قضايا وآراء
الأثر الأدبي الأندلسي: الشعر الغنائي
على سبيل التقديم: في الواقع، "عرفت الأندلس تاريخا متميزا في مظاهر العيش صغيرها وكبيرها فتحمل الأندلسيون على اختلاف أصولهم وعقائدهم مسؤوليات تدبير أمور الحكم، وتلاقوا في مجلس العلم معلمين ومتعلمين، وكتبوا فيما هو عام، يحذوهم حب العلم، وسعوا إلى نشر آثاره، أو فيما هو خاص ينورون به عقول ذوي المعتقد كل في نحلته ويهدونهم السبيل.وتنافسوا في سبيل العيش في الأسواق، ونهضوا بشأن التجارة وزرعوا الأراضي وغرسوا الجنان وهذبوا البساتين وحفروا الآبار ونظموا الري ورفعوا البنيان وتساكنوا وتجاوروا في نفس الرباع والأصقاع وأحيانا في نفس الدور . وباختصار، نسجوا نسيجا حضاريا مختلف الألوان ومنسجم التركيبة.إنها مشاركة امحت فيها الخصوصيات الدينية والعرقية وتوارت فيها الأنانيات والعصبيات زمنا كان كافيا لبناء مجتمع يعتبر، بحق، بما صنع في العلم والرجال، المثال الذي يجب أن نضعه دوما نصب أعيينا.وقد عاشت الأندلس أبهى فترة خلال حكم المسلمين لها وسطرت في ثمانية قرون أعرق حضارة كان لها الفضل في نشر المعرفة في أوربا كلها.وفي كلمة، إنها تاريخ مشرق وحضارة عظيمة قدمت النور والخير العظيم للإنسانية" كما يذهب إلى ذلك العلامة الدكتور أحمد شحلان في مداخلة له ضمن فعاليات ندوة دولية كان قد عقدها مركز دراسات الأندلس و حوار الحضارات بالرباط / المغرب في الفترة الممتدة ما بين 12 و 14 مارس 2002 حول موضوع: الحضارة الإسلامية في الأندلس و مظاهر التسامح.
إن الأوضاع العالمية المعاصرة بما فيها من تيارات وأفكار تجعل إعادة قراءة حضارة الأندلس وثقافتها واقتراح تأويلات جديدة ملائمة ضرورة وجيهة لإلقاء مزيد من الأضواء على مظاهر التسامح والتعدد والغنى فيها .
ويعتبر حقل الأدب من بين أهم الحقول الإبداعية التي يمكن أن نستشف من خلالها تنوع وغنى وتعدد وخصوبة الحضارة الأندلسية.صحيح أن العرب حملوا معهم حضارتهم إلى الأندلس المفتوحة وذلك شأن العرب في كل زمان ومكان، بحيث إنهم لم يفتحوا بلدا إلا ساقوه إلى التقدم والازدهار، فهم أصحاب رسالة إنسانية يحملونها في عقولهم وقلوبهم أينما ضربوا في الأرض، وقد حملوا إلى الأندلس علمهم ونورهم فإذا هي قبلة للثقافة والعرفان.وصحيح أيضا أن الأندلسيين طرقوا أغلب الفنون الأدبية المعروفة، فلم يتركوا غرضا من الأغراض إلا ونظموا فيه، ومنه ما ترسموا فيه أهل المشرق فوطئوا في معانيهم وشاركوا في أساليبهم، ومنه ما طبعوه بطابعهم الخاص كوصف الطبيعة ورثاء الممالك الزائلة، ثم اختراع فن الموشحة ؛ غير أنه يتم أحيانا تناسي أن هذا الأدب العربي بالأندلس قد ساهم فيه، ليس فقط العنصر العربي، بل كانت لأعراق وأجناس أخرى، بطريقة أو بأخرى، يد فيه، من مولدين ويهود وصقالبة وبربر وقوط الخ.
ويبدو أن كتاب ماريا خسوس روبييرا ماطا María Jesús Rubiera Mata الموسوم بعنوان "الأدب الأندلسي / Literatura hispanoárabe" يصب في هذا المضمار، دون شك.وكما ذكرنا، نقصد بهذا الأدب كل الأعمال الفنية الأدبية المكتوبة باللغة العربية، والتي أنتجت في شبه الجزيرة الأيبيرية خلال فترة التواجد الإسلامي بالأندلس. إننا يمكن أن نعتبره، وبحق، رحلة مشوقة في الزمان والمكان مع هذا الأدب المتميز.
وقد حاولنا، قدر المستطاع، أن نقدم في مساهمتنا المتواضعة هذه، ترجمة لأحد أبرز فصول هذا الكتاب والذي يحمل عنوان: "الأثر الأدبي الأندلسي".في هذا الفصل، تسعى الباحثة إلى عملية رصد التأثيرات التي كانت للأدب الأندلسي العربي [الإسبانو- عربي] في بقية الآداب الإسبانية كالأدب القشتالي والبالنسي والكاطالاني والبرتغالي، بل وامتداد هذه التأثيرات حتى خارج حدود الجزيرة الأيبيرية، كما هو الشأن في جنوب فرنسا وبالضبط منطقة البروبنثال كما يظهر عند الشعراء الغزل فيها. وتظهر هذه التأثيرات السابقة على عدة مستويات وتتم وفق عدة وسائل كالترجمة والمشافهة على سبيل المثال لا الحصر.
ويبدو أنه، حتى وإن كانت العودة إلى التراث الأدبي الأندلسي وإعادة تقليبه والبحث فيه، من الصعوبة بمكان، لعدة أسباب أبرزها الفارق الزمني الكبير الذي يفصلنا عنه، فإن الدكتورة ماريا خسوس روبييرا ماطا نجدها واعية جدا بهذه المسألة في عملها السابق الذكر.
ويظهر ذلك في اعتمادها على المصادر والمراجع الموثوقة وصياغة المثال واعتماد المحاجة . كل ذلك بأسلوب علمي وموضوعي رصين ولطيف.ولم لا وهي واحدة من أبرز المستعربين الإسبان الكبار الذين جاد بهم القرن العشرون من أمثال : إميليو غارثيا غومث وماريا خسوس بيغيرا وفيدريكو كوريينتي واللائحة تتأبى عن الحصر في هذا الصدد.
إن الغاية من ترجمة هذا الفصل اليوم والكتاب في مجمله، في فرصة لاحقة، لا تخرج عن كونها محاولة بسيطة ومتواضعة نبتغي من خلالها تقريب القارئ العربي - الذي لا يستطيع أن يصل إلى كتاب كهذا في لغته الأصلية - من فحواه ومعرفة كيف ينظر الآخر إلى تراث عام نحن من أبرز المشاركين في إنتاجه. فإذا تحقق هذا فقد تم القصد ، والله ولي التوفيق .
الشعر الغنائي
لقد رأينا فيما يتعلق بالشعر المقطعي الأندلسي، حول الموشحة والزجل، كيف أن الأدب الأندلسي قد استوعب أشكالا ومواضيع مصدرها الشعر الغنائي الأوربي وكيف أن الخرجات تنحدر من شعر قديم أنثوي عام بالنسبة للأشعار الأوربية وأن أصوله تمتد إلى بلاد اليونان القديمة، وكيف أنه كان يتم التعبير فيها بواسطة لغات يمكن أن نعرفها بكونها قبل إغريقية وقبل أوكسيطانية تحمل في طياتها كلمات عربية.لازال أصل شكلها المقطعي يناقش، أهو عربي أم أنه ذو أصل أوربي، بحيث تبدو لنا هذه النظرية الأخيرة أكثر احتمالا لأن الشعر المقطعي هو الطاغي في الأدب الروماني ونادر في نظيره العربي.
السؤال المطروح هو: هل هذه العلاقة ذات ذهاب وإياب ، هل الشعر الغنائي الأندلسي أثر بدوره في نظيره الروماني، وبالضبط في أول تمظهر واع وعالم له ونقصد شعر البروفنثال الذي أثر هو الآخر في باقي الأشعار الغنائية الأوربية؟ إنه موضوع قديم كان قد حمله إلى طاولة النقاش يسوعي إسباني في إيطاليا؛ حيث كان لحل الجمعية الدينية من طرف "كارلوس الثالث " السبب في الذهاب إليها.و يتعلق الأمر بالأب خوان أندريس، المدافع عن التأثير العربي في الشعر الغنائي الأوربي. هذا الموضوع عاد بقوة في ثلاثينيات القرن العشرين وبالخصوص من خلال أ. ر نيكل الذي كان يلح على التشابه في الأشكال بين شعرغييرمو دي أكيتانيا والأشكال الزجلية، وكذلك الاتصال الثقافي بين طرفي البيريني كليهما والذي، كما رأينا، كان عاديا وقديما دون أن نحتاج إلى ذكر المناسبة المشهورة التي تم فيها الاستيلاء على بارباسترو (بلدية في إقليم ويسكا) من طرف صليبي ما وراء البيريني "1064"، حتى وإن كان بهذه المناسبة ستمتلئ البلاطات الأوربية بالأسرى المسلمين الذين كان من بينهم شعراء وإيماء مغنيات .
إن فك رموز الخرجات الرومانية الأولى بواسطة "ستيرن" حمل الباحثين نحو نقطة اهتمام أخرى.لكن التأثير العربي في الشعر البروفينثالي يبقى مادة معلقة، والتي في لحظة ما، سيكون من الضروري أن يعاد طرحها بدون نظريات متحيزة، لأنه، وبدون شك، لم يولد الغزل، فقط، انطلاقا من التأثير العربي.
غير أننا نعتقد أن حضور الشعر العربي في الشعر الغنائي للغة الأوكسيطانية يوجد مثبتا في نشيد القرن 9 م الذي يوجد في " سان مارثيال دي ليموخس " مكتوب باللغة الأوكسيطانية المحلية ومهدى إلى القديسية ماريا وبدايته:
أصدقائي وأوفيائي
أتركوا الغزل
ولنتعلم لحنا جديدا
للعذراء ماريا .
على الرغم من أن أعداء التأثيرات العربية، من أي نمط كانت، يزعمون تغيير كلمة "غزل"، فإنه من البدهي أن السياق نفسه لا يترك مجالا للشك: اتركوا أغاني الحب الدنيوي - لنتذكر أن "غزل" هو الاسم التقني الذي يسمى به شعر الحب العربي- وغنوا للقديسة ماريا.
ولما كان الأمر كذلك، فإن هذا يعني أنه قبل أن ينشأ شعر البروفينثال أي شعر "الغزل" قد كان الشعر العربي دارجا إلى درجة أن الشاعر الجوال أصبح يقدم إلى جمهوره شيئا جديدا: لننشد شعرا دينيا.
إذا كان حضور الشعر العربي يبدو بدهيا، في الجانب الآخر من البيريني، فإنه يلزم أن يكون، وبحق، في الشعر الغنائي لشبه الجزيرة الأيبيرية. إن الأثر عميق ومنتشر . سنقدم فقط مثالين. يتعلق الأول بظل طويل و ممتد لخرجة محتملة بالعربية الدارجة قام بدراستها إميليو غارثيا غومث .
قلبي بقلب،
قلبي عربي .
والأغنية ذكرها الموسيقي ساليناس ( قرن 16 ) قائلا إن لحنها ساعده في أغنية "الملك ألفونسو" ذات البنية الموشحية البدهية، كما يسجل كذلك، إ. غ . غومس، هذا الأمر:
الملك ضون ألفونسو
ملك يا سيدي
ملك الملوك
الإمبراطور.
لكن الأغنية، الخرجة، التي قد تكون من موشحة أو من زجل تظهر كذلك عند أسقف هيطا كما أشار إلى ذلك غارثيا غومث:
العربي صائح بأعلى صوته،
قلبي العربي! ، مترنما بنغمه.
وتتضح كذلك عند خيل بثنتي في " كوميديا روبينا " 1521 م، حيث تقول إحدى الشخصيات إنها تعرف الأغاني الآتية:
" يودع كريثنبا "
" كذلك امنحيني قيمة ليونيو "
" قتلتم الحب في الصغر "
" في باريس كان السيد ألضا "
" لنذهب قال عمي "
" كذلك قلبي عربي ".
مثال آخر يمكن أن يكون الأصل العربي لأهزوجة عيد الميلاد القشتالية التي تعرف ب: " المسيلمات الثلاث ":
ثلاث مسيلمات أوقعنني في الغرام
في جيان
عائشة، فاطمة، ومريم
ثلاث مسيلمات أنيقات جدا
كن ذاهبات لجمع حبات الزيتون
ووجدنها مجموعة
فاستدرنا يائسات
وحال لونهن
في جيان
عائشة، فاطمة، ومريم.
على الرغم من أن الأهزوجة تضم أكثر من مقطع ومع أنها تقبل نظما متوازنا - أي من صنف إغريقي/ برتغالي-، فإننا نبين نواتها الأصلية، التي تتوفر على بنية زجلية، كما فطن إلى ذلك رامون منييندث بيدال . لكن خوليان ربيرا، هو الآخر، اكتشف كون هذه الأهزوجة تجد أصلها، من حيث مضمونها، في أقصوصة تعزى إلى هارون الرشيد، وتوجد في العديد من كتب الآداب ك: "العقد الفريد" لابن عبد ربه وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وأعيد إنتاجها في " ألف ليلة وليلة ". في هذه الأقصوصة، نجد ثلاث فتيات يتنازعن العضو الذكري لهارون الرشيد والذي فلحت فقط واحدة منهن في الإمساك به وبقيت الأخريان يائستين مصفرتي الوجهين .
إن الأصل العربي لهذه الأهزوجة ليس كلاما مطلقا على عواهنه يجد مبرره في حضور الثلاث نساء اللائي لم يجدن شيئا، وهو موضوع (Las 3 marías evangélicas)، بكل تأكيد، بل يمكن أن يكون محاكاة إسلامية ساخرة. إن حبات الزيتون عند المسيلمات الثلاث هي في الحقيقة تلطيف للكلام كما تؤكد أهزوجة أخرى من " مجموعة أغاني القصر" والتي تتوفر على بنية زجلية هي الأخرى. في هذه الأهزوجة نجد ثلاث نساء يتنازعن بكل وضوح، نفس الشيء كما هو الأمر عند إيماء هارون الرشيد.هذه الأهزو جة قمنا بربطها بنظيرتها " المسيلمات الثلاث " في العمل الذي ذكرناه منذ قليل. وكما هو الشأن في الحالة السابقة، نستعمل هاهنا النظم غير المتوازن:
لو كان في تلك الدارة!
ربح لثلاثتهن جميعا
ثلاث شابات من تلك الدارة
كن يكشفن عن عورتهن
ولم يتبق لهن إلا شريط
وانهمكت في البحث عنه إحداهن
من أجل أن تربحن ثلاثتهن
ثلاث شابات من تلك الدارة
كن يكشفن عن عضو ذكري
ولم يبق لهن إلا قطعة ثوب واحدة
فذهبت للبحث عنها إحداهن
من أجل أن تربحن ثلاثتهن.
في ذلك العمل نفسه قمنا بتحليل آثار الموضوع في الشعر الأندلسي: إشارات إلى " عائشة، فاطمة ومريم عند ابن قزمان وابن الجياب". لنا اليقين أنه كان يوجد زجل عربي منحدر من الأهزوجة القشتالية. وليس هذا، هو الحالة الوحيدة فقط، بل وحتى في" مجموعة أغاني القصر " كالأهزوجة التي يذكر سانتشيث روميرالو والتي هي من جديد زجل وفيه ذكر لأسماء عربية:
من كان يجب أن يأخذك!
ليتني!
أي فاطمة!
فاطمة الأكثر أناقة
يجب أن آخذك من إشبيلية،
وأتخذك خليلة
ليتني!
أي فاطمة!
تقديم و ترجمة: ذ. لحسن الكيري