قضايا وآراء

نظرات في القصة القصيرة (11) / طالب عباس الظاهر

أي موجودان في وجود واحد، روح تسيح في متون الرؤى العالية، وتجوب عالم المحسوسات المجردة قبل تصورها في ملموسات، محلقةً في فضاءات الخيال، وجسم تجسده آلية رسم الحروف.. وتنحطه على توابيت السطور.. بحروف وكلمات غفل، لكن بمعنى مجنح كما البراق في إختراقه آفاق الكون ودهاليز النفس، فما زاد فيه شيئاً أو نقص؛ إلا ولّد في نفس المتلقي نوع من التشوه، والنفرة، والنشاز، وإن يكن غالباً لا يستطيع وضع اليد أو التأشير على مكمن الخلل في تحسسه الفني للنص، كونه هكذا يحسّ وكفى! كجمال التناسق في أعضاء الإنسان، والتناسب الدقيق في أحجامها وأطوالها وأشكالها وألوانها، وملاءمة بعضها مع البعض بشكل معجز، لأنه خلق في أحسن تقويم، وذلك ما يطلق عليه بثنائية الشكل والمضمون أو المبنى والمعنى إلى آخره من تسميات.

إلا إن النص القصصي ـ كنص ـ لا يحدد آفاقه بذاته؛ بقدر ترك ذلك للآخرين، وتلك بالحقيقة إحدى أهم مميزاته، أعني بالحدود الواسعة في مساحة الحرية في عملية تلقي الآخرين، كي يعيدوا تشكيله من جديد وفق استقراءاتهم المتنوعة، حتى وإن لم تتوافق مع قناعات الكاتب نفسه، وفي كل مرة يكتشفوا فيه ما لم ينتبهوا إليه في المرة السابقة وهكذا، حتى على مستوى القاص ذاته أحياناً، فلا يترهل أو يضمر جانب من هذا الجسد؛ إلا وتجد أثره في الحدّ من انطلاقة الروح الشاعرية المخبوءة فيه، لأنه وليد التجارب الشعورية بالبوح البليغ.

إذن ينبغي للنص القصصي أن لا يسقط منه حرف أو كلمة؛ إلا ويترك فراغ، ولا تزيد فكرة؛ إلا وتشكل عبئ مضاف.. من أدنى نقطة إلى أعلى رؤية، ومن البداية حتى النهاية، نتيجة التماسك العضوي بين أجزاءها، والترابط الصميمي في متنه الحكائي.

ولاشك فإن الموهبة وحدها هي القادرة على قيادة تلك التشكلات الإبداعية بتلك المهارة الفائقة التي قد تصل أحياناً حدّ الإعجاز، بل وتنظيم وترتيب وتنسيق جميع مفرداتها الفنية في سياقات السرد والبناء..من خلال الانسجام الدقيق بين تلك العبارة وهذا الحدث، وتلك اللفظة وهذا النسق، وتلك الاستعارة وهذا الإيحاء، وذلك المكان وهذه الفكرة .. والى ما لا نهاية.. وتلك إحدى المكامن التي يقف عاجزاً عن تفسيرها أو تعليلها عقل الإنسان.

وليس مثلما نقرأ في كثير من النصوص التي تدعي بأنها قصص قصيرة، فنتحسس منذ البدء الفوضى الداخلية في متنها الحكائي وفي سياقات أفكارها..عبر تنافرها مع ذاتها في بعض الأحيان، بسوق الكلمة أو العبارة أو الفكرة أو الحدث في غير محلها، أو المتضاربة مع غيرها أحياناً، أو المبهمة في نفسها، وحتى إن في بعض النصوص المشار إليها، لو اقتطع جزء أو أجزاء منها لما تغير شيء مهم في معناها، لسيرها أساساً في ركاب المتاهات والتهويمات والإغراق بالرموز، والتجريد سواءً الأسلوبي أو الذهني التي لا يمكن حتى للكاتب نفسه فك شفرته.!

بالرغم من كون القصة القصيرة من أكثر الأجناس الإبداعية تجافياً مع الرمزية المغلقة، والإغراق في الغموض غير الفني, وعدم الوضوح والانغلاق.. توخياً للدقة والهدوء في الرصد والتتبع والالتقاط، على الأقل لكي يتسنى لها بعد ذلك التصعيد في الحدث القصصي نحو الذروة؛ لضمان استجابة الآخر.

وإلا فما الذي يغري المتلقي للإقدام وبذل الجهد.. بل ما الذي يستهويه، ويضمن استمراره سواءً في تتبعه لآليات القراءة، أو في عمليات الإستقراء، وهي أعقد وأهم بكثير من الأولى، كونها تمثل جوهر التلقي والتواصل والتلاقح مع مجريات وتطورات الحياة برمتها .. عبر متابعة البنيات المشكلة من قبل القاص لعدة صفحات، ويشّده إلى متن السطور؟ ويحتفظ بوعيه حاضراً لزمن يطول أحياناً لساعات؟ إن لم يكن هنالك نجاح في عملية إغراقه في حيثيات النص القصصي بقوة الإقناع؟!

إن إثارة النص الأدبي تكمن بطرحه للرؤى الكونية العالية بالسياحة الروحية، وكشفه لأبعد غوامض النفس الإنسانية وأسرارها، والتوغل بعيداً بعيدا في تمظهرات الخيال النائية، من خلال طرقه لأبعد مناطق الإحساس العميقة والمظلمة في ذات الإنسان، فإنها تحتوي على منطقة معينة تتشكل فيها الظواهر النفسية الغامضة التي لا تخضع لسطان الشعور ـ كالأحلام مثلاً ـ فتلك المنطقة الشعورية المعتمة تدوي فيها بعض طوارئ الحياة، وصخب الوجود.. بوحي من مؤثرات داخلية أو خارجية، فيمتصّ اللاشعور هذه العناصر، ويودعها ذاكرته، لتمثيلها إلى رموز وإشارات وشفرات والى إلهام.. حسب نوعية الإستداعاءات اللاواعية.

ولكن ينبغي عدم إغفال حقيقة مسلّم بها حول طبيعة الطرح الفني في القص، إذ إنه يفترض به أن لا يتعدى الشعور صوب الفكر؛ فالفكر له مجالاته المعروفة، وله طرائقه الأكاديمية في التحصيل المعرفي، كون الفن يقترح القناعة في مفاهيمه بلين ولباقة، بينما الفكر يفرضها فرضاً.. وهو في القصة مكمن خطرها وخطورتها؛ خطرها في السقوط في المباشرة والتقريرية والإنشائية والوعظية، وخطورتها بالدس في متبنيات الآخر بعض الشوائب حتى دون إرادة القاص نفسه كاليأس مثلاً.

إن القصة القصيرة تحقق شاعريتها من خلال إعادة تشكيل بنياتها السردية بالتوليف الشعوري المنتج، وبث روح التسامح والأمل، وإن كانت عيونها مغرورقة بالدموع، وشغاف فؤادها دامية، وإعادة خلق عوالمها الموغلة في الخيال، تجاوزاً للبشاعة في وجه الحقائق، ورصدها لأشد دقائق الانفعال في داخل النفس الإنسانية، وهي قد تمتد أفقياً أو تتصاعد عمودياً، أو تدور حول نفسها بشكل منحيات، إلا إن أكثر القصص تأثيراً في الآخر، هي تلك التي تتماشى.. ولعلها بالأحرى تستجيب عفوياً في طريقة طرحها مع الماهية في مضمون الأفكار.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2122 الاربعاءء 16 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم