قضايا وآراء

البناء الدرامي في رواية فضاء واسع كالحلم / سمر الديوب

ويحقق مقاصد في الخطاب. وتأتي أهمية الخطاب في رواية الخيال العلمي(1) من جهة كونه خطاباً استشرافياً رؤياوياً بامتياز، بالإضافة إلى السمة التشويقية الظاهرة. فهو من هذه الناحية يشتمل على أحداث تصاعدية، وفجوات توتر مختلفة، ومواقف درامية تؤدي مجتمعة إلى وجود بناء درامي يمكن أن نلج من خلاله إلى هذه الرواية "فضاء واسع كالحلم".

ويعتمد الخطاب عادةً على مرجعية اجتماعية معرفية متَّفق عليها. ويمكن أن نجد أن وظيفته في هذه الرواية تتجاوز الوظيفة المعهودة. فهو ليس بحثاً فيما هو معهود، بل هو بحث في مادةٍ عصبُها الدراما، وأساسها التشويق، وعمادها الخطاب العلمي الذي يرتقي إلى مرحلة عليا في هذه الرواية، فيصعب على القارئ العادي تتبع مسارات المصطلحات العلمية، والتأني في قراءة ما يحمله الخطاب العلمي من أفكار متعلقة بحركة الكواكب، وسرعة الضوء، ونسبة الزمن بالنسبة إلى مختلف الكواكب.

 

-رواية فضاء واسع كالحلم

يمكن بداية أن نقول: إن الخطاب العلمي خطاب تشويقي بامتياز؛ لأنه يعتمد على حدث درامي، ومغزى درامي، ومفارقة درامية.

تبدأ الإثارة مع بداية الرواية، فثمة تحديد لزمن أحداثها في العالم 2035، فالأحداث تجري في زمن مستقبلي مفترض يسعى المبدع إلى تحميله رؤيته، ورؤياه.

يحدث حريق مفاجئ في ناقلة نفط ضخمة في مكان ما من بحر العرب متجهة إلى المحيط الهندي. ويتم إنقاذ الموجودين على متنها بقوارب النجاة. في الوقت نفسه كان هنالك يخت يقترب من مكان الباخرة، فيعثر على قارب نجاة صغير فيه ثلاثة رجال، اثنان فارقا الحياة وشاب مصاب. فينقذونه، ويتجهون إلى جزيرة نائية في المحيط الهندي. وحين يصحو الشاب يفاجأ أنه في مدينة العلوم العربية "مدينة علمية عربية، مشيدة تحت أرض جزيرة قاحلة في المحيط الهندي على عمق عشرات الأمتار، يشرف عليها علماء عرب متفوقون ، قدموا من أصقاع الدنيا للإسهام في صنع حضارة حديثة تعيد لأمتهم مجدها الغابر... هي فكرة كالحلم تبدو مستحيلة التحقيق. "الرواية، ص 11".

لقد حققت المدينة لأهلها اكتفاءً ذاتياً، وتطوراً صناعياً. وبذلك شرح السيد أحمد للشاب ماجد كيفية بناء المدينة، وقدرتهم على حمايتها من أجهزة التجسس، وطائرات الاستطلاع. وقرر علماء الجزيرة إخضاع ماجد لاختبارات إن نجح فيها يكون أحد رواد الفضاء الذين سينطلقون في رحلة استكشافية.

" بدأت الاختبارات تعري نفسية ماجد، وتتوغل في أعماقه. كان شاباً طموحاً حساساً يؤمن بخير الإنسان مخلصاً لأسرته الصغيرة التي تتكون من زوجة أحبها، وطفلة في الرابعة". "الرواية ، ص16".

وسرعان ما ينجح في الاختبارات، ويتعرف أسرار المدينة العلمية، ويفصحون  له عن رغبتهم في إطلاق سفينة فضائية إلى المريخ؛ لإجراء دراسات تتعلق بتخمينهم وجود حياة على سطح الكوكب الأحمر الذي قيل عنه في الماضي: إنه مرّ بمراحل تطور الأرض نفسها وإن عليه حضارة تسبقنا بمراحل.

"هذه ناديا أول رائدة فضاء عربية هبطت على القمر.. يمان حلق حول المريخ، وعاد بعد أن قضى خمسة عشر شهراً في الفضاء.. خلدون مهندس الاتصالات حلق مراراً حول الأرض.

ماجد- شيء لا يصدق.. وكلكم عرب؟

- بالطبع.

- لا يمكن أن تتعرف إلى لهجة أي منهم؛ لأن لمدينتنا لهجة واحدة هي اللغة العربية الفصحى". "الرواية ص23"

ثم يستعد فريق رواد الفضاء للرحلة، ويبدأ ماجد التحضيرات والفحوصات والاختبارات النفسية "إنها بالفعل لحظة حاسمة في حياتي، لم أحلم أن تتحول إلى حقيقة ساطعة كما أراها اليوم". "الرواية ص 37".

انطلقت المركبة الفضائية حاملة رواد فضاء يحلمون بالوصول إلى المريخ؛ لغرس علم حضارتهم على سطحه.

لكن إشارة الخطر أعلنت. فكانت السفينة تسير بسرعة خارقة: 150 ألف كيلو متر في الدقيقة، وبدوا كأنهم خاضعون لجاذبية جسم مجهول، ويشعرون أنهم يسيرون بقوة مجهولة نحو كوكب يهبطون على سطحه، فيكتشفون أنهم أُنقذوا من الضياع في مجاهيل الفضاء حين عثر عليهم رواد الكوكب اللامع وقد خرجوا من مدار المريخ، فتم جذبهم إلى هذا الكوكب المتطور علمياً. كان سكانه غير مرئيين. لكنهم بقدرتهم العلمية حولوا أشكالهم إلى خيالات تترجمها الشاشة إلى كائنات كانت لها مواصفاتهم الفيزيولوجية حتى  يسهل عليهم متابعتها "الرواية ص55".

"- منذ ملايين السنين كنا مثلكم نتقاتل فيما بيننا، ونتعارك، وكافحنا طويلاً إلى أن وجدنا نظاماً متطوراً نبذنا من خلاله البغضاء، والأنانية، وبدأنا نتحاور، ونكون مجتمعات متعاونة اندمجت مع مرور الزمن في مجتمع واحد، طورنا فيه طموحاتنا مع الاهتمام بالموسيقى، والرياضيات والحب..." "الرواية، ص 56".

وبعد أن يتعرفوا التطور العلمي الهائل يدركون أن الأرض أصبحت على بعد خمسين مليون كيلومتر منهم قطعوها في ثوان. ويقترح عليهم أبناء الكوكب اللامع البقاء على الكوكب ليتحولوا إلى طاقات خلال أزمنة ليست بعيدة، ويصبحوا من أهله، فيعيش أبناء الطاقم في صراع داخلي عميق بين القبول والرفض، ويقررون البقاء ما عدا ماجد الذي يرغب في العودة إلى أسرته مع علمه أن سنوات كثيرة تكون قد مرت على الأرض.

وحين يعود تكون المفاجأة ، فقد مر على الأرض أعوام كبر فيها من يعرفهم، وزوجته أصبحت عجوزاً، وابنته أكبر منه، وحين يحاول الوصول إليهما لا يستطيع أن يكشف عن شخصيته لزوجه وابنته التي أصبحت أكبر منه، فيشرح لأحمد ما حدث معه، ويعيش في ألم نفسي كبير، ويفصح لابنته عن السرّ: "- اسمع يا .. أبي .. سيكون الخبر قاسياً عليها... إن استطعت إقناعها بالأمر فلن تتمكن من التأقلم معك... أعرف أمي.. فارق السن ليس صغيراً. – آه يا لقلبي التعس.." "الرواية،ص111".

وبعد ألم نفسي يحزم ماجد أمره بالعودة إلى الكوكب اللامع وهو يحمل ذكريات عن زوجه وابنته.

 

- مصطلح الدراما

يرتبط مصطلح الدراما بالجنس المسرحي. لكن ملامح الدرامية تتوافر في الأجناس الأدبية المختلفة. ويشير كريس بالديك إلى أن مفهوم الدراما انتقل إلى الشعر، ويجعله قرين ضرب من القصائد تعتمد التشخيص في بنائها.(2)

يعني الكلام السابق أن البناء الدرامي يتوافر في الأجناس الأدبية كلها من شعر إلى رواية إلى مسرحية. وإذا كان مصطلحاً مرتبطاً بالجنس المسرحي فدراسة الرواية من منطق البناء الدرامي يمكن أن تندرج تحت ما يعرف بالتقاطع الأجناسي في الأدب؛ إذ تتداخل سمات المسرحية مع سمات الرواية. ويبدو من كلام كريس بالديك أنه يجعل مفهوم الدراما في الشعر قرين ضرب من القصائد التي تعتمد التشخيص في بنائها، فيقصد تعدد الأصوات في النص الشعري، والحوار بين شخصيات مختلفة، أو الحوار من نوع المونولوج الداخلي.

وتعني كلمة دراما باليونانية حركة. فهي تحيل القضية الفكرية، أو المشكلات الاجتماعية والإنسانية المجردة إلى حركة متجسدة فوق خشبة المسرح من خلال مجموعة الممثلين الذين يؤدون الأدوار المختلفة، ويتقمصون الشخصيات المتعددة، ويديرون دفة الحوار.(3)

ويتفق الباحثون أن الدرامية تشير إلى الارتقاء بالتعبير الذاتي إلى أفق موضوعي واسع وعميق إنها في الوقت نفسه مقاربة للمسرحة أولاً، والملحمية ثانياً، والخطاب ثالثاً، الرؤيوية رابعاً.

ونجد أن الدرامية مدخل لدراسة رواية فضاء واسع كالحلم؛ ذلك لأنها تبتعد عن التأمل، أو الانفعال، أو الترجيع الذاتي. وتتجه نحو حوارية الذات، والموضوع، والواقع، والتمثيل الثقافي لفهم الإنسان في صراعاته الداخلية والخارجية، وضمانه فضائه الرحيب بالاعتماد على زمكانية مفترضة، ورؤيا واضحة رغبة في الولوج إلى معنى المعنى. فمما لا شك فيه أن أدب الخيال العلمي أدب رؤيا بامتياز، استشرافي. وقد سعى د. طالب إلى تقديم رؤيا محملة بخطاب يتجاور فيه الخطاب العلمي مع الإنساني الطافح بالمشاعر الإنسانية، والسياسي.

وقد نجمت الدرامية عن الفعل الذي أدّى إلى شمولية الرؤيا، وما تحمل من صراعات وأفكار تتعلق برغبة المبدع. إنه مسكون بهاجس تقدم العرب العلمي، وجمع شمل العرب تحت كلمة واحدة. فالانفجار في ناقلة النفط الضخمة كان الفعل الدرامي الذي بدأت العناصر الدرامية تتحرك، وتتلاحم، وترتفع بعده.

 

- الفعل الدرامي

يبدأ الفعل الدرامي في هذه الرواية بتحديد زمن مستقبلي للأحداث هو العام (2035) ومكان. أما المكان فهو مكان مفترض في بحر العرب، لم يحدد جغرافياً، ولم يحدد اسمه؛ لأن المبدع أراد ما يحمله المكان من قيم، لا المكان نفسه. إن مكان ما من بحر العرب  "الرواية، ص 5" فليس المهم المكان، بل المهم أن الحدث يجري في بحر العرب. وهو تحديد يرتبط برؤيا يقدمها المبدع، تحمل رغبته في جمع العرب كلهم تحت راية واحدة، ووصولهم إلى مرحلة متقدمة جداً علمياً. وهذه الرؤيا تدخل في علاقة ضدية مع رؤيته. فما يقدمه المبدع على مستوى الرؤيا يدخل في علاقة ضدية مع رؤيته. أو أن ما يقدمه على المستوى الظاهر يدخل في علاقة ضدية مع ما يحمله النسق المضمر.

ويمكن التدليل على الفعل الدرامي من خلال التضاد في زمن الفعل الذي بدئت به الرواية "نحن الآن في العام 2035 .. وفي مكان ما من بحر العرب، كانت هناك ناقلة نفط.. حينما حدث فيها حريق مفاجئ.. امتدت ألسنة اللهب...".  الرواية،ص5).

فالكلام على حدث مستقبلي قُدِّم بالفعل الماضي الذي يفيد سرد حدث انتهى زمنه. فأفعال النص نفسه قد تكون شكلاً من أشكال التعبير عن الحدث، فهي تصور العواطف، وردود الفعل الانفعالية، وتؤثر في سلوكيات الشخصيات.

وقد يكون الموقف الدرامي نفسياً حين يصوغ المؤلف الدرامي أفعالاً، وأقوالاً تفتح للمتلقين ثقوباً في نفسيات الشخصيات؛ كي يطلوا منها على الأعماق، وما فيها من مكنونات عاطفية، وعقلية لا تخرج إلى السطح. (4)

"- اقترب موعد إطلاق  المحطة (ابن النفيس 3).

- اعلم أن صحة أعضاء الطاقم كلها جيدة...

- أتريد أن يمرض أحدهم لتحل محلّه؟

- لا .. ليس بهذه الدقة". "الرواية ص 36".

إنه متحمس. لكن الخط الدرامي يسير في الرواية متصاعداً. فقد كانت رغبة ماجد مندفعة. فقد كشف الحوار بين الشخصيات عن حساسية مفرطة، وخوف العلماء  من أن يصاب ماجد بإحباط يؤثر في نفسيته. وهو الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن التوتر الدرامي.

 

- التوتر الدرامي

إنه اللحظة التي تبلغ فيها الحركة ذروتها.(5) والمقصود بالحركة الحركةُ الفيزيائية، والحركة النفسية. فاللحظة حاسمة في حياة ماجد، والمشاعر متضاربة بين الرغبة في اقتحام الفضاء المجهول، والمشاعر التي تشده إلى أسرته الصغيرة، ويزداد التوتر الدرامي مع العد التنازلي.

"- ثمانية وأربعون.. سبعة وأربعون

- ناديا.. اضغطي على زر المكيف...

- ستة وثلاثون.. خمسة وثلاثون..

- وأنت يا يمان تابع مؤشر جهاز الراديو..

– عشرة.. تسعة..

– خلدون.. كل شيء على ما يرام.. اقتربت لحظة الصفر".  "الرواية ، ص 40".

وتتعالى الأحداث متصاعدة، ويرتفع مستوى الدرامية حين ينتقل السرد إلى الفضاء الخارجي والوصول إلى الكوكب اللامع، ويتناوب الحدث ما بين توتر درامي شديد وآخر خفيف على امتداد صفحات الرواية من دون أن يدع المتلقي يفلت من إسار عنصر التشويق الناجم عن هذا التوتر، والذي يبلغ ذروته مع الصراع النفسي الذي يعيشه ماجد بين أن يبقى في الكوكب اللامع، أو يعود إلى الأرض إلى أن تنتهي الرواية بقناعته أن الزمن جعله غريباً في الأرض. وهنا نجد أننا في حديثنا عن الزمن ننتقل إلى فكرة الزمن، والزمن المضاد، أو ما يعرف بالمفارقة الدرامية.

 

- المفارقة الدرامية

المفارقة وسيلة لفظية، أو فعلية يعبر بها الكاتب عن معنى آخر مناقض للمعنى الظاهري الذي تفهمه بعض الشخصيات. ومن هنا قد يتشابك المدلول مع مدلول التورية في علم البديع. ولكنهما لا يتطابقان.(6)

والمفارقة اللفظية Verbal Irony تعبير يخفي معنى يستهدفه المتكلم، ولكنه يختلف عن المعنى الخارجي.

إن ماجداً شخصية أساسية في الرواية، ويمكن أن نرى أن الزمن بطل مضاد. وهو الأمر الذي يرفع وتيرة الحدث الدرامي في الرواية، ويدخل المتلقي في حال دهشة تلقٍّ. فلم يتوقع أن تأتي المفارقة الدرامية بصورة أن الزمن سيوصل ماجداً إلى مرحلة الشعور بالغربة حين مر زمن على كوكب الأرض في حين أنه لم يتأثر بهذا الزمن؛ لأن المركبة الفضائية سارت بسرعة فائقة جداً.

ومن البطل المضاد "الزمن" تتضح المفارقة الدرامية:

" – هذا ما حدث. لم يمرّ عليه ما يقارب الشهر بينما مرّ على الأرض أكثر من ثلاثين سنة، تغيّر خلالها الناس، وتقدموا في السن، وأصبحت زوجته كأمه، وابنته في سنه تقريباً.. تجاوزه الزمن.. شعر ماجد أن ألماّ غريباً يجتاحه:

- ماذا أفعل؟

- لا تكذب على نفسك.. من الصعب أن تعيشا بوئام معاً.. فارق السن أصبح هائلاً..

- ولكن ما ذنبها المسكينة .؟ الزمن  هو الذي فعل ذلك.

- أعتقد أن الانسجام بينكما لن يكون صحيحاً.. وماذا عن ابنتك؟ وهي تكبرك  الآن بالعمر..." "الرواية ص 101- 102".

يدخل النسق الظاهر في علاقة ضدية مع النسق المضمر. فالذي يَظهر قبول بفعل الزمن. والإظهار بقبول ضغط الزمن يعني صراعاً داخلياً يؤدي إلى الرضوخ . فثمة مفارقة درامية واضحة، ويتمثل خط الصراع الرئيس في تلك المفارقة التي تبدأ بتلاقي الخطين الزمنيين، وتنتهي بتباعدهما، أو اختلافهما.

وما يظهر قبولاً واستسلاماً أمام فعل الزمن يضمر صراعاً داخلياً بين الواقع والمستقبل، الحقيقة والحلم،  الممكن والمستحيل. وينسحب هذا الأمر على مكان زمن الحدث، بحر العرب. فما يمكن أن يفهم  من غياب ثلاثين سنة عن الأرض أن الحلم الوردي الذي كان يسعى إليه علماء الجزيرة النائية قد تبدد. لكن المفارقة تكون بالرؤيا الإشراقية:

" – يا إلهي! هذا الرجل هو أحمد الذي عرفته في المدينة، لقد كبر ثلاثين عاماً.. أمعقول أن أعرفه بنفسي؟ سوف لن يصدق أبداً...

- ما بك تشرد بعيداً؟

- عفواً.. أردت أن أسألك لمن تتبع هذه الجزيرة؟

- للوطن العربي الموحّد...

– ماذا؟

- للوطن العربي..." "الرواية، ص 80".

ويمكن أن نسحب المفارقة الدرامية على علاقة المبدع بالنص. فالرؤية للواقع العربي مختلفة عما يحمله النص من رؤيا إشراقية.

إن ما ورائية اللغة -أي الخطاب المضمر- تحيل إلى الدلالة بالتضمن. فما يقدمه المبدع من خلال بنية الحوار البلاغية يتعارض مع النماذج الثقافية السائدة. ويحمّل المكان، والزمان، والشخصيات خلاف الصفات المؤكدة. فثمة إقامة مسافة مقصودة بين الإرجاع الكلامي، والمرجع. فالواقع العربي واقع تفرقة ومشكلات، ويضمر الخطاب مفارقة درامية تتمثل في تقديم واقع عربي مفترض يحمل أحلام العرب، ورغبة المبدع في تحقيق وحدة العرب، وتقدمهم العلمي. وهو أمر يبدو صعب التحقق في الزمن المنظور. لكن تقديم الحدث ضمن قالب درامي تتجاور فيه الخطابات يجعل هذا الأمر ممكن التحقق لدى المتلقي في خياله. وقد سعى المبدع إلى تقديم هذه الأفكار ضمن بناء درامي ظهر فيه الحوار الذي كان له فضل السبق في تصعيد الحركة الدرامية.

 

- الحوار

يقدّم الحوار عبر خطاب درامي يمثل شبكة متكاملة، ومتعارضة للأقوال والأفعال. "وأياً كانت توابع الحوار الأسلوبية، والشاعرية، والجمالية، عامة فإنه أولاً ضرب من الفعل الذي ينشئ تضارب شتى قوى العالم الدرامي الشخصية، والاجتماعية، والأخلاقية..."(7)

فالحوار فعل ملفوظ مباشر أكثر من كونه إرجاعاً إلى الفعل، وتمثيلاً له. ويمكن القول إن جميع أشكال التعارض الشخصية، والأخلاقية، والسياسية، والعلمية التي تبني الدراما تقدَّم في قالب حواري. وليست مقتصرة على بعد سردي.

وبما أن الدراما ترتقي بالحوار من البعد الذاتي إلى البعد الموضوعي تعبر من خلال الحوار عن قضية عامة عبر مشكلة خاصة متعلقة بشخصية ماجد. فقد عبر المبدع عن هموم الجماعة من فردية الذات. وبذلك تحتوي الرواية على قدر كبير من وهم الواقع. فتبدو الرواية سيرة ذاتية لماجد، بنيت بناءً درامياً. فينسجم المتلقي مع الحدث، ويتفاعل معه، ويدرك المسافة بين الحضور والغياب في النص الأدبي ذي طابع الخيال العلمي، ويتجسد البناء الدرامي من الذروات التي يسبقها تصاعد الحدث، وتتبعها لحظة تأمل تقود إلى ذروة تالية، وتصاعد حدث.. وهكذا وصولاً إلى ذروة النهاية.

وينظر النقد إلى الحوار على أنه حوار داخلي ، وخارجي.

 

ب- الحوار الداخلي

يكاد الحوار الداخلي يلازم تكافؤ الحال النفسية مع المحكي بوصفه محاولة فنية لمحاكاة هذه المناجاة.

- " ما الذي يلحُّ عليَّ لأتذكر زوجتي.. وابنتي الصغيرة ؟ يا إلهي !! إنني أبكي، عيناي تتفجران بالدمع رغماً عني.. كيف طاوعتني نفسي على المغامرة في رحلة لا أعرف نهايتها.. وأترك أسرتي الصغيرة لظروف مجهولة قاسية" ؟! "الرواية،ص67".

- " أي حلم سحري أعيش به، كأن تطورهم أكبر من أن يتحمله العقل، مدينة في قلب الصخر، بها كل متطلبات البحث العلمي الخلاق، ومركز لأبحاث الفضاء وإطلاق السفن لتحط على التوابع والكواكب التي تدور حول الشمس؟ " "الرواية، ص25".

تبدو المناجاة في الظاهر أنها تغيّب الحوار؛ لانكفائها على ذاتها انكفاءً تمليه قوة الإكراه، وممارسة أشكال الرقابة على الحوار. لكن تبدأ تنمو داخل الخطاب قوةٌ مضادة للرقابة، ونزعة إلى انتهاك سلطتها، وتمرد على طاعة الإكراه.

ليست المناجاة عاجزة في المثالين السابقين عن التجسيد المادي للحال النفسية لماجد. فهي إضافةً إلى الحوار الخارجي خصيصة أسلوبية تعبر فيها الذات عن وجودها  بالحوار. والفرق بين المناجاة والحوار فرقٌ بين الأسلوب المباشر وغير المباشر.

مناجاة ماجد ضرب من الحوار الخاص؛ لأن الذات "ماجد" تصبح هنا المرسل إليه، أو الآخر الذي ينفصل سيكولوجياً عن الذات. ويحدد  مبدأ مناجاة ماجد الأحداث التالية في علاقتها بالأحداث السابقة، ومبدأ الحوار من جهة كونه متتاليات لا حد لها.

وتنهض الدرامية في النجوى المشحونة بأبعاد الواقع. أي الخروج من وحدة الذات لدى ماجد إلى حوارها مع الواقع. فقد استدعت مشكلة ارتباطه العاطفي بأسرته في المثال الأول النجوى، كما استدعت الدهشةُ من التقدم العلمي والسعادةُ لمشاركته في رحلة الفضاء في المشهد الثاني نجواه، فكشفت الدرامية الرؤية الداخلية لماجد، أو ما يمكن تسميته بأفعال الشعور.

إذن كشفت النجوى شخصية ماجد، وانفعالاته النفسية، وتأزم حاله النفسية الذي أدى إلى تصاعد الحدث الدرامي من خلال حديث مفرد يناجي به نفسه. وتتداخل الحوافز مع النجوى للتعبير عن المدلولات الأعمق. فالنجوى انتقال من سطح الكلام إلى عمقه بالصوت الداخلي، وهو يحاور نفسه، أو يحاور العالم بصمت. فثلاثية العلاقة بين الأسرة والفضاء (الحلم) وماجد أفصحت عن تنامي الفعلية (لهفة، رغبة، قلق...) فارتفع صوت النجوى، وبذلك خرج النص من حدود الذاتية إلى الموضوعية الباعثة لوعي المبدع بالمسرحة، والنجوى، والسرد،  والتقنع.

لقد اعتنى المبدع بالسرد من خلال تنامي الفعلية داخل الحوار، ولاسيما النجوى؛ لأنها تحمل اضطراب المشاعر، والأفكار. فغاص في أعماق الذات؛ ليثير أسئلة الوجود. وهنا نجد أن هذه الرواية لا تجنح إلى الوصف(8) شأن غيرها إلا بالقدر الذي يعاين تجليات الذات. وحين يطور الحوارُ الفعليةَ، ويجعلها تتنامى يطور الحدث الدرامي: " يلحّ، أبكي، تتفجران..." ولا يقتصر هذا الأمر على الحوار الداخلي (النجوى) بل يتعداه إلى الحوار بين الشخصيات أو الحوار الخارجي.

 

- الحوار الخارجي

يتأسس الحوار على البحث عن الحقيقة، وتوليدها من الحوار، فيغدو المتلقي متلفِّظاً مشاركاً ماثلاً في خطاب المبدع. والأمور المسكوت عنها في الملفوظ هي في الواقع مقتضيات دلالية؛ إذ يثير المبدعُ المتلقي بما يثير اهتمامه حين يحيل إلى أسماء معروفة، وأمكنة معروفة. ويعني ذلك أن هذا النص الأدبي/ العلمي- إن صح التعبير- لا يتكون من خطاب التخييل فقط. فتصوير الواقع والمأمول عبر الحوار بين الشخصيات يضع المتلقي أمام مفصل احتمالات، ويدعوه إلى تنشيط بعض الحوارات المستمدة من مخزونه المعرفي. فلا يتم الحوار إلا بما يهمّ المبدع، وهو أمر مهم من أمور استراتيجية الخطاب. وما يذكره لم يعد مجرد رغبة بل صار موضوع حكاية.

"- كيف حالك يا ماجد ؟

-بخير ...

-ستكون شاهداً على تفوقنا العلمي

– ستصل سفينتكم المريخ، وتغرسون علم حضارتنا على سطحه.." "الرواية، ص 42".

لقد أنجز المبدع من خلال الحوار ما أراد أن يقوله علانية، ويمكن القول إن التفاعل القولي مهما كان ودّياً هو مجال مواجهة يسعى خلالها كل متكلم إلى فرض الذات، واحتلال الموقع الأفضل، وتأكيد الوجه الإيجابي. وهذا ما سعى إليه مخاطِب ماجد. وهو سعي يتم في الحوار، وبفضله. فقد حدد وجهة الحوار، وأنجز بالكلام ما يمكن أن يوصله إلى هدفه، وأظهر أن له سلطة على مخاطبه، وأن يكون ما يطلبه منه قابلاً للتنفيذ، وأن يكون المخاطب "ماجد" مستعداً له، وقادراً عليه، فأدخله في مرحلة تحدٍّ للذات تقود إلى توتر درامي.

لقد حدد الوضعية الكلامية المضمرة بفعل معنى الأقوال، وأخفى الفكرة ذات الأبعاد السياسية والعلمية التي صنع من أجلها هذا الحوار. فقد أراد المبدع أو يوصل المتلقي إلى نتيجة غير مصرّح بها:

ستصل سفينتكم، ستغرسون العلم (الرواد العرب) على سطحه.

رؤيا يقينية          خطاب مضمر

قدم المبدع محاكاته بصورة درامية،(9) أي قدمها وهي تقوم بأداء الأدوار التي قد يصفها آخرون مجرد وصف فقط.

وتقوم الرواية بعامة على حوار بين أصوات محددة: صوت "ماجد" الشخصية الرئيسة، وصوت مجتمع الأرض، وصوت مجتمع الكوكب المجهول. وهذا الحوار قائم على الاختلاف، وربما الصراع. فلا يلتزم المتحاورون موقفاً واحداً. ويهيمن السؤال على خطاب أحدهم، ثم لا يلبث قلق المعرفة أن ينتقل إلى الآخر.

" – كيف ستقنع الناس بما حدث لك؟

- سيعتبرونك مجنوناً....

- سيرونني أمامهم حيّاً يرزق.. وبكامل وعيي...

- وكيف ستبرر اختفاءك كل هذه السنوات؟

- سأقول لهم إنني كنت في الفضاء..

- وكيف انطلقت إلى الفضاء.. ومن أي مكان؟

قال نادر:  لن تستطيع أن تدلهم – أصحاب الكوكب اللامع- على الجزيرة.. لأن ذلك يجب أن يبقى سراً كما تعلم.. حتى ولو أردت أن تدلهم على المدينة العلمية العربية فسيكون ذلك صعباً عليك،  فما الذي ستفعله إذن؟

- أنا لا أفكر بكل ذلك.. أريد العودة إلى الأرض فقط.. ولا أهتم بما يجب أن أقوله لتبرير غيابي .. المهم أن أصل الأرض سالماً.." "الرواية ، ص 71"

يبدأ الشاهد بصوت الآخر باحثاً عن جواب لدى صوت الأنا، وهما يتبادلان القلق الوجودي. فالسائل يجيب، وينتقل التساؤل إلى تفاؤل لدى صوت الأنا "ماجد" بينما يكتسي صوت الآخر "رواد الفضاء" باليأس. الأمر الذي يجعل التوتر الدرامي في حال تصاعد،  وهبوط. إنه الاختلاف الذي تنبع منه الحوارية.

 

- الحوارية  في الخطاب الدرامي

مفهوم الحوارية مفهوم متأت من الناقد باختين الذي أدرجه في نظرية الأدب. وهو مرتبط  بالحوار، وتعدد الأصوات، والأساليب في نفس الملفوظ.(10)

ولا تعني الحوارية انغلاق النص الأدبي، بل تقيم بدلاً من هذه الفكرة فكرة الأثر المفتوح على النصوص وضروب الخطاب.(11)

وتعني الحوارية لدى باختين علاقة أي ملفوظ بالملفوظات الأخر. وهذه العلاقات سيميائية. وبذلك يكون البحث في حوارية النصوص كاشفاً عن تعدد الأصوات، وتنوعها، وثرائها.

في المبدأ الحواري تتعدد الأصوات، وتتمتع بحماية الاختلاف، فيفسح المبدع لمختلف الشخصيات المجال للتعبير عن اختلافها بعيداً عن هيمنة الذات المبدعة. والاختلاف الذي تنبع منه الحوارية كامن في الإنسان نفسه؛ لأنه تعددي بالضرورة، ويتميز بتعدديته من الناحية الأنثروبولوجية في نظر باختين.

وهذه الرواية قائمة على التعدد، والحوارية، والاختلاف. وهو تعدد يأخذ شكلاً سردياً من جهة، ومن جهة أخرى يمتد إلى خطاب الرؤى، والأحلام.

- " أيمكن أن أزور المجتمع المداري؟

- ماذا تقول يا ماجد... هي ليست رحلة استجمام.. يحتاج الأمر لتدريبات قاسية حتى تصبح رائداً جيداً يمكنك السفر في الفضاء...

- وماذا سأعمل في المدينة إذن؟

- أنت مهندس ميكانيك، يمكنك العمل في كثير من الأقسام الميكانيكية .. في المدينة..

- أيمكن أن أعمل في قسم الهندسة الفضائية؟ أعتقد أن للمهندس الميكانيكي عملاً غير عادي في هذا القسم.

- سنرى .. سنرى... لا تتعجل الأمور .. المهم أن تستوعب ما في المدينة من أقسام علمية، وتتعرفها". "الرواية، ص28".

اختلفت وجهات نظر المتحاورين، فتعارضت  حينا،ً والتقت حيناً آخر، واختلفت في الحال العامة. فالذات لا تكرر نفسها، ولا تعيد إنتاج خطابها. فليس هنالك شيء يقيني، وهذا هو جوهر الخطاب المتعدد؛ إذ تتعدد الأصوات، والضمائر بين الأنا والآخر، والذات في الخطاب في حال توحدها، وانشطارها.

ونلحظ في الشاهد السابق تكرار الاستفهام والنهي. فبدا هذا الشاهد مشهداً مسرحياً يظهر فيه ماجد راغباً في الانفصال، والاتصال، مؤكداً فكرته التي يسعى لأن تكون متوافقة مع فكر المجتمع الجديد.. مجتمع الجزيرة النائية؛ لذا يتواصل الحوار، فلا يتم إضفاء زخم درامي على الشاهد إلا بكسر أحادية الصوت، وتعدد الأصوات والأفكار واختلافها.

وتكمن الدراما بشكل جوهري في أنا وأنت والآن وهنا، ويتفوق الحوار على السرد، وتتعدد الأصوات وتختلف. فالدراما " تكون محاكية أكثر مما تكون وصفية سردية تماماً. أي أنها تكون ممثلة أكثر مما تكون مروية لا تساعد على التمييز بين الترتيب السردي، وبنية الحوادث".(12)

ولعل ما يرجح الفرضية التي بني هذا البحث عليها والمتمثلة في أن مقاربة هذه الرواية يجب أن تتم من منظور درامي تراجع مساحة السرد، والوصف على حساب مساحة الحوار.

وترتبط الحوارية بفاعلية الحوار العام؛ إذ إنها تكشف وظيفة الضمائر في بناء الرواية، وتبرز تعدد الخطابات داخل النص، وبذلك نكون إزاء وظيفة التواصل التي تضطلع بها ضمائر المخاطب من جهة، وضمائر المتكلم والغائب من جهة أخرى إضافة إلى تبادل الأدوار بين هذه الضمائر. وبذلك نكون في صميم والسيرورة التواصلية التي تحول ما يعرف بالشخصيات إلى عوامل تنجز الأفعال، وتضفي طابع دينامية على العلاقات من جهة كونها أفكاراً، وتنفي فكرة الثبات عنها، فإذا بها ذات حركة دؤوبة معرضة للتغيير والتحول.

- " أنت في المدخرة الطبية، وركام من الأحاسيس والانفعالات تغمرك.. يجب أن تكون حيادياً يا صديقي في الحكم على الأشياء من حولك، دون أن تضغط عليك العاطفة، فلا ترى إلا بعين بصيرة خبيرة.

- نحن البشر مشحونون بالعاطفة .. دون عاطفة نتحول إلى أحجار بلا حسّ..

- عاطفتك يا ماجد هي التي تتحكم بك الآن، وأنت ترى مظاهر تفوقنا الحضاري دون أن تتأثر..." "الرواية ص70".

لقد شغل الحنينُ ماجداً إلى كوكب الأرض، فلم تفلح كائنات الكوكب اللامع في إقناعه بضرورة البقاء فوق ذلك الكوكب. ونجد أننا في الشاهد السابق إزاء تعدد ضمائر أدى إلى وظيفة تواصلية بين شخصين من كوكبين بينهما فارق حضاري كبير أبرز الحوار الفوارق بينهما. إنه الأسلوب الحجاجي الذي يعتمد على مبدأ أن الخلاف قد يقود إلى اتفاق، حتى لو كان اتفاقاً على عدم اتفاق.

وقد دخل الخطاب في حوار مع معارف علمية، وإنسانية. ففكرة الاختلاف هي نواةُ فاعلية الحوار؛ لأنها تتعلق بالمعنى، وتتعلق أيضاً بالذات التي هي شبكة من التناقضات لا تحيا إلا بحضور الآخر الذي تقيم معه علاقة حوارية.

إن الآخر يسكن في ذواتنا بالقدر الذي نسكن فيه في ذوات الآخرين. ويمكن أن نصل إلى أن ثمة طبيعة حوارية بين النص وصاحبه من جهة، والنص والمتلقي والسياق الثقافي من جهة  أخرى.

لقد أسهم المتخيل العلمي في بناء صورة عن المجتمع البديل الذي يحلم به المبدع، وبناء صورة عن مجتمع الكوكب الآخر. وصورةُ الآخر هي تجلّ  من وجوه صورة الأنا، أو هي تجاوز لصورة الأنا إلى فضاء مستقبلي يحقق ما عجزت عن تحقيقه في الحاضر. فنشأت علاقة بين الهوية المفترضة والغيرية، وحضرت الجماعة بآمالها في الصوت الفردي "الرغبة  في مستقبل عربي علمي مشرق". وهذا الصوت لا ينتج إلا في دائرة الحوار الذي قوامه الفعل الثقافي العلمي.

لكن هذه الأصوات لا تتماثل. فللحوار علاقة بمنطق التداول؛ لأن له وظيفة تداولية وهنا يأتي التوتر. فكل صوت يسعى إلى تثبيت نفسه بوصفه قيمة دالة تعالج القضية. لقد كانت الحوارية في هذه الرواية سيرورة ثقافية تداخل فيها الفردي والجماعي، والطبائع الخاصة والعامة تداخلاً جسّد حقيقة الحوار بين الشخصيات من جهة، وبين الثقافات من جهة أخرى.

لم يكن الحوار علمياً خالصاً في هذه الرواية بل اتسم بسمة البلاغة، الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن شاعرية الدراما فيها.

 

-  شاعرية الدراما

كان الحوار في الرواية وجودياً، تعبيرياً ، فعلياً وهو أمر يجعل  للخطاب توابع، ويجعلنا نتكلم على بلاغة  الحوار التي تعد جزءاً من الشاعرية.

والنظر في البلاغات الدرامية في هذه الرواية يؤكد تلازم الخطاب العلمي والخطاب الأدبي في رواية الخيال العلمي؛ إذ  تزخر الرواية بالمجازات والتصورات الخيالية. وتبرهن أن البلاغة الدرامية تنطوي على صيغ مجازية.

"- نحن الآن فوق شبه الجزيرة العربية.. بعد قليل تبدو جزيرتنا.. قلوبنا يملؤها الشوق واللهفة لتحقيق الحلم..

- السماء سوداء تلمع فيها النجوم، والشمس تبدو خابية الضوء تصلنا أشعتها الخافتة. والقمر يبدو في السماء كالصحن اللامع...

" ما أجمل منظر السماء، والأرض تسبح في الفضاء".. "الرواية، ص 41- 42".

تظهر وظيفة الصور البلاغية في التفاعل الدرامي على نحو أفضل في الخطاب الوصفي المتضمن صوراً بلاغية متسمة بالتضاد. فالأرض والفضاء يمثلان ثنائية جزء / كل، والجزء سابح في الكل، والنجوم تلمع في سماء سوداء.

الخطاب العلمي صيغَ –في بعض المواضع- بلغة تغلب عليها الصفة الاستعارية. وحين نربط بين العبارات البلاغية يتضح البعد الدلالي الحواري للأسلوب العلمي الذي ينسجم وسائر الأساليب، ويغذيها...

يرى باختين أن الأفكار التي يجري إثباتها تدمج في وحدة وعي المؤلف. هذا الوعي الذي يُرى، ويُصور. أما الأفكار التي ترفض فتوزع بين الأبطال.(13)

إن خطاب التخييل هذا يكشف أن التقرير الظاهر، والخطاب العلمي الطاغي أمران يخفيان الجانب الأدبي؛ لأن ذات التلفظ الحقيقية تنجز عملاً لغوياً غير مباشر يقدم بواسطة الصيغ المجازية والقوالب التشبيهية التي تنقل المتلقي إلى عالم متخيل.

 

- خاتمة

- تعبر الدراما في هذه الرواية عن قضية إنسانية عامة عبر مشكلة خاصة متعلقة بالشخصية الأساسية ماجد، ويدرك المتلقي المساحة بين الحضور والغياب حين يتجسد البناء الدرامي في ذروات يسبقها تصاعد أحداث، ويتبعها لحظات تأمل. فالصراع الدرامي صراع بين إرادتين تحاول كل منهما هزيمة الأخرى.

ويمكن القول إن الدرامية تُعنى باشتمال النص الأدبي على المعنى الإنساني، واستخراج القيم الرمزية.

- ظهر الصراع في الحوار بين الأصوات وقد أظهر هذا الحوار خصائص المتحاورين الذين لا يلتزمون موقفاً واحداً؛ إذ يقوم المبدأ الحواري على تعدد الأصوات، وتمتعها بحق الاختلاف. ولذلك انطلقت فكرة هذا البحث من أن هذه الرواية مبنية بناء درامياً؛ لأن أساسها الحوارات، والأصوات المتعددة.

- شخصيات هذه الرواية ذات سمة إنسانية خيّرة تسعى إلى فضاء يتحقق فيه التطور العلمي؛ لذا ترتفع سمة التشويق، والإثارة حين يتجاور الخطاب الإنساني والخطاب العلمي الذي ارتفعت وتيرته فيها، إلى درجة يحتاج فيها القارئ إلى تتبع المصطلحات، ومعانيها بدقة.

- كان البناء الدرامي ممثّلاً أكثر مما كان مرويّاً؛ لذا قلت الوقفات الوصفية، والسردية فيه.

- تجلت الدراما على صعيد المضمون في تقديم الصراع بأبعاده المختلفة من صراع نفسي إلى صراع مع الزمن إلى صراع مع المجهول.

وثمة طريقة في عرض الصراع، والموقف الدرامي هي توجيه لزاوية رؤية المبدع ورؤياه. فقد تعددت زوايا الرؤية والرؤيا من خلال تعدد مواقع الشخصيات المصورة للحدث. الأمر الذي يضفي عليه حركة، ودينامية تجعل منه عدة أحداث. فرؤيتان مختلفتان لحدث واحد تجعلان منه حدثين مختلفين.

- تظهر الدرامية على السطح من خلال الخطاب الدرامي كالتساؤل المفتوح على أكثر من إجابة ممكنة. فتبرز الحوارية، ويتحول المتلقي إلى شريك في الرأي. والأسلوب الجدلي أسلوب يهتم بمنطق الحكم قدر اهتمامه بالحكم ذاته، فيسعى المبدع إلى إقناع المتلقي؛ لأنه طرف في الفكرة.

ولجوء المبدع إلى أسلوب الشرط والاستفهام والتساؤل الجدلي الحواري أمر يدل على احترامه عقل المتلقي الذي يراد له الاقتناع والبحث في مختلف المسائل بإشراك الآخرين في تدقيق الحكم، وبلورة الاستنتاج.

- اعتمد الروائي على لعبة الضمائر. فالضمير يخفي وراءه ضميراً آخر، ويجعل الضمائر في حال اتصال دائم. وتكشف الحوارية – وهي خصيصة درامية تنزع الصفة الموغلة في الفردية عن الخطاب- عن وظيفة الضمائر في بناء الرواية.

- صورة الأنا هي تجلّ لصورة الآخر؛ إذ يسهم المتخيّل في بناء صورة الآخر.

- ينم الخطاب الدرامي في هذه الرواية على قلق معرفي. لقد أراد المبدع أن يتصل بالآخر؛ لتقديم الخيال العلمي في قالب يجمع بين العلمية، والأدبية. وهي معادلة ليست يسيرة. وقد أراد لهذا الاتصال أن يتأسس على تطويرٍ لمجمل الشروط المعرفية، والأخلاقية.

 

...................

الإحالات

[1]- د. طالب عمران، 2002، فضاء واسع كالحلم، دار الفكر، دمشق.

2 - Baldick chris, concise Dictionary of Literary terms oxford university press, 1996, P: 62.

3 - د. نبيل راغب، 1996، فنون الأدب العالمي، ط1، الشركة المصرية للنشر، مكتبة لبنان، ص 88.

وانظر تعريف الدراما:

مجدي وهبة: 1974، معجم مصطلحات الأدب، مكتبة بيروت.

مجموعة مؤلفين: 1980، موسوعة المصطلح النقدي، المجلد الثالث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

روبرت لانغيوم: 1983، شعر التجربة، المونولوج الدرامي في التراث الأدبي المعاصر، ترجمة علي كنعان وعبد الكريم ناصيف، وزارة الثقافة، دمشق.

د. عبد العزيز حمودة: 1998، البناء الدرامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

د. إبراهيم حمادة: د. ت ، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، القاهرة.

4 - انظر د. إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، ص179.

5 - المرجع السابق، ص 86.

6 - المرجع السابق، ص 248. المفارقة الدرامية Dramatic Irony موقف في مسرحية يشترك فيه المؤلف مع جمهوره في معرفة ما تجهله شخصية ما من حقيقة، وتتصرف بطريقة لا تتفق تماماً مع الظروف القائمة، أو تتوقع من القدر خلاف ما يخبئه في طياته أو تقول شيئاً تتوقع منه أن تكون فيه النتيجة الحقيقية ولكن يحدث أن تأتي النتيجة عكسية تماماً.

7 - كير إيلام: 1992 ، سيمياء المسرح والدراما، ط1 ، ترجمة رئيف كرم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص 246.

8 - انظر رواية أحزان السندباد، 2002، اتحاد الكتاب العرب، دمشق

9 - عبد العزيز حمودة، البناء الدرامي، ص 136.

10 - Dominique combe, les genres litteraires ed hachette superieur, Paris, 1992, P.159.

11 -محمد القاضي، د. ت، في حوارية الرواية، دار سحر للنشر، ص112.

12 -كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص183.

13 -ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، ط1، ترجمة: جميل ناصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ص116.

 

المصادر والمراجع

1 -إيلام، كير: 1992 ، سيمياء المسرح والدراما، ط1 ، ترجمة رئيف كرم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.

2 - باختين، ميخائيل: د.ت، شعرية دوستويفسكي، ط1، ترجمة: جميل ناصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء.

3- حمادة، د. إبراهيم: د. ت، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، القاهرة.

4- حمودة، د. عبد العزيز: 1998، البناء الدرامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

5- راغب، د. نبيل: 1996، فنون الأدب العالمي، ط1، الشركة المصرية للنشر، مكتبة لبنان،

6 - عمران، د. طالب: 2002، فضاء واسع كالحلم ، دار الفكر، دمشق.

7  - عمران، د. طالب: 2002، أحزان السندباد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق

8- القاضي، محمد: د. ت، في حوارية الرواية، دار سحر للنشر.

9- لانغيوم، روبرت: 1983، شعر التجربة، المونولوج الدرامي في التراث الأدبي المعاصر، ترجمة علي كنعان وعبد الكريم ناصيف، وزارة الثقافة، دمشق.

10-مجموعة مؤلفين: 1980، موسوعة المصطلح النقدي، المجلد الثالث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

11-مجموعة مؤلفين: 1980، موسوعة المصطلح النقدي، المجلد الثالث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

 

المراجع الأجنبية

- Baldick chris, concise Dictionary of Literary terms oxford university press, 1996

Dominique combe, les genres litteraires ed hachette superieur, Paris, 1992

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2233 الاربعاء 03 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم