قضايا وآراء
محمد مهدي الجواهري يخفض جناح الذل
أنا غرسُكُمْ أعْلى أبُوكَ محلَّـتي
نُبْلاً وشرَّفَ فضلُ جدِّك مَقْعدي
ظل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري ذو الأصول التقليدية الدينية متنقلا بين مدح ومدح. فمن خدمة البلاط ومدح أمرائه من الجد حتى حفيده إلى مدح العسكر بعد الانقلاب (بكر صدقي) طيلة شهر عسل كان بعده الفراق النهائي نظرا للهوة السحيقة بين الممدوح والمادح. ثم مدح عسكر عبد الكريم قاسم وتوج فورا رئيسا لاتحاد الأدباء العراقيين لكن سوء طالعه خرج له في أمد قصير بحزب البعث الذي أطاح بحكومة العسكر (الضباط الوطنيين) التي نكثت عهدها مع الحزب الشيوعي. وإذا كان عبد الكريم قاسم قد سلك سياسية “عفا الله عما سلف”، فإن البعثيين كانوا قساة مع مناوئيهم مما اضطر الجواهري إلى العيش بعيدا عن دجلة.
ولم يكتف الجواهري بمدح الأشخاص بل بالغ في الشوفينية من تمجيد قَـبَلي (وطني) كلاسيكي ممل للعراق بفراتها ودجلتها ونخيلها وجبالها وتاريخها كأنها مركز الكون ولم تكن سوى دولة مثل غيرها بل أقل من دول أخرى كانت ذات مكانة عالية ذاك الإبان. ولو سمع السامع للجواهري يتحدث عن العراق لظن أنه أمام ملحمة خيالية من كتابة شاعر يوناني.
لم يكتف بمدح التراب والماء والبلاط بالعراق، بل ذهب بعيدا إلى مديح ” دمشق” في قصيدة طويلة (دمشق جبهة المجد) كي يحظى برعاية حافظ الأسد ويستقر بسوريا فقال فيها ما لا تستحقه غير مؤمن بما يقول تقربا وزلفى لأسدها الذي منحه أعلى وسام. ولحسن طالعه هذه المرة استقر ممدوحه من آل الأسد في الحكم مورثا ابنه تماما كأنها ملكية مما يعشق الجواهري فاستقر بسوريا حتى وفاته.
أما الأردن فقد جعل من هاشمييها أنبياء على الأرض وسكب عليهم من عذب شعره ما لا تجود به حتى قريحة الشياطين (رابط القصيدة على اليوتيوب أسفل هذا المقال). زار المغرب ونال من الكرم الوفير والعطاء بدون حساب من الملك الحسن الثاني. كيف لا وهو البارع في المدح واستهواء الحكام وإرضاء ساديتهم وغرورهم والحسن الثاني هو الذي ما بخل قط على الفنانين والشعراء من أموال الشعب بلغ به الحد حتى إهداء عمارة بأكلملها في أجمل شارع بلبنان (للمغني محمد عبد الوهاب).
ولم ينس الجواهري أن ينوح بقبر الحسين باكيا متوسلا ليس للحسين وإنما لإيران في الواقع كي تستقبله كمغضوب عليه بعد الثورة. إنه شيعي عندما يقتضي الحال وغير ذلك حين لا يقتضيه.
نكتفي بهذا القدر من التشهير بتسول الجواهري لأنه كاف وشاف وواف كي نمر إلى العبرة والغاية من هذا المقال.
إن الدرس المفيد من قراءة الجواهري هو تصحيح مسار الشعب العراقي المبالغ في الشوفينية والقطرية الضيقة بل والبغدادية المنحازة إلى المدينية المتعصبة وليس حتى الوطن (الحظيرة المسيجة بجمارك) أو الدين (السجن التطوعي) أو العرق (وهم رابطة الدم( .
ما من عراقي إلا ويقطنه “جواهريٌّ” بفكر متخلف غير منفتح على العالم يبجل العرق والقبيلة ولا يخجل من مدح الحاكم إلا إذا كان هذا الحاكم جثة هامدة بعد شنقه. ممارسات أقل ما يقال عنها أنها مخجلة جدا.
إذا استثنينا بعض العراقيين الذين اختاروا درب الشهامة وعزة النفس وحب الإنسان مهما كانت جنسيته ولونه وعرقه ، عراقيون صادقوا الناس بما عاهدوا به منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، فإن الذين يقطنهم “جواهريٌّ” وتؤلبهم الجماعات الدينية الإسلامية ضد الإنسان غير المسلم ولا يَـستَحون من التسول بأعتاب البلاطات والثكنات العسكرية عربية كانت أم أمريكية ليسوا ندرة خاصة بعد سقوط النظام السابق واستباحة شرفهم من طرف الغزاة الأمريكيين الذين نصبوا للجواهري أكبر تمثال بعد أن أسقطوا تمثال صدام. إنها عملية وإن كانت رمزية فإنها تعني من ضمن ما تعنيه التشجيع على عبادة النُّصُب والمطالبة من العراقيين ” خفض جناح الذل” أسوة بالجواهري كبير مداحي الحكام والجيش والوطن ( الحظيرة) والأنهار والوديان والجبال.
إذا جاز لنا أن نصف الجواهري بلقب ما، فلنقل إنه مادح الأشخاص والجماد. وإذا أردنا أن نقدم للشعب العراقي نصيحة فلنقل له : ” اقتلوا الجواهري فيكم”.
1 قصيدة للجواهري مخجلة جدا يمدح فيها الملك حسين بمناسبة عيد ميلاده:
http://www.youtube.com/watch?v=YbXPVAOYdRk
2 - قصيدة في مديح الماء العراقي : دجلة الخير
http://www.youtube.com/watch?v=5NdMhn6VPxE&feature=related
3 - قصيدة ” آمنت بالحسين” في مديح القبور، الجواهري يبكي ضريح الحسين:
http://www.youtube.com/watch?v=p_MV0CDb4O8&feature=related
4 - قصيدة التتويج” في مدح الملك فيصل الثاني بمناسبة تتويجه ملكا على العراق:
تِهْ يا ربيعُ بزهرِك العطرِ النّدي
وبضوئك الزاهي ربيع المولدِ
باهِ السما ونجومَها بمشعشع
عريانَ من نجم الرّبى المتوقَّدِ
وإذا رمتك بفرقد فتحدّها
من طلعة الملك الأغرّ بفرقدِ
يا نبتةَ الوادي ونغمةَ عطره
يا نبعه الثجّاج في اليوم الصدي
يا خطوةَ الأمس المعاود طيفه
يا صفوة الأملِ المرجّى في غدِ
أشرقْ على الجيل الجديد وجدّد
وتوّل عرشَ الرافدين وأصعدِ
وقُدِ الجموعَ إلى الخلاص تفز به
وبهم وخلّدْ أمةَ وتخلَّدِ
يا أيها الملك الأغرُّ تحيةَ
من شاعر باللطف منك مُؤَيّدِ
أنا غرسُكُم أعلى أبوك محلّتي
نبلاً وشرَّفَ فضلُ جدِّك مقعدي
.
5 - مطلع قصيدة دمشق يا جبهة المجد
شممتُ تربَكِ لا زُلفى ولا مَلقا
وسِرتُ قصدَكِ لا خِبّاً ولا مَذِقا
وما وجدتُ إلى لقياكِ منعطَفاً
إلا إليكِ وما ألفيـتُ مُفْتَرَقا
كنتِ الطريقَ إلى هاوٍ تـنازعهُ
نفسٌ تسدُ عليه دونَها الطُّرقا
وكان قلبي إلى رؤياكِ باصِرَتي
حتى اتَّهمتُ عليكِ العينَ والحَدَقا
شعرالجواهري:
:http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=lsq&shid=327&start=0
عبد الغني بنكروم – كندا
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1242 الاثنين 30/11/2009)