قضايا وآراء
الأثر الأدبي الأندلسي: الترجمات
لقد تكلمنا حول كيف أن العرب ترجموا إلى لغتهم مجموعة من الحكايات الهندية والفارسية ذات المغزى الأخلاقي، سواء في شكل مجاميع كاملة أو متفرقة أو في علاقة بالأمثال والحكم الخ، لما لهذه الحكايات من فائدة تربوية وأخلاقية.
إن نفس هذه الفائدة كانت هي الحافز على ترجمتها من العربية إلى اللاتينية أو إلى اللغة القشتالية (الإسبانية) في شبه الجزيرة الأيبيرية انطلاقا من القرن 12 م .لقد كان الرائد والمرتداليهودي بيدرو ألفونسو " R. M. Sefardi"المعمد سنة 1106 م"والمتبنى من طرف ألفونسو المقاتل El batallador هو أول منكتب باللاتينية مجموعته الحكائية الأخلاقية الموسومة بعنوان :" سلوك الكاهن" .حيث استعمل فيها " كليلة ودمنة"، "السندبار " والأعمال المتعلقة بمبحث الأمثال لمبشر بن فاتك، وحنين بن إسحاق. كان لهذا العمل تأثير عميق، لأنه كان يقدم أمثلة للاتباع في كتب المواعظ الخ.
على إثر هذه الترجمة المهمة ستتوالى ترجمات أخرى للمترجمين الألفونسيين، يعني الذين لهم علاقة بالنشاط المرعي من طرف ألفونسو العاشر " الحكيم " El sabio، وأقربائه وخلفائه.وهكذا ستترجم "كليلة ودمنة "، المجموعة الحكائية الحكمية التي تبتدئ بحكاية الذئبين المسميين بكليلة وبدمنة.إنها قصة مأخوذة من البانشانتنترا ومترجمة إلى الفهلوية في القرن السادس وإلى العربية في القرن الثامن الميلادي من طرف ابن المقفع.إن تعقد الحكايات والترجمات التي همت هذه المجموعة تم تلخيصها بصورة جيدة من طرف خوان برنيت[1].
عمل آخر هندو- فارسي هو " السندبار" أو قصة " الوزراء السبعة " التي تحكي حكايات ذات مغزى أخلاقي بحيث يتم انتظار تأثير النجوم كي تغير وتنقذ حياة أمير متهم باغتصاب زوجة أبيه . الترجمة القشتالية (الإسبانية) لهذا العمل تم إنجازها تحت عنوان:Libro delos engannos y los asavamientos de las mujeres ، و كان قد رعاها الأمير ضون فاضريكي، أخو ألفونسو العاشر (الحكيم).لما كانت كل هذه الحكايات ذات الأصل الهندي تشتمل على تصميم يسمح بإدماج حكايات أخرى - في هذه الحالة الزيادة في عدد الوزراء - فإنه وجدت روايات أخرى أكثر اتساعا من الرواية التي تمت ترجمتها من العربية إلى القشتالية وترحمات أخرى وصلت بطرق مختلفة إلى الأدب الإسباني[2].
كذلك تمت ترجمة أسطورة " بودا " من العربية والتي كانت معروفة بالاسمين العرب- فارسيين " برلام وحصافة "، هذه الأسطورة وظفها ضون خوان مانويل في كتابيه ." الدول " و " الكونت لوكانور".
لقد أشرنا سابقا، بخصوص مبحث الأمثال، إلى أنه كذلك تمت ترجمة الحكم التي تعزى إلى الفلاسفة الإغريق والرومان والتي تم جمعها بواسطة إسحاق بن حنين تحت عنوان : "أدب الفلاسفة " والذي حمل في القشتالية عنوان " كتاب صفوة الأمثال"؛ ثم مجموعة أخرى من نفس النوع لمبشر بن فاتك المتوفى سنة 1053م والتي تحمل العنوان التالي : " لقمات من ذهب " أو "البونيوم" والتي إليها يجب إضافة عمل آخر من نفس النوع كذلك وهو : " سر الأسرار " الذي تمت ترجمته تحت عنوان : " Poridat de Poridates ".
إن الترجمات المباشرة أو غير المباشرة لهذه النصوص العربية قد تركت أثرا عميقا في الآداب الإسبانية. انطلاقا من الأعمال الأخيرة التي ذكرناها، فيما يتعلق بالحكم أو أقوال الحكماء القدامى، التي تم استعمالها، كما رأينا، من طرف بيدرو ألفونسو في " سلوك الكاهن " ومن هناك أو عن طريق الروايات في كثير من الأعمال في الآداب الإسبانية كالرواية الفروسية " الفارس ثيفار " أي (El caballero Cífar)، حيث تنحدر العقوبات والتوصيات التي يمليها الملك " منطون" على أولاده من مجموعة حكمية تسمى:" أيكة الفلاسفة " والتي حتى وإن كانت لم تثبت بعد فإن النص عربي. بالطريقة نفسها، تظهر في" الفارس ثيفار " الحكاية الأخلاقية " الصياد والعلعلة " التي توجد عند ابن عبد ربه[3] .
لكن، و بكل تأكيد، تبقى المجموعة الحكمية الأكثر استعمالا هي مجموعة حنين بن إسحاق والتي وفق ما درس " وولتش "[4]، تم توظيفها في " التاريخ العام "، "La general Estoria" التي تعزى لألفونسو العاشر، وفي " كتاب الحكمة " لخايمي الأول الأراغوني، وأخيرا في " شبيه سينيكا " أو"Pseudo Séneca" و " أيكة الفلاسفة ".
إن " التوسطادو " هو الآخر، رغم نهضويته، يستعمل ترجمة حنين القشتالية من أجل وصف مرض الحب وهو خصيصة متميزة جدا في الأدب العربي:
" سوف لن يكون مضرا أن تترك الشك جانبا، لأن هذا يحدث بالطبيعة. وهكذا يعرفه الفيلسوف والطبيب اليوناني أبيقور عندما يقول : عندما يكون الحب قويا يكثر الانتباه ويطول السهر. وعندئذ يحترق الدم ويتحول إلى كآبة تضر بالفكر ويقبل التثاقل ويشوش الذهن فيشك المرء في المستحيل ويشتهي ما لا يمكن اشتهاؤه إلى أن يأخذه الضر".
ربما كان من الممكن أن نتساءل، هل بعض مظاهر الإنسية المبكرة للآداب الإسبانية ليست مدينة للأدب الحكمي العربي الذي يستحضر المؤلفين الكلاسيكيين؟ ذلكم أن " التوستادو " هو الآخر يستعمل " لقمات الذهب "، باستشهاد يعزى إلى " هرميس ". هذا العمل الأخير تم توظيفه أيضا في أعمال إسبانية وسطوية كما هو الشأن في " كتاب الحكماء الإثني عشر" الذي درسه كذلك وولتش[5].
يبدو أن ضون خوان مانويل هو المثال الأكثر وضوحا فيما يتعلق باستعمال الأدب العربي ذي الطابع التعليمي الأخلاقي، وخاصة الحكايات الوعظية : إن " الكونت لوكانور " يأخذ الكثير من تلك الأقاصيص الموجودة في " كليلة ودمنة " و " سندبار ".فإلى النموذج الأول تعود، مثلا، حكاية " السيد المحتال " وسيط الراهب البوذي في الحكاية الهندية، ثم "حكاية اللبانة ".في حين تعود إلى النموذج الثاني حكاية " أثر الأسد " والتي تأتينا من زمن بعيد بحيث توجد مروية في "رقصة " أرجنتينية موثقة في القرن 19 م[6].
من الممكن أن تكون، بعض الحكايات الأخرى، قد انتقلت عن طريق المشافهة، إّذ إن الكاتب الأمير وسيد المدجنين ترك البلاط لفترة ومكث بغرناطة. هناك استطاع، مثلا، أن يستمع إلى طريفتين كان وراءهما الروميكية والمعتمد والتي تظهر فيهما جملة بالعربية الأندلسية الدارجة:
"كان المعتمد ملك إشبيلية متزوجا بالروميكية ، وكان يحبها كثيرا أكثر من أي شيء دنيوي آخر، وكانت هي سيدة طيبة، والمسلمون كان عندهم من مثيلاتها عدد مهم، لكن عادة واحدة كانت غير مستحسنة فيها، ذلك أنها في الأماكن الرطبة تطلق العنان لرغباتها وأهوائها. وحدث ذات يوم في قرطبة أن سقط الثلج في شهر فبراير، عندما رأت الروميكية ذلك بدأت تبكي فسألها الملك عن سبب بكائها فأجابته قائلة إنه لا يتركها أبدا في أرض يوجد بها الثلج. ولكي يدخل الملك السرور إلى نفسها أمر بزرع حقول الرمان في كل أراضي قرطبة لأن قرطبة أرض جافة ولا يسقط فيها الثلج ، وفي فبراير من كل سنة كانت تبدو حقول الرمان هذه مزهرة وتشبه الثلج، لكي يجعلها تفقد تلك الرغبة في الثلج.
ومرة أخرى كانت الروميكية في إحدى الغرف المشرفة على النهر فشاهدت امرأة حافية القدمين تحرك الطين لصناعة الطوب، وعندما رأتها بدأت تبكي فسألها الملك عن سبب بكائها هذا فأجابته بأنها لا تستطيع أن تكون مثلها أي أن تتابع ما كانت تفعله تلك المرأة. عندئذ، ولكي يسعدها أمر بملء تلك البحيرة في قرطبة بماء الزهر عوضا عن الماء،وجعلها تمتلئ بالسكروالقرفة والزنجبار والسنابل والطحلب والعنبر وحب المسك وكل العطور الطيبة والروائح الجميلة التي وسعها ذلك. وعوض التبن وضع لها قصب السكر.وبمجرد ما امتلأت البحيرة بهاته الأشياء قال الملك للروميكية أن تنزع نعلها وتعجن ذلك الطين وتصنع ما شاءت من الطوب.وفي يوم آخر، خطر ببالها شيء فأجهشت بالبكاء.فسألها الملك عن سبب ذلك، فأجابته كيف لا تبكي وأن الملك لم يفعل أبدا شيئا يدخل السرور إلى قلبها، وعندما رأى الملك أنه قد فعل أشياء كثيرة لكي تسر هي وليصفي مزاجها ولكي تعلم أنها لا تعرف ماذا تطلب قال لها كلمة تقال في العربية بهذه الصورة: إيهوا ليوم الطين والتي تعني " ولا يوم الطين" كما لو أنه أراد القول إنها قد نسيت تلك الأشياء الأخرى وما كان يجب أن تنسى ذلك الطين الذي صنعه لكي يبهجها (الكونت لوكانور .المثل 222).
هاتان الطريقتان توجدان معا في مصادر عربية وتعزيان إلى المعتمد كما أشرنا إلى ذلك.
قصة أخرى من هذا النوع يمكن أن تكون قصة الرجل الذي لم يجد ما يسد به الرمق سوى الترمس الذي كان غير راض عنه إلى أن علم أن رجلا آخر أكثر بؤسا منه كان يأكل قشور الحبوب التي كان يرميها هو. وقد اكتشف فرناندو دي لاغرانخا الحكاية العربية الأصلية وهي عبارة عن طريفة تعزى إلى أندلسي من القرن التاسع أثناء إقامته بمصر[7] .هاته الحكاية تم نظمها في مقطع شعري عشري "Décima" مشهور من طرف كالديرون دي لا باركا:
يحكون عن حكيم أنه في يوم ،
كان فقيرا وبئيسا ،
كان يتغذى فقط ،
بالأعشاب التي تعود أكلها.
{….}
وهناك كتاب إسبانيون آخرون، من العصر الوسيط، قد استعملوا النصوص الهندو- فارسية: هكذا اعتبرت " كليلة ودمنة " مصدرا بالنسبة لرامون لول في " كتاب العجائب "، وبشكل غير مباشر، من خلال " سلوك الكاهن " و " كتاب القطط " و" كتاب الأمثال ". وقد استعملوا الحكايات الأخلاقية الموجودة في نفس العمل، من " السند بار "، ومن الممكن، من بعض المصادر الأخرى ذات الطابع نفسه والتي لا نعرفها حتى يومنا هذا، ولكن كانت توجد في الأدب العربي لأنها فيما بعد ستجمع في "ألف ليلة وليلة "، تلكم المجموعة القصصية التي تشتمل كذلك على بنية من صنف هندو - فارسي، والتي تمكن أن تدرج فيها كمية من الحكايات ذات مصادر مختلفة، بعضها كان معروفا في العصر الإسباني الوسيط قبل أن تحرر هذه المجموعة تحريرا نهائيا .
ويمكن أن نعطي مثالا بقصة " فيلسوف كاليبيريا" التي سيعيدها خوان مارطوريل في "tirant lo blanc" والتي توجد في " كتاب الأمثال " لكلمينتي سانتشيث دي برثيال وفي " ألف ليلة وليلة ".هذا الأمر يفترض، في رأينا، حكاية عربية سابقة. بالقدر ذاته، يمكن أن تكون حكاية " الحصان الخشبي " الموجودة في " ألف ليلة وليلة " (357 – 371 ) قد عرفت في أوروبا الوسطوية بحيث تم استعمالها من طرف أدونيت لي رواس في كتابه "Cleomades" والذي كان، هوالآخر، مصدرا بالنسبة لثربانتس في كتابه “Clavileño”[8].
قصة أخرى يظهر أنها وصلت عن طريق الترجمة هي قصة العذراء " تودد " وهو موجز آداب تستظهره أمة ( جارية) مسلمة واسعة المعرفة لكي تضمن أن يشتريها ملك فتنقذ بهذا سيدها من الإفلاس.النص القشتالي الوسطوي الذي يوجد في نفس المخطوط مثل " البونيوم " يسمى الأمة ب " Teodor". لقد كانت روايات وسطوية أخرى مارست الرقابة على الإشارات الإسلامية في النص العربي وأضافت عناصر مسيحية، بعد ذلك ستعرف طريقها إلى أدب العصر بحيث تم استعمال مضمونها من طرف لوبي دي بيغا لإنتاج كوميديا يمكن أن ننعتها بالمنتصرة للنساء. وتوجد في العربية رواية متأخرة ضمن مجموعة " ألف ليلة وليلة ".
هناك فصل آخر ضمن تاريخ الترجمات الألفونسية وتأثيرها في الآداب الأوربية. إن الأمر يتعلق بالترجمة التي أنجزت في المحيط الألفونسي حول حكاية الإسراء والمعراج، وهي حديث يشرح آية قرآنية غامضة. لقد تمت ترجمة هذه الحكاية من طرف الفقيه إبراهيم سنة 1277 م إلى القشتالية، وبعد ذلك إلى اللاتينية وإلى الفرنسية عن طريق بونابنتورا دي سيينا وهو كاتب عدل عند ألفونسو العاشر[9]. إن وجود هذه الترجمة يؤكد فرضية ميغيل أسين بلاثيوس في خطاب ولوجه إلى الأكاديمية الإسبانية سنة 1919م حول الأصل الإسلامي للنظرة الأخروية عند دانتي في " الكوميديا الإلهية ".وقد نوقشت هذه النظرية كثيرا، ولكنه اليوم، وبفضل الاكتشافات التي بينت وجود هذه التقاليد، أمكن التفكير في أن دانتي كان يعرف قصة إسراء ومعراج النبي محمد كما هو الشأن بالنسبة لباقي الكتاب الوسطويين.
ترجمة: ذ. لحسن الكيري
باحث في الترجمة و التواصل – الدار البيضاء – المغرب.
........................
[1]J. Vernet, La cultura hispano -árabe, op, cit. supr. p. 311.
[2] A. González Palencia, Versiones castellanas del Sendebar, Madrid, 1946.
[3] E. García Gómez,(Versión del libro de refranes de Ibn Abd Rabbih),op, cit, supr, cap, VIII, nota, 11.
[4]J.k. walsh, (versiones Peninsulares), op, cit, supr, cap.VIII, nota.4.
[5]J.k walsh,Ibidem,p.379.
[6]Edición del Libro de los doce sabios, Madrid, 1975.
[7]A. González Palencia, (La huella del león), revista de filología española, 3;(1976).
[8]Vernet, La cultura, op, cit, supr, p.316.
[9]E. Cerulli,IL libro della scala e la questione delle fonti arabospagonle della Divina Comedia, El Vaticano,1949.Y Nuove rucrebe sul libro della Scala e la conoscenza dell Islam in occidente, El Vaticano, 1972.