قضايا وآراء

شمس العرب تسطع على الغرب:*

إلى الدولة الإعلامية. وكل هذا يؤشر على مركزية الفعل الإعلامي في التنوير والتثقيف..

وقد ألمح المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى هذه الفكرة قائلا: "لا يقاس غنى مجتمع بكمية ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار". ويمكن التعبير عن هذه المقولة بصياغة أخرى نحو": لا يقاس غنى مجتمع بما يملكه من آليات مدرعة، بل بقدر ما يملكه من صحون مقعرة"، والآليات المدرعة إنما هي رمز للسباق نحو التسلح، وأما الصحون المقعرة فهي إشارة إلى الإعلام والتعلم..

هذا وقد أضحت الشاشة الصغيرة بوابة معرفية تواصلية قربت كل مفاهيم الجغرافيا والتاريخ، وأظهرت كل العالم مكشوفا للعين المجردة بنقرة أو نقرات على جهاز التحكم عن بعد..

وتوجد على الساحة الإعلامية الدولية إمبراطوريات إعلامية، تعيد صياغة الوعي العالمي على مقاسها كل يوم، بل وفي كل نشرة إخبارية تؤسس فيها لمفاهيم وتطيح بأخرى في شكل فظيع وممنهج، تغيب فيه الرسالة الإعلامية في نقل الخبر والحدث، وإشاعة ثقافة التنوع والإختلاف بدل التنميط والإقصاء..

وإذا أردنا أن نمثل بالمجال العربي، فسنجد أنه إلى فترة قريبة كان الإعلام الرسمي يسيطر على كافة القنوات والإذاعات، إلى حد هي أقرب فيه إلى أوكار للداخليات وللأنظمة الحاكمة، تسوق لفكر الإستبداد السياسي وللرأي الأحادي.

ولم يبزغ فجر الحرية إلا بعد ولادة الإعلام المستقل والخاص، رغم طغيان البعد التجاري على بعض اتجاهاته، لكنه مع ذلك حاصر الإعلام الموجه وفتح كوة على التعددية. وتمثل قناة الجزيرة بمختلف تخصصاتها نموذجا فريدا على ذلك، حيث استطاعت أن تمارس التغيير الذي عجزت الأحزاب العربية العتيقة والمؤسسات الأهلية أن تقوم به، وذلك في زمن قياسي شغل بال مراكز القرار داخل الدول العظمى، إلى الحد الذي دفعت فيه الغيرة بالبعض إلى التفكير في تفجيرها بعد أن أعياه التنديد بها إعلاميا ولدى الدولة الحاضنة..

إن هذه القفزة سوغت للبعض وصفها ب " cnnالعربية" لطابعها الدولي المرتبط أساسا بتغطيتها اليومية والمعمقة للأحداث الأكثر إثارة في العالم (فلسطين، العراق، الإرهاب، ...)، ولتموقع صحافييها ومراسليها في أغلب النقاط الحساسة في العالم. وهذا التوجه جعل منها محطة يستقي منها العالم المادة الإخبارية حتى داخل الدول التي تنقل منها الحدث،  لاعتمادها على روح المبادرة والسبق الصحفي والحياد في التناول.

إذن لقد أضحت الجزيرة مؤسسة إعلامية إخبارية عربية تضاهي مثيلاتها في الغرب بقيم النزاهة والشفافية والجودة والإبداع... التي تملكها وتؤطر عملها في الميدان، في الوقت الذي تشهد فيه بعض القنوات الضخمة تراجعا بفعل تماهيها مع الحكومات واختياراتها السياسية، مما كون رغبة ملحة لدى المشاهد عموما في وضع مسافة فاصلة بين الذات والحدث، لفهم ما يجري في الواقع بعيدا عن مقص الرقيب. وأول خطوة تأتي في هذا المضمار الإنصات إلى صوت الآخر والانفتاح على الإعلام الخارجي. ولعل الجزيرة الآن صار لها صوت مسموع حتى لدى الإنسان غير العربي وباتت من مصادر الخبر لديه، وقد تعزز وتوج هذا الشعور بانطلاق الجزيرة الناطقة بغير لغة الضاد الإنجليزية، يوم الخامس عشر من نونبر 2006، وبطاقم رفيع المستوى من الأجانب غير العرب، الذين سيخوضون تجربة متميزة وفريدة تنأى بنفسها عن المألوف، وتؤسس لشراكة إعلامية قوامها الحرية والإنفتلاح وقدسية الخبر، بصورة أكثر احترافية واستقلالية وعمقا مما كان عليه الأمر مثلا في القسم العربي بإذاعة "البيبيسي bbc".

لقد شكل إنشاء الجزيرة "الأخرى" اختراعا إعلاميا بتوقيع عربي، وحدثا ينذر نظيره ويستحق الإقتداء والتقليد، لكونه ينم عن وعي مسبق بالشراكة والانفتاح وعن مهنية عالية تعلو على الذات وتنحو نحو الكونية، التي مركزها الإنسان من حيث هو كذلك مجردا عن انتمائه ولونه وأرضه... وهو درس أخلاقي قبل أن يكون ممارسة فعلية في زمن يطغى عليه جنون البشر وانتشار ثقافة الموت هنا وهناك.

إن سمو الرسالة الإعلامية في حاضرنا لهو أكبر غاية يروم إليها العالم المتحضر، لكونه عانى ولا يزال من ويلات الحروب الرمزية والمادية التي تشتعل في كل مكان وزمان، وإن من شأن هذه الرسالة أن تبني مفهوما جديدا للحضارة الإنسانية وتفعل التعاون والتلاقح بين الأفكار والآراء المختلفة، لتسهم في خدمة قضايا الإنسان المعاصر وتقوي دوره في العمران والوجود.

ولا يبعد أن تضطلع الجزيرة الإنجليزية بالتقريب بين الغرب والعرب، وأن تطفئ نيران الحقد والإحتقان المتأججة في الآونة الأخيرة، درءا لأي صدام بين الحضارات أو دفعا لأي مشروع يضع التاريخ على حافة السقوط. ولتسطع شمس العرب على الغرب من جديد.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هذا العنوان نستعيره من عنوان لكتاب أصدرته المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، ونوظفه في هذا المقام على سبيل التشبيه بمناسبة انطلاق قناة الجزيرة بالإنجليزية.

العربي إدناصر: أكادير المغرب.

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1221 السبت 07/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم