قضايا وآراء

جدلية السخرية والبناء السردي في رواية: الحرب في بر مصر ليوسف القعيد / بديعة الطاهري


إلى التركيز على ثلاثة أسئلة :

- أولها كيف تكون البنية السردية مسؤولة عن تحديد نوع السخرية  في هذا النص؟

-ثانيها كيف يكون للسخرية دور في تخليص الرواية من التلقي السطحي الذي قد يجعل منها مجرد  حكاية ،وكيف تسطيع أن تخلص العمل للبعد الروائي؟.

- ثالثها ما  مظاهر السخرية ؟ على اعتبار أن هذه المظاهر  تشتغل كمؤشرات أولى على ظرورة اتخاذ مسافة بين ما تقوله الشخصية ،وبين ما يسعى النص إلى إيصاله.

نعتقد أن استثمار  السخرية أمر لا يكون في متناول الجميع .وذلك لبعدها المضاعف على الأقل  :

-يكمن البعد  الأول في مهارة الكاتب وقدرته على توظيفها، خاصة وأن الخطاب الساخر يقوم على الغموض .

- ويكمن الثاني في مدى نجاحه-أي الكاتب - في التأثير على المتلقي،  وجعله مشاركا في استقبال الأثر الساخر،  فمهمة المتلقي لا تتوقف عند مستوى التشفير اللساني، بل تستدعي تشفيرا خطابيا ، لأن   السخرية فعل لغوي غير مباشر. [2]

ولا يكون التاثير أمرا هينا ،وذلك لاختلاف  معرفة  المتلقين ، ومزاجهم  من فضاء إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، فضلا عن تباين مؤهلاتهم اللسانية والمعرفية . وبهذا تكون السخرية  مغامرة تستدعي تواطؤ الكاتب والمتلقي، وخارج هذا التواطؤ لا يمكن للأثر الساخر أن يتحقق.

 

Iدور البنية السردية  في تحديد  نمط السخرية.

السخرية ظاهرة معقدة، ولكنها أيضا طريقة لتواصل حواري  يندرج في نوع من التفاعل  interaction  يدعوه باختين بالإدراك الكرنفالي للعالم.

و لا يكون اختيار هذا النمط  من السخرية [3]دون ذلك من باب الصدفة ، بل تتدخل فيه عوامل بنائية ودلالية ،وهو ما يمكن أن نبينه انطلاقا من النص الذي نحن بصدد  دراسته  ، معتمدين   ثلاثة مستويات  هي:

-  وضع السارد .

- استراتيجية السرد .

-الوصف .

 

1-I  - وضع السارد

كيف يسهم وضع السارد في اختزال السخرية اللفظية، وتوظيف السخرية الموقفية ؟

إذا كانت البنيوية تقول بموت الكاتب ، فإن مايلفت النظر في رواية الحرب في بر مصر هو موت السارد، سواء كان سارد اعارفا بكل شيء ،وباسطا هيمنته وسيطرته على الشخصيات مستعملا ضمير الغائب الذي يزكي هذه الهيمنة، أم سارد ا بضمير المتكلم.  لا تقدم  الرواية  بذلك من خلال" وعي سردي مركزي يعرف كل شيئ ويتحرك في كل الفضاءات،  فلا وجود لعين شاملة "[4] .

يغيب  النص  الساردين معا ،ويكلف الشخصيات بالوظيفة السردية . فتقوم  كل واحدة  منها بسرد أحداث تهمها بالدرجة الأولى،عاشتها  أو كانت شاهدة عليها.كما أن الصلة بين هذه الشخصيات محدودة ، إذ يأخذ المحكي شكل سلسلة مكونة من حلقات . فالسرد بمعنى آخر لولبي ، بحيث تتكفل إحدى الشخصيات بالوظيفة السردية ، ثم  تتوقف لتحكي أخرى،  تسترجع أحيانا بعض ما انتهت إليه الشخصية السابقة ، وتستقل أحيانا أخرى بحكيها  ، وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى النهاية .تبعا  لذلك ، يقلص اختزال التواصل بين الشخصيات و غياب السارد، من نسبة حضور السخرية اللفظية ،ويتيح مساحة شاسعة للسخرية الموقفية.

تسرد الشخصيات في الرواية بحرية. لا  يتعثر سردها ولا يقاطع  .لارقيب على أقوالها مهما كانت طبيعتها .إن غياب السارد يفلت  أقوال الشخصيات وأفعالها من  محك النقد والتجريح والتعرية .وبالتالي ، فإن ما يجعل النص ساخرا هي تلك التناقضات التي يلمحها المتلقي بين أقوال الشخصيات وأفعالها،  والمفارقات التي تسم مسارها ، فالمتلقي يقرن بين وضعيات سردية تارة، ويربط بين أقوال الشخصيات وسياقاتها سواء النصية منها  أو الخارجية تارة أخرى ،  ليتخذ مسافة بين ما تقدمه الشخصية، وما ينوي الكاتب الضمني- باعتباره المسؤول عن اطروحة الرواية- إيصاله الى المتلقي . ويكون لاستراتيجية السرد في هذا النص دور كبير في إقصاء السخرية اللفضية وتثمين السخرية الموقفية.

 

2-I- -استراتيجية السرد

تتبنى معظم الشخصيات استراتيجية تهدف إلى اتخاذ نبرة جادة اثناء الحكي، مما يوحي بأن كل ما ترويه الشخصية صحيح لا يقبل الشك ولا المزاح .وتنتفي بذلك نية إحداث الأثر الساخر التي هي أساس السخرية اللفظية.

تسعى  الشخصيات  إلى رفع كل لبس أو غموض قد يسم التلقي.  فلا يكتفي سردها بالتواصل والاخبار، وإنما تتغيى  التاثير في المتلقي وتغييرمعتقداته، يقول العمدة :

"ان كنت قد عشت في مصر قبل أربع وخمسين ستفهم كلامي وتقدره وستجد لي ألف عذر. أما إذاكنت من الذين رضعوا كلام هذه الأيام الغريبة مع لبن أمهاتهم فلن تحاول أن تفهمني أو تعذرني .أملي في الأيام القادمة ستجعلك تدرك حكايتي "[5]

كما تهدف أيضا إلى إقناع المتلقي بصدق المحتوى، والمصادقة عليه بالإيجاب.يقول المتعهد :

"لم أظلم أحدا طول عمري ،حياتي كلها خدمات "[6]

وتكثر الأفعال التي تتوخى طلب ثقة المتلقي : كقول السارد/ الشخصية "صدقني" وثق" .وتتواتر مخاطبة المسرود له مباشرة. فالسرد يعلن ، ومنذ البداية،عن وجود سارد/ شخصية  يتواصل مع مسرود له، يذكر بوجوده مرات كثيرة ، ويشده إلى محكيه ، بل يوقف الحكي مرات عديدة ليتواصل معه بغية إشاركه في عوالمه الأكسيولوجية بصفة خاصة .

ولا  تكون الشخصيات الساردة محايدة في سردها، ولا تتوقف عند النقل،  وإنما توضح  وتقدم الحجج على ماتقوله و ما تفعله حتى تبدو صادقة مقنعة.فالسرد يقوم بالأساس على المناورة، وعلى تطويق المتلقي وإقناعه بمعطيات ومعلومات يدافع السارد/ الشخصية عن شرعيتها.فالعمدة يؤكد مرات متعددة أن الأرض اخذت منه عنوة وظلما ، و أن القانون أنصفهم من بعد ما"صدر حكم القضاء العادل ...ورفع الظلم عن المظلومين أمثالنا "[7]

ولا يحكي العمدة  مشكلة تجنيد ابنه مباشرة ، كما أنه لا يركز عليها لوحدها. إنه يناور مستعملا خطابا يمطط من خلاله الموضوع ،ويلتقط الجزئيات التي تضاعف المحكي ،وتسهم في إضفاء البعد الدرامي على الحدث المركزي،وكسب شفقة القارئ وتعاطفه. فالحديث عن التجنيد يعتمد ما يدعوه جيرار جنيتG.Genette  بالتضخيم  بواسطة التطوير (amplification par développement [8])

 

3-I- اختزال الوصف

يسهم اختزال الوصف في تضييق مساحة السخرية اللفظية. فرغم امتلاء الشخصيات دلاليا ودخولها إلى النص بحمولات جاهزة ،لأن معظم الشخصيات تعين انطلاقا من وظائفها المرجعية( العمدة ،المتعهد ،الضابط  ،المحقق) ،  فإننا  لا نعرف الكثير عن ملامحها. فقد كان بالإمكان استثمار الوصف  ليكون رافدا للسخرية اللفظية  لتشتغل ، على الأقل ، بناء على مستوين :

-  أولهما الانتقاد الهجائي الذي يسعى إلى ذكر مساوئ الشخصية الخلقية والخلقية .

- وثانيهما الوصف الكاريكاتوي الذي يعمل على تشويه ملامح الشخصيات .

فالوصف شحيح في هذا النص ،وهو  ما يتعارض وطبيعة الكتابة الواقعية التي تندرج في إطارها هذه الرواية .

لقد عودتنا النصوص الواقعية على الاحتفاء بالوصف وخلق تنويعاته ، لكن رواية الحرب في بر مصر تشذ عن هذه القاعدة ،لأن ما يهم فيها ليس المظهر الخارجي للشخصيات والأشياء ، و إنما أقوالها وأفعالها وما تحققه من امتداد دلالي،ومن هنا ، يكون  توظيف السخرية الموقفية  أكثر درامية وتأثيرا من السخرية اللفظية.

إن المقاطع  التي تعتمد الوصف الكاريكاتوري قليلة جدا. إذ تركز الرواية  على أقوال الشخصيات وأفعالها .وهي أفعال توحي على المستوى الظاهر بتيمات إيجابية تسم الشخصية. فالعمدة مثلا يدعي أنه وطني ، وأن حب مصر يجري في دمه ،وأنه محب للخير وعادل ومسؤول ، لكن وضعيات سردية أخرى تِأسسها أفعال هذه الشخصية،  تكشف عن أفعال مناقضة تطرح الوجه المفارق للشخصية،وتبئر  تيمات سلبية يتحدد  العمدة بناء عليها   "لا وطنيا""لا إنسانيا" "ظالما كاذبا" مزورا" ....الخ ، ولكن النص لا يقول ذلك بطريقة مباشرة ، بل يترك للقارئ إمكانية استنباط تلك التيمات  من خلال مواقف الشخصيات  ،لأن مهمة الكتابة هي تحويل المعرفة إلى احتفال دائم على حد تعبير بارث [9].

إن عدم تخصيص الشخصية باسم  وصفات محددة ،  يؤكد أن هدف الرواية ليس هجاء الأشخاص وإنما النماذ ج من خلال ما تأتيه من أقوال وأفعال مفارقة  تفضح  بشاعة الواقع وقبحه ، في عالم كرنفالي كل مافيه صار مقلوبا ، كما أن  "النموذج على خلاف النسخة المفردة ، مطاطي وقابل لأن يستوعب ما يعودإلى آلاف الشخصيات ، كما يبدو ذلك  في المعيش الواقعي ... "[10]

 

II - دور السخرية الموقفية في الحفاظ على البعد الروائي .

يبدو أن هناك علاقة جدلية بين السخرية كآلية واستراتيجية ،والنص الروائي وبنيته .

قد تسقط  القراءة  غير النبيهة  القارئ في مسار  تلق مغلوط ،  يبتعد عما  تهدف الرواية إلى إيصاله .فالرواية تبتدئ بسرد العمدة وهو يحكي لنا عن فرحته بعودة الأرض إليه بعد سنوات (تحسن بتعبير كلود بريمون) [11]، وكيف أن هذا الفرح لم يدم طويلا ،لأنه في اليوم الذي تلى تسلم قرار عودة الأرض إليه،توصل باستدعاء يوجب إرسال ابنه من زوجته الرابعة الى الجيش (تدهور ).تتطور الرواية ناقلة لنا مجهودات العمدة من أجل تخليص ابنه من هذه المهمة (امتحان) ، فيطلب مساعدة معلم مشهور بالتزوير،وتنجح مهمتهما، إذ يرسل ابن الغفير منتحلا هوية ابنه ( تحسن). لكن الأقدار تشاء أن يموت ابن الغفير في الجيش بعد أن يكون قد اعترف بالحقيقة لصديقه الذي يرافق جثمانه في محاولة كشف الحقيقة (تدهور)، ويستطيع  العمدة بنفوذه وماله أن  يتخلص من الورطة ، فيصبح ابن الغفير هو المزور، و الضابط الذي باشر التحقيق في القضية خارقا للقانون (تحسن).

إننا امام  بناء  يتقاطع وبناء الحكاية، حيث البطل يجابه دوما نقصا،  يحاول إصلاحه ، كما انه يمر بحالات تدهور وتحسن، ويخوض تجارب وامتحانات لينتصر في النهاية .

بناء على ذلك ، تستثمر السخرية الموقفية كآلية تحافظ على انسجام البعد الروائي. فرغم القوة السردية التي تسم حكاية العمدة ،فإن هذه الأخيرة تفقد قوتها الإقناعية أمام الحكاية الموازية التي يسعى النص من خلال كاتبه الضمني إلى الإيحاء بها .

تجعل السخرية الموقفية  المتلقي يفشل برنامج الذات السردي (سواء العمدة أو المتعهد) المتمثل في الإقناع،  إذ  تتوارى الحكاية الأولى التي هي حكاية العمدة لتظهر الحكاية الموازية، إن لم نقل  حكايات موازية عن الفقر،واستغلال النفوذ،  والجريمة المدبرة ،وخرق المقدس . فالتناقض بين ماتقوله الشخصية وما تفعله،وبين ما تؤمن به وتسعى إلى إنجازه، فضلا عن وجودها في أوضاع  مفارقة،  ينبه  القارئ إلى أن النص يجعل هذه الحالات والتحولات مجرد حوافز لنثر عالم مليئ بالتناقضات .عالم يسوده العبث ولا-معقول، عالم سريالي كل شيء فيه يدعو الى الذهول .فما يهم ليس مشاكل العمدة ،وإنما ما تتيحه  من انتشار دلالي يتمثل في  الزور والظلم والغش الذي يسم الواقع . كما لا يهدف التركيز على المتعهد إلى تبيئرمشاكله ، وانما إلى فضح هذه النماذج الجديدة الانتهازية التي أفرزها العهد الجديد ،عهد الانفتاح على أمريكا في عهد أنوار السادات .

و يتأسس عبر ذلك كله البعد الروائي ، على الأقل، انطلاقا من الطرح اللوكاتشي[12]. إذ تكون الرواية قصة تحكي عن تناقضات المجتمع ،وعن تدهور الفرد، وانحطاطه في مجتمع يعمل على سحقه بكل الوسائل. مجتمع غابت عنه القيم،  لكن ليس بالمفهوم المثالي. فالرواية رغم تبئيرها العمدة ، تجعل- كما قلنا- حكايات موازية تظهر داعية المتلقي إلى تخيل مساراتها السردية المختلفة. ومن هنا تصبح الرواية نصا غير منته بتعبير ايكو ،  لأنها لا تقول كل شيء، نصا مفتوحا على إمكانات سردية متعددة ، ونصا متعدد الأصوات كما يرى باختين ، إذ تتيح السخرية الموقفية تبين صوت ووجهة نظر مغايرة ، صوت الكاتب الضمني الذي يدين ،بناء على هذه الاستراتيجية ، القيم الزائفة والمنحطة،  والمؤسسات التي تحميها ،مضمنا النص آليات مختلفة تسهم في استثمار تعدد صوتي .

 

III  -مظاهر السخرية

لا تستبعد استراتيجية السرد القائمة على الإقناع وغياب السارد ، وجود مظاهر تجعل تلقي الرواية  يتم وفق استراتيجية ساخرة .ومن أهم هذه المظاهر التناقض  بين العوالم الأكسيولوجية للمتلقي، والسارد /الشخصية. فلكل قيمه ومبادؤه.

إن مايؤمن به السارد/ الشخصية ويدعو إلى تصديقه ،لا يتفق مع ما يمكن أن يؤمن به المتلقي. فالعمدة بعيدا عن أي اشتغال نصي، يحيل من خلال الفضاء الذي ينتمي اليه، وهو مصر وريفها بصفة خاصة، إلى حمولات سلبية تحتفظ بها ذاكرتنا الثقافية .وهي الحمولات التي يستثمرها النص ليحذر المتلقي  ويدعوه  إلى اتخاذ مسافة حذرة إزاء ما يقوله .

فالعمدة  رجل سلطوي ، ورجوع الأرض إليه يعتبر ظلما لا عدلا ، لأنه سيتم على حساب أشخاص أبرياء سيطردهم  من الأرض،  وكل ما يقوم به هو خرق للقانون. وبالتالي فإن القارئ لا يمكن أن يتعاطف مع العمدة أو مع المتعهد.

ويكون سلوك الشخصية في النص مظهرا ثانيا من المظاهر التي تسعف في تشفير الخطاب باعتباره ساخرا ، إذ تبدو  الشخصيتان معا (العمدة والمتعهد خاصة) بمظهر الضحية. وما الضعف الذي يظهرانه سوى مكر وخداع  ومراوغة شانهم في ذلك شأن الأيرون وهو " الإنسان الذي يتهرب ويتملص من مسؤوليات المواطنة وذلك بادعاء عدم القدرة وعدم الكفاءة أو المرض فهو مراوغ ومخادع في خطابه غير ذي شخصة واضحةومميزة" [13].وكلاهما يعمل على تشويه الحقائق وتمويهها . إنهما معا  أصحاب حيل وحجج منطقها المفارقة والتناقض .

فالعمدة يقول : "إنني وطني ،أحب مصر وعبادة وادي النيل تجري في دمي وهذه العبادة ورثتها أبا عن جد وهذا الحب عميق ، بعيد الغور في التاريخ "[14]      وفي مكان آخر يخبرنا :

"إن العسكرية .في هذه الأيام مختلفة عن أيامنا .الجيش مشترك في حرب وضرب وقتال ولا يعرف إلا لله متى تنتهي .....من يرمي ابنه للقتل"[15]

ومن المظاهر الأخرى للسخرية هناك التوتر الذي يخلقه سردالشخصيات. إذ يربك القارئ ويجعله لا يصدق ما يقال. سرد يثير الدهشة. فالأحداث لا تخضع للمنطق والعقل. أحداث متناقضة تذهب بالمتلقي الى درجة الذهول لأن الشخصيات تنظم الأشياء والعالم وفقا منطقها الخاص.فيتوجه كل ما في النص بشكل غير صحيح، ويظهر للا-متوقع دون توقف ، ويكون في أساس هذا الذهول  والتوتر كذب الشخصيات من جهة،  وطريقة تعاملها مع الاحداث من جهة أخرى[16] :

- فهي إما أن تلطف  الأشياء وتجعل الأمور رغم فداحتها بسيطة و تافهة

أو تبالغ في إظهار خطورتها .

كما تتجلى السخرية من خلال تقنية التوريط ، ذلك أن الكاتب الضمني يجعل الشخصية "تساعد على الاعوجاج وتصفق له ويدفعها الى الاعتراف على نفسها بنفسها  بوضعها في مواقف تكشف  تورطها وخسارتها"[17]. وهي مواقف تتكرر مما يجعل التكرار مظهرا آخر من مظاهر السخرية وإن كان يشتغل في النص وفق  زاويتين مختلفتين:

- زاوية الشخصية حيث يكون الهدف منه كشف موقفها الدرامي والدعوة الى مساندهتها .

-  وزاوية الكاتب الضمني،  إذ يفرغ التكرار الواقعة من بعدها الدرامي، ويضفي عليها بعدا ساخرا .

تشتغل هذه المظاهر وغيرها [18]كعلامة تحذر القارئ، وتدعوه الى تأمل خطاب الشخصية،  وإعادة النظر فيما يقرأ حتى لا يتوجه وجهة خاطئة تضيع المعنى في النص .  فالمعنى في النص لا يبث علانية في ثنايا الأشياء ولا يوضع "عاريا " وحافيا على شفاه الكائنات الورقية ، أنه يولد وينمو من خلال  ما يؤثث الكون الدلالي "[19]

 

خاتمة

تعتبر رواية الحرب  في بر مصر من بين  النصوص الروائية التي واجهت سياسة الانفتاح في عهد أنور السادات. لكنها لم تقارب  الموضوع بطريقة مباشرة تثقل النص بالأحكام الجاهزة والمواقف الواضحة. لقد كان الهم الروائي حاضرا بقوة إلى جانب الهم الإديولوجي. وقد صهرهما القعيد  ، وجعل النص يبدو في مستواه الظاهر بسيطا في لغته،  وتركيبه وبنائه. يتابعه القارئ بمتعة فائقة ودون توقف . إلا أن القراءة المتأنية تجعلنا نتبين أن الأمر مجرد خدعة ناتجة عن حنكة الكاتب ،وتمرسه بالكتابة والهم السياسي والثقافي لبلده" واستيعابه حركية المجتمع في نماذجه الاجتماعية والنفسية المتنوعة ،وتكثيفها في حالات مخصوصة تعيد صياغة المعيش ضمن عالم مخيالي يستمد عناصره من الصياغة لا من الوقائع الفعلية " [20]

وقد بينا كيف توسل الكاتب التعبير بتقنية عالية تبعده عن الخطابات الجاهزة وهي السخرية إذ " مكنته من تصريف الوقائع الموصوفة وتحويلها الى حدث هو عصب البناء الروائي وهيكله "[21] واستطاع بواسطتها أن يرقى بالحدث الذي قد  يبدو عاديا وعابرا في عالم صار يقتل كل القيم الجميلة ،ويسحق الضمائر الحرة ، إلى مستوى ابداعي ناقش من خلاله سياقا سوسيوثقافيا عرفته مصر، بل كان يستشرف المستقبل لأن الرواية ،وهي توظف السخرية، لم تسخر فقط بالقيم والنماذج، وإنما أيضا بالاختيارات السياسية واقترحت الحلول التي ربما في فترة سابقة كانت تبدو من المستحيلات ، نظرا  لتربع سادة القرار في معبد السلطة.وهي حلول نستنتجها بشكل ايحائي انطلاقا من العنوان: الحرب في برمصر " وبشكل مباشر يطفق حزنا ومرارة   على لسان احدى شخصيات النص وهوالجندي الذي رافق جثمان مصري ابن الخفير يقول  :

"ففي الحرب التي أنهوها أمس فقط .كان العدو من الخلف ومن الأمام،وكل رصاصة انطلقت في اتجاه سيناء السليبة ،كان لابد أن تقابلها رصاصة أخرى إلى الخلف باتجاه مصر المقيدة والمحتلة بمحتل من نوع آخر ، بالفقر والتخلف والظلم والقهر. ولكننا لم ندرك.  وجهنا كل الجهد نحو العدو الظاهر الواضح . تركنا الأعداء السرطانية الخبيثة تلك التي لا وجود لها أمام الأعين .كان لنا العذر. تصورنا أن أهلنا سيقومون بتلك المهمة بدلا منا . ولكنهم خيبوا ظننا .وهذا ما يجعلها مهمتنا –الآن-التي لا بد وأن نقوم بها .لن يتاخر ذلك .التأخر معناه أن السرطان سيسري في جسم الوطن بشكل يصعب معه العلاج " الرواية [22]

وبهذا تكون الرواية علامة باررزة في مسيرة الرواية العربية ممتلكة لقيمتها وخلودها عبر الزمان .

 



 

[2] - محمد .العمري: البلاغة الجديدة بين التخيل والتداول، الدار البيضاء ، أفريقيا الشرق ،2005، ص.  136

[3] - ونقصد بالخصوص السخرية اللفظية والسخرية الموقفية.

[4] - سعيد بنكراد: السرد الروائي وتجربة المعنى، الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ،الطبعة الأولى ، 2008 ص:187.

[5] - يوسف القعيد:الحرب في بر مصر ، دار ابن رشد للطباعة والنشر، ، ط1، مارس ،1978. ص: 19

[6]  - نفسه ، ص:20

[7]  - نفسه ، ص، 7.

[8] G .Genette: Figures II .Paris .Editions du Seuil ;1969.P:196

[9]  - سعيد بنكراد: مرجع سبق ذكره، ص 265

[10] - سعيد بنكراد: مرجع سبق ذكره ، ص. 265

[11] - التحسن والتدهور بمفهوم كلود بريمون.انظر:

Claude Bremond: La logique du récit .Paris .Editions du Seuil1973

[12]  - جورج لوكاتش ، الرواية كملحمة بورجوازية ، ترجمة جورج طرابشي .بيروت ، دار الطليعة، ط I .1979

[13] Cudon, A.J: Dictionary of Literary Terms.

انظر أحمد الشايب: انظر أحمد الشايب: الضحك في الأدب الأندلسي ، دراسة في وظائف الهزل و أنواعه وطرق اشتغاله ، الرباط ، دار أبي رقراق للطباعة والنشر ، ط 1، 2004 .ص: 185

[14]  - الرواية ، ص.14

[15]  - نفسه ، صن 15

[16]  - بديعة الطاهري: السرد وإنتاج المعنى ، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة .إشراف د.سعيد بنكراد ، جامعة ابن زهر ، كلية الاداب والعلوم الإنسانية أكادير ، 2003

[17]  - العمري: مرجع سبق ذكره ، ص 130

[18]  - للتفصيل في ذلك انظر: بديعة الطاهري: مرجع سبق ذكره

[19]  - سعيد بنكراد: مرجع سبق ذكره ،ص: 264

[20]  - نفسه ،ص:263

 - [21] نفسه ، ص: 258

[22] الرواية ، صن 110

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2175 الأحد 08/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم