإنسان في سياق إنقاذه من الضياع في العالم وتلاشي معاني وجوده. فإذا كان هدف الفلسفة دائما التدخل لفرض وجهة نظرها حول مفهومها للإنسان فمن أجل إنقاذه من الاختزال والابتذال والدفاع عن هويته المتنوعة بوصفه كائن رامز والرمزية تحيل إلى تعدد دلالات ومعاني الإنسان يتراوح وجوده بين العلمي والفني والديني والأسطوري. فإذا كانت حقيقة الإنسان بهذا الثراء والتنوع فلماذا انقلبت إلى صورة متصحرة و شاحبة تنم عن استفراغ دلالي وقيمي؟ ولماذا أصبح الكائن المتعدد الأبعاد كائن ذو بعد واحد؟ ثم ما المقصود بالإنسان ذو البعد الواحد؟
-ب- من هو الإنسان "ذو البعد الواحد"؟
بالعودة إلى كتاب ماركوز "الإنسان ذو البعد الواحد" نستطيع أن نتبين ما الذي يقصده ماركوز بالإنسان ذو البعد الواحد إذ ورد في الفصل الأول من نفس الكتاب والمعنون "أشكال الرقابة " ما يلي "تتحدد إنسانية الإنسان بالحاجة والقدرة على تلبية هذه الحاجة " ويواصل "لم يعد هناك غير بعد واحد ماثل في كل مكان وتحت شتى الأشكال ". ما نلاحظه من هذا التحديد للإنسان أن ما هو حيواني أصبح يحدد ما هو إنساني وهو نفس ما انتهى إليه ماركس عند حديثه عن اغتراب الإنسان في النظام الرأسمالي عندما يقول ماهو إنساني يصبح حيواني وماهو حيواني يصبح إنساني. فالمجتمع الصناعي قد نجح في استبدال الهوية العقلانية بأخرى حيوانية من خلال اختزال إنسانية الإنسان وردها إلى بعد واحد وهو إرضاء الحاجيات أو الاستهلاك فالإنسان إنسانا بقدر ما يستهلك. إن هذه الرؤية الجديدة للإنسان تتناقض مع ما أرادت الفلسفة أن يكون عليه الإنسان وخاصة فلسفة الأنوار، فإذا كان هذا الفكر يذهب في اتجاه "إيلاء مكانة هامة للإنسان كقيمة مركزية نظرية وعملية " كما يقول هابرماس في كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة، فإن هذا التصور بدأ يتهاوى تحت ضربات مطرقة من يسميهم ريكور بأقطاب الظنة لتحل محل الذات المفكرة والمريدة والفاعلة والشفافة ذات مكسورة وجريحة وغير عارفة بذاتها خاضعة لحتميات لاشعورية واجتماعية يداهمها اللاعقل والوهم وهي مجرد ذات منفعلة. وهو ما انتبه إليه ماركوز في سياق حديثه عن الحرية في المجتمع الصناعي عندما يبين أن تحول الإنسان إلى مجرد كائن مستهلك لا يهتم إلا بإرضاء الحاجيات المادية قد سلب منه خاصيتي الحرية والعقل وهما جوهر الإنسان في الفلسفة الأنوارية "إن تقنيات التصنيع هي تقنيات سياسية ومن هنا فإنها تدين سلفا أهداف العقل والحرية" ص45
نحن إذن في عصر يعلن انقلابه على مشروع "سيادة الإنسان " وأمام فلسفة تنبني عل أنقاض فلسفة الأنوار معلنة خيانتها لهذا المشروع باستبدالها وثن العقل بوثن اللاعقل فتم اغتيال الكوجيتو الديكارتي واستبداله بصور فقيرة ومرعبة للإنسان ردت وجوده إلى مجرد امتداد طبيعي وبيولوجي. إن هذا الاختزال للإنساني فيما هو حيواني وعلمي ومادي انتهى إلى سلب الإنسان تنوعه و تعدده وحصره في بعد واحد وهو البعد الحيواني مقابل استبعاد للتصور القيمي والأخلاقي الذي يجعل منها كانط مبرر استحقاق الإنسان للكرامة، وكأننا أمام وضع فلسفي شديد الاختلاف أتقن فيه التقدم العلمي بناء الأشياء ولكنه أفلس وفشل في بناء الإنسان. نحن في وضع نحتاج إلى تحرير، بمعنى آخر نحتاج للعقل لنتحرر ولكن العقل نفسه يحتاج إلى من يحرره. انطلاقا من ذلك يمكن أن نتعرف لملامح هذا الإنسان فكيف حدد ماركوز هذه الصورة؟
-ج- ملامح الإنسان ذو البعد الواحد
من خلال كتاب ماركوز نستطيع أن نحدد ثلاث ملامح أساسية هي التالية: التشيؤ، الاستهلاك والاغتراب.
*التشيؤ:
يقول كيكغارد " إنك تلغيني إذا وضعتني في نظام " وهو نفس ما ذهب إليه ماركوز عند حديثه عن النزعة التشيئية للعلم قائلا "إن هذه الذات تسلب من دورها الأخلاقي والسياسي والجمالي من حيث دورها يختصر في الملاحظة الخالصة والقياس والحساب الخالصين". فالتشيؤ ظاهرة يصبح في ظلها الناس موضوعات تسيرهم ميولات تكنولوجية واقتصادية في آن معا وتحدد سلوكهم مصالح اجتماعية محددة. إن الفرد في المجتمع التقني الرأسمالي يخوض علاقات تنهض على الكم والتراكم الإنتاجي فيما يتعلق بتعامله مع المواضيع والأشياء. أي أن علاقته تحددها روح المقايضة والمنفعة الخاصة. ومن هنا فإن روح المقايضة تعتبر عاملا كبيرا يساهم في بلورة ظاهرة التشيؤ العامل الثاني هو التملك والتشبث بالأشياء المصنوعة وبنشوة الإستهلاك فليس غريبا أن نرى أن التمسك بالأشياء المصنوعة أيسر من الإلتزام بالعلاقات الإنسانية. إن تحول جميع النشاطات إلى سلع يعتبر أساس حالة التشيؤ وتظهر ظاهرة التشيؤ على ثلاث مستويات:
- أولا: أن المجتمع الإستهلاكي ينزع على الدوام إلى خلق واستنباط رغبات جديدة.
- ثانيا: إن حب التملك للأشياء يصبح الحافز الرئيسي للأفراد وهو ما يجعل الأشياء تتحكم في الإنسان.
- ثالثا: أن مقدرة الإنسان تكمن في قيمة الأشياء التي في حوزته والتي يرى فيها قيمته الذاتية المتوارية. إن هذا التشيؤ الذي يقع فيه الإنسان يرده إلى التكنولوجية العلمية التي تميل إلى دراسة الأفراد بطريقة موضوعية علمية تبرر ماهو قائم إذ يقول في هذا السياق "إن التجريبية في ميدان العلوم الاجتماعية تتوخى توقع سلوكات الأفراد والجماعات بحيث ليس هناك فرق بين الذات وموضوع المعرفة وما يهمها ليس دراسة تكون المجتمعات البرجوازية إنما عرض أشيائه وموجوداته وأفراد المجتمع بوصفهم أشياء ووقائع وأرقام وبيانات ومعادلات " وهي تعلن دون خجل "أن كل ما يمكن ملاحظته لا يعدو أن يكون في نظرها أشياء ومحض أشياء". إن النظرة العلمية التي تعيد إنتاج الظاهرة الإنسانية كظاهرة منظمة ودقيقة متكيفة ومندمجة يجب أن لا يحجب الصورة الخادعة لمجتمع قائم على صنمية السلعة وتسيد النزعة الاستهلاكية الذي سيغير مفهوم الإنسان من ذات تفكر إلى ذات تستهلك، فقد انقلب العقل تنينا آدتيا تجاوز صانعه بكثير، وهذا الصانع أصبح يعلن "أنا أستهلك فأنا موجود"، فاستبدل كوجيتو التفكير بكوجيتو الإستهلاك.
فما معنى أن يتحول الإنسان إلى كوجيتو مستهلك؟
* الإنسان بوصفه كوجيتو مستهلك:
إن سمة المجتمع الصناعي كما يراها ماركوز أنه مجتمع الوفرة والمقصود بالوفرة في مستوى المنتوج والسلعة فهو له فائض إنتاج من السلعة من جهة وهو أيضا مجتمع الرفاه والرفاه ما يحقق راحة الناس وإحساسهم بالسعادة فالتقنية تزيل العناء لأن ما اعتاد الإنسان القيام به يصبح موكولا للتقنية وللآلة. فما يميز المجتمع الصناعي هو تحويل الإنسان نحو هدف واحد تتمثل في خلق لدى الإنسان "حاجة لا تقاوم إلى إنتاج واستهلاك ما هو زائد عن الحاجة "
بل إن الإنسان لا يتعرف على نفسه إلا من خلال البضاعة ومدى امتلاكه للأشياء "فالناس يتعرفون على نفسهم في بضائعهم ويجدون جوهر روحهم في سياراتهم وجهازهم التليفزيوني الدقيق الاستقبال" فأي نموذج يقدمه المجتمع الصناعي في مجرد أفراد لا هم لهم سوى مزيدا من الاستهلاك وتحولهم إلى مجرد رغبة لامتناهية في الإستهلاك. وأي وعي مشروط بمدى تلبيته للحاجيات؟ إنه بلغة هيجل مجرد "وعي شقي" وهو بلغة ماركس"وجود مغترب". فما معنى أن يكون الإنسان مغتربا؟
* الإنسان المغترب:
لقد حددت الموسوعة الفلسفية العربية الاغتراب كما يلي "الاغتراب بالمعنى الحقيقي هو التنازل عن الملكية لصالح آخر، وتعني في الطب الاضطراب العقلي الذي يجعل الإنسان غريبا عن ذاته ومجتمعه ونظرائه أما في الفلسفة فتشير إلى غربة الإنسان عن جوهره وتنزله عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه، فالاغتراب نقص وتشويه وانزياح عن الوضع الصحيح وقد بدأت هذه المقولة مع هيقل وماركس ووجدت بعض سماتها في فلسفة هوبز وروسو " بهذا المعنى للاغتراب دلالات عدة فهو يمكن أن يكون اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو إيديولوجي ويبدو أن الاغتراب بوجوهه المتعددة يجد له مكانا في كتاب ماركوز فانطلاقا من الفصل الثاني الذي يحمل عنوانا له " انغلاق العالم السياسي " وما يمثله مفهوم الانغلاق من دغمائية وانسداد في الأفق، فعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي يظهر الاغتراب حين يصبح "الاقتصاد وشيج الارتباط بنظام عالمي من التحالفات العسكرية والإتفقات النقدية والمعونة التقنية وخطط التنمية "وفي نفس السياق "وفي الوقت ذاته تتلاشى الفوارق بين العمال والفنيين والنقابيين وأرباب المصانع". فينعدم أي شعور بالاغتراب لأننا أمام اغتراب مضاعف اغتراب الانسان داخل هذا النظام الصناعي وعدم الوعي بالاغتراب وهو ما يعني أن الاغتراب ذاته مغترب، ويبلغ الاغتراب حدته على الصعيد السياسي " بتزايد صعوبة التمييز بين برامج الأحزاب الكبيرة التي بلغت درجة متماثلة من الرياء وهذا الاتحاد بين المعارضين يثقل بوطأته على إمكانيات التغيير الاجتماعي".
نستنتج أن التواطؤ بين المعارضة والحزب الذي يوجد على هرم السلطة أصبح واضحا سواء في مجالات النقابات أو السياسة بحيث يصعب التمييز بين برامج الأحزاب وأهدافها نظرا للتماثل والتجانس وحتى "الثقافة الرفيعة " التي من المفروض أنها تخلق أفقا من الحلم والتحرر لم يعد بإمكانها أن تقدم مثل هذا الحلم لأنها انغمست بدورها في فضاء من السلم واللامبالاة واندمجت بالنظام القائم "فاتخذت شكل البضاعة فموسيقى الروح هي أيضا موسيقى تجارية" إنه الاغتراب إذن على جميع الأصعدة فهاهو التشويه يبلغ أشده بفقدان الأدب دوره المتمثل في نفي النظام لتصبح مهمته توكيد النظام القائم، نظام الاغتراب والتصحر الوجودي والانسحاق وحتى أمل الإنقاذ لم يعد قائما بعد أن امتلأ الوجود اغترابا ولم يعد للمجتمع من وظيفة سوى إعادة إنتاج شروط اغترابه، وهاهي "الدعاية والصورة التلفزية والبرامج السياسية تمارس هيمنة خفية على الإنسان إنها ميكروفيزياء الاغتراب وحتى اللغة أصبحت يدورها امتثالية" فلغة هذا العالم هي لغة توحد وتوحيد تعكس الرقابات ولكنها تصبح بوجه خاص هي نفسها أداة رقابة". إن هذه اللغة ذات طابع استبدادي رقابي تمنع تطور المعنى نظرا لأنها تخلق صورا ثابتة تفرض نفسها فيها. ننتهي إذن إلى حالة من الاغتراب الكلي يعيشها الإنسان في المجتمعات الصناعية تحول بينه وبين تحرره. فكيف سيؤثر وضع الإنسان الأحادي البعد والمغترب على مفهوم المواطن وعلى وضع المواطن داخل المجتمع الصناعي؟ هل يمكن لمفهوم المواطن وحق المواطنة أن تنقذ الإنسان من الاغتراب أم أن المواطن ذاته مغترب؟
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1195 الاثنين 12/10/2009)