قضايا وآراء
من جمالية "الألم والموت" إلى جمالية "ثورة البنفسج" في ديوان "وجوديات"
ولا عناية سوى عناية "الألم والموت" تصحبنا وتسحبنا منا إليه لنشرف على وادي العدم حيث تطل علينا شاعرية المجازفة في تجربة شعرية فريدة من نوعها أصيلة بفرادة تاج كيانها توليدا شعريا قلقا و سؤالا وجوديا محرجا "من تعب من من هل الله تعب من قسوة الإنسان أم الإنسان تعب من قسوة الله؟ هنا سنتذوق "أمبروسيا شعر الشاعر فانتبه أيها العالم إلى نفير"وجوديات" القادم من أولمب الشرق ومن "مذبحه الأبيض" زفير حمم الهشيم . إنها خطر على اطمئنانك أيها القارئ ذي الوعي السعيد والعقل السديد لأنها تهديد لسلمك النفسي وتقويض لرتابة حياتك البديهية وإذا كنت تروم حياة لا متوقعة فعليك.
بكأس من "خمرة الشعر المعتق من ديوان "وجوديات" "الحزن والألم " وحينها ستسكر حتى الثمالة بسماع مالا يخطر على قلب بشر ولا سمعته أذن ولا رآه بصر هنا ستسمع قرقعة سيوف المنايا وصهيل خيول الفناء وصولات العدم.
وفي هذا الركن القصي من الديوان انتبذ الشاعر خلوة الكلمة يناجيها ليناجي بها الله في دهماء الليل آناء مفاجأته المروعة. من خلوة المناجاة سنسترق السمع إلى عباراته وعبراته سنرشف من معين لا ينضب جدول خياله التصويري و سحر لغته الشعرية التي أتقنت خلق صورها وتفننت في تسمية أشيائها وقول أحاسيسها، "هيروين الألم والموت الرحيم" سنتذوق معا معه معنى جمالية "الألم والموت" هنا سنقيم معه في منزل لغته نتقاسم بعضا من آلامه ونشرب معه نخب الموت ولو على سبيل المجاز والرمز -/ "ها أنا ذا أتجرع نخب الموت"/ -.حيث يغدو الألم موسيقى صحائف الديوان وسيمفونيته، إنه عنوانه الرئيس وعزفه المنفرد على قيثارة لغة أحبت الشاعر فأغدقت عليه من حنان صورها الشعرية رطب كلم يتساقط في فم متذوق الشعر شهيا وإن كان قد ينتهي بنا كما انتهى الأمر بالشاعر على حد قوله أن "تنبت غابة شوك في فمنا" فذلك لأن قدر اللذة يتبعها ألم وأذى. وقد يفزعكم انتصاب الموت أمامكم كجذع نخل خاوية و"إني أرى ارتعاشكم" من صليل حشرجة الموت التي يغدقها بسخاء الحقل الدلالي والمعجمي للديوان فيتكاثف معجم يحفل لغة جنائزية من قبل : الموت –العدم –الأفول –الغروب-النهاية –كأس الفجيعة –يشنق الشموع –الوداع –انتحر –التهالك –الإنتهاء- لكن مهلا لما كل هذا الرعب من الموت والأصل في الدوام طرفة عين؟ أليس الموت هنا كأنه فستان عروس أبيض جميل يحمل لها الخلاص من الوحدة والعزلة ويدخلها في عوالم حلم جديد؟ وما أدراكم أن الموت هنا هو ليس إلا حفلة زفاف تنتهي بمغادرة عالم الكون والفساد لتلحق الذات بعالم الرؤية الصادقة والفردوس المنتظر والجنة الموعودة. حيث الالتقاء بالبدء واللانهاية وحيث "يتأهب الشعر للانطلاق" إلى النهاية فنلمس انصهار روح الشاعر في الشعر بحيث يصبح "الشاعر والشعر" ,"منير والقصيدة" شيء واحد "الشعر هو" و"هو الشعر" توأمان لا ينفصلان أو وجه وقفى وما إعلانه عن سفر الشعر إلى اللانهاية إلا بيان عن قرار سفر الشاعر مادام هما واحد فالشاعر سئم البقاء بأرض تلونت بلون الدم والفساد والجوع والفقر بعد أن صار "الخبز كافيار الفقراء" و بعد أن غمر طوفان "الحزن الأسود" كل من سولت له نفسه عبور طريق السماء والأنبياء "ما من أحد يسلك طريق السماء /إلا وكان الحزن رفيقه" فطريق النبوءة مكلل بالأشواك و"الحلم في قوارب الموت " ولم يعد في الأرض من متسع سوى "للتعصب و"حقن الحب بأفيون الحقد" وتحريض الزنابق على الانتحار" بهذا المعنى يأتي قرار الرحيل و يغدو الموت أجمل من الحياة التي أجتاحها العراء ولبست لجام الصمت و امتنعت عن كل احتجاج على وضع لا يصير فيه الإنسان إنسانا حسب معتقدات البشر إلا بقدر تخليهم عن حريتهم وبقدر عبادتهم وتمجيدهم للأصنام يخلقون آلهة بائدة يتوسلون إليها أن يكونوا عبيدها وأن تنقذهم من عذاب حريتهم وتحقق خلاصهم في عبوديتهم .ويظهر حنين الإنسان إلى ماضي عبوديته في قصيدة "الشعر والأوثان الترابية المتهالكة" "يهللون لأوثان ترابية متهالكة /تبيض بيض العدم المشوه /تشنق نوارس الشعر /بتهمة الكفر /توقف الزمن عائدا إلى الوراء /ألف قرن .
أليس في هذا الوضع تشخيص مباشر وصريح لأزمة الثقافة العربية ذاتها وإنحباسها عن الإبداع وتراجعها القهقرى ورضوخها لأصنام وأوثان يصنعها الإنسان ويستميت حبا جما في عبادتها ومن هنا تأخذنا قصائد "وجوديات" في رحلة متعددة الاتجاهات تكاشف الذات ذاتها عن أزمتها ثم تتخارج الذات الفردية من فرديتها متجهة نحو ذات الجماعة الثقافية ليشمل الذات الإنسانية بصفة عامة هذا التدرج من الخاص إلى العام ومن الخصوصي إلى الكوني ومن الجزئي إلى الكلي في متابعة أزمة الإنسان الوجودية في العالم وانحسار ضميره الأخلاقي تجعل من القصيدة المزيدية قصيدة منفتحة على التجربة الإنسانية وتلامس أبعاد التجربة الكونية هذا التردد بين الخصوصية والكونية يظهر خاصة في القصيدة التالية حيث يقدم منير مزيد بطاقة هويته كما يلي "أنا منير مزيد /ولدت في أحراش اللوز والزيتون /في أرض أنجبت كل الأنبياء /فهذا نوع من التشبث والفخر بالانتماء إلى الوطن الأم فلسطين إنه تنبيه عالمي بحقه التاريخي فيها وفي العودة إلى جذوره وفي نفس سياق تثبيت هويته الشخصية والتاريخية يثبت انتماءه للإنسان الكوني في بعده العالمي يقول "أنا لست ابن أحد منكم / أنا ابن الأرض والسماء /الحب ديني /والشعر لغتي /وما بيني وبين الله يخصني /فإلهي يفهم عذاباتي/ يحاول الشاعر هنا إثبات انتمائه للإنسانية جمعاء ويحاول أن يخلص الدين من أسر الوثنية والتحريف بعد أن وقع اختطاف المقدس والاستحواذ عليه من قبل فئة متعصبة ضالة تخضع تأويله لأهواء مصالحها وحسابتها المصلحية الضيقة فتكفر به من تشاء وتمنح به صكوك الغفران لمن تشاء. فهل ما زالت الحياة حياة بعد كل هذا التحريف والتخريف الذي أصاب الإنسانية؟
وأي حياة تلك عندما يتحول الأحياء إلى وضع يحسدون فيه الأموات على موتهم ولما لا نحسدهم على موتهم مادام الموت قادم لا ريب فيه ومادام انتظار الموت أشد عذابا من الموت ذاته؟ أليس عندما نكون لا يكون الموت وعندما يكون الموت لا نكون نحن .فلما كل هذا الخوف إذن؟ فموتوا عيشكم أيها الأحياء وعيشوا موتكم أيها الأموات "أراني أحفر في الصمت صمتا آخر لأواري صمت حزني " لكن ما من أحد يسمع نداء الشاعر فمادام الأحياء أموات .ويتجلى موت الأحياء في قصيدة "فقراء وشتاء "/تآمر الفقر والشتاء / في المدن المترفة الغارقة /في الصخب والضجيج /منازل منسية /عارية /تئن /تتألم بل "الموت في الماء" لينقلب الماء من رمزية الحياة والطهر والإخصاب ليحمل رمزية جديدة لم نتعودها في نصوصنا الأدبية وهي رمزية الموت فأي انقلاب هائل في معايير الموت والحياة هل نحن بصدد ثورة كوبرنيكية شعرية تتبدل فيها معاني الرموز وتتغير معالم التراجيديا من تراجيديا محورها بطل فردي وقصة أحداثها أسطورية إلى تراجيديا بطلها شعب كامل وقصة مأساتها ليست وهما أسطوريا بل واقعا ومأساته الواقعية أكثر أسطورية وإعجازا من الأساطير ذاتها بها تفوقت على كل تراجيديات سوفوكل وأوديب وأنطيقونا إنها تراجيديا فلسطينية قادمة من عمق التاريخ وعمق الواقع. لأنها مسألة حياة أو موت أو بلغة شكسبير "نكون أو لا نكون" .
و كل ما شربت من بحر قصائد الديوان كلما أحسست بالعطش أكثر لجمالية الحزن التي تتمدد كمساحات ظل الرعب المتأتية من زمن الموت " الموت ... الموت/ الموت آت .../إما أن أنتظره / أو أسير إليه / إنها فلسفة وجودية بأكملها ولعل لهذا الأمر وقع الشاعر ديوانه تحت مسمى "وجوديات" فنحن أمام تجربة ديوان شعرية فلسفية و أمام شاعر فيلسوف "يجيئه العالم على حين غفلة أو كما يقول هو في قصيدته "ما يرضي خرافة هذياني " "على حين غفلة /جاءني الليل منتشيا .../وإذا بربة الشعر تتعرى أمامي " كل شيء يحدث في سرعة البرق "الليل" و"النشوة" و"التعري" و"الشعر" ويحدث في فجائية "الغفلة" والمداهمة الشعرية بحيث نتوه في أتون وجودية لذة تتبعها ألم وألم يتبعه لذة فالشعر متنفس الشاعر الوحيد ولذته الأبدية وهذه اللذة الأبدية التي يتشكل منها النص الشعري تقول الألم وتترع من كؤوسه لحد يذوب الألم في اللذة واللذة في الألم وتعجز الروح أن تجد مستقر لها بأرض الحلم والواقع فذات الشاعر هنا ذات مترحلة باستمرار إنجيلها الألم وتراتيل أشجانها قرآن وصلاتها استحضار لروح الحب الضائع وأرض فلسطين الضائعة "كنا نحلم بالنهر والبحر / ورضينا بجناح دجاجة /لم يبق إلا صورة وطن /على شكل كرسي /" فليس أكثر ألما للشاعر أن يكتب مرثية لفلسطين عوض أن يكتب لها قصيدة فرح .إنه رثائية الوطن المفقود والجنة الضائعة وما يثخن ألم وعذاب روح الشاعر أن لا أحد يتذكر معاناة وطنه وأهله إذ يقول في المقطع التالي "ترقد في أعماق النسيان ممدة تحت إبط الليل .../لا أحد منا بات يذكرها " وفي قصيدة غزة تحترق " نموت جوعا / في غزة /أزقة يلفها الملح والدم /إن هذا السرد الحكائي لهوية لطخها الألم يقابلها تشخيص آخر وسرد حكائي آخر يتعلق بشخوص أسقطت من ذاكرتها وجع الوطن واستبدلته بوجع المصالح الضيقة والصراع على الوهم والسراب "نتصارع كالمجانين /على مطر سحابة / لم تمطر بعد / وهنا نلاحظ التحام ذات الشاعر مع الذات الجماعية بحيث ينزع عنها كل تعالي ويخرج من وضعية الشاعر المتأمل في برجه العاجي إلى مستوى ممارسة مهاهمه في النقد الموضوعي للخراب الذي لف العالم والمساهمة في تشييد عالم بديل عبر معجزة الشعر " الشعر دوما /ينسج خيوط الأحلام /يعيد تشكيل الضوء والألوان /يؤاخي بين الماء والنار / كما نلمس إصرار الشاعر على تحمل العبء والمسؤولية والمساهمة في تغيير وجه القدر المأساوي قائلا في قصيدة "حب إلى فلسطين" سأذبح هذا الموت / سأآخذك من جزيرة الجحيم / حبيبتي أنت ألمي وبهجتي / وهو لا يهرب من حريته كما يفعل البعض ولا يبرئ نفسه حتى إن لم يكن مساهما في وضع القتامة وتلوين وجه العالم بمساحيق الخبث والنفاق والفساد وتلك قمة الوعي المأساوي وقمة الحرية هي تجربة ذات معايير مختلفة عن تجربة ديوان "ألواح كنعانية" وديوان "حبيبتي والحلم" ذلك أن مقتضيات الدخول "لديوان وجوديات " تختلف تأشيرته وجواز عبوره عن تجربة الديوانيين السابقين حيث كمية الحلم والأمل تبدو أكثر أتساعا والأمل أكثر فسحة هناك أما هنا حيث عالم "وجوديات" فتضيق فسحة الأمل ويتراجع إنه ينسحب تاركا مكانه ومقعد الأشواك لصالح الألم كما تتراجع الحياة لصالح الموت إنه ترتيلة من ترتيلات الأفول و"بكائية "من قفا نبكي " "زهرة الحب الباكية" على حد قول الشاعر "في مراث كربلائية" حافل هو النص بالفظيع والمفجع وتكرار "عبارة "آه " في العديد من المقاطع الشعرية دليل على اتساع رقعة الفجيعة وانتشارها كانتشار النار في الهشيم هذه صورة مصغرة عما يحدث داخل الديوان من صراع بين إرادة الوجود والحياة وإرادة العدم والموت. والموت هنا وشم في قاع الجسد البشري وفي عمقه في أرضه وسمائه وهو تتقاذفه لعبة "الحياة" و"الألم" و"الموت" ياله من ثالوث مقدس يعرج بنا إلى عمق المأساة الإنسانية ويجترح تجربة العذاب فيها إنها "المأساة إذن أو لنقل بلغة "فن الشعر " الأرسطي "التراجيديا" ,ومن هنا من لا يملك حسا مأساويا لا يمكنه اقتطاع تذكرة سفر في متن سحر نص تسربل بالعدم وتلحف بمعاناة الألم وأرق الشعر،شعاره "لا يدخلن علينا من لم يكن متألما ومن لم يصفعه عذاب الموت والعدم .فماذا يعني"أن تدخل عالم "تراجيديا "وجوديات " سوى الوقوف على حافة العدم والإشراف على هوة عالم سحيق دون ضفاف والانسحاق كالهباء المنثور بين دفتي أسفل السافلين وفصول جهنم. وحتى جمالية الديوان جمالية مختلفة "إنها جمالية القبح" أليس الألم والموت قبحا؟ أوليس الشعر هو من ينقل لنا في لغة فنية راقية قبح العدم ومن يجمل وجهه المتآكل وينقلنا من قبح الجمال إلى جمالية القبح؟ فلنستمع جيدا ما تقوله "وجوديات "الألم والموت" وما تقتطعه من عمق التجربة المعيشة من عذاب باتت قدرا موجعا بهول الفجائع المتتالية بلا كلل أو ملل تقبل على الموجود البشري دون استحياء ولا حتى مجرد شعور بذنب , ولنعيد الإنصات جيدا لتجربة "الألم والموت" القادم من سواقي الديوان كأنشودة كربلائية . فإذا تليت عليكم "وجوديات آياتها الشعرية " فانتبهوا لعلكم تفقهون رقصة الموت التي رقصت فوق هيروشيما ذات يوم ولا تزال ترقص فوق أميرة المدن سيندريلا يكتب منير مزيد " مأساة الآخرين ومأساته ومأساة حبيبته فلسطين "سندريلته القدس" بعد أن أضاعت حذاء شعرها البلوري وفستان حلمها البراق الذي نسجه رائحة قبل أقدام الأنبياء" للأرض التي مشوا فوق مائها وها هي الآن لبست نقاب السواد وتلحفت بثوب الحداد ومنعوها من الرقص عارية بلا أقنعة الجهل والخوف والموت ولنتأمل هذا المقطع جيدا من قصيدته "سندريللتي" "بكل جسدي أهتف / أريد الحب "فيتناهى إلى مسمعنا هذا الصراخ ونلمسه ونسمعه ونحسه من هتاف الجسد من لغته الخاصة من إيماءاته وإشاراته وحركاته وكأننا أمام مسرحة للنداء إنها سيميائية النص الشعري حين يتحول من مجرد قول كلمات إلى نص يجسدها في حركة الجسد لينقلنا من النص إلى الفعل ومن العلامة إلى الحركة ويتحول الديوان إلى ركح لتكشف لنا عن حقيقة الحياة الفظيعة "أنها حبلى بالموت" . بهذا المعنى ووسط هذا الأفق البكائي يؤسس منير مزيد تراجديتة ويسطر ملحمته الشعرية إنها ملحمة من أعمق التراجيديات الشعرية الإنسانية وأكثرها تجديدا وتأصيلا لفن التراجيديا في الشعر العربي، ملحمة فلسطينية تفوح منها رائحة بخور الجنة وروائح مآذن القدس ورنين أجراس كنائسه وقد سطت عليها غربان الموت وعصابات الموت الهلوكستي ومنصبي محارق للحم البشري المشوي بأعتى أنواع الأسلحة وأشدها فتكا ليس أقلها "الجوع" والفقر وحصار حلم العودة وإجهاضه؟ فهل توجد أو وجدت مأساة أعمق من هذه المأساة الفلسطينية .؟ لذلك أقول إننا بصدد تشكل فن جديد داخل القصيدة العربية وهو فن التراجيديا...
وأقول جديد لسببين: أولا : لأن عادة ما يرتبط مفهوم المأساة بالأدب المسرحي والأمر الثاني أنه كثيرا ما حكم على الشرقي بأنه ليس لديه وعي مأساوي إذ يقول الباحث الإنكليزي المعاصر "جورج شتينر" في كتابه "موت التراجيديا ""إن المأساة بشكلها الدرامي ,ليست مشاعا عالميا يعرف الفن الشرقي العنف والعذاب , ولكن تصوير الألم الشخصي والبطولة في ما نسميه اليوم المسرح المأساوي إنما هو من خصائص التراث الغربي .
ما ديوان "وجوديات" فإنه سيجعل من التراجيديا مشاعة في الثقافة الشرقية أيضا وهي ليست مجرد تراجيديا خيالية بل قوتها متأتية كونها مقتطعة من تاريخ حقيقي لوطن مصلوب وشعب منهوب ومهجر تآمرت عليه نوائب الزمن وتحالفت ضده كل القوى الفاعلة في الوجود: القدر والإنسان الطبيعة والتاريخ الأخ والعدو الأرض والسماء ونفاق العالم وعدالته المقبولة أما المفهوم الجديد للمأساة فينبع من فعل كتابة المأساة وتدوينها لأنها ليست مجرد مأساة أسطورية بل بصدد تشكيل مأساة شعب حقيقي ولكن ارتقت مأساته لتتأسطر وتصبح "أسطورة مأساة بسبب حجم المعاناة اللامعقولة والمستمرة وتواصلها إلى هذه اللحظة وما نجده من وعي مأساوي لدى الشاعر حين أضحى "يبصر أكثر مما ينبغي وطغى الإبصار على الرؤية.
وتعمق الشعور بالمأساة حين أدرك الشاعر وكأن العصر هو عصر انسحاب الإله واستقالة الآلهة التي لم يعد يعنيها سوى رؤية صخرة سيزيف المتدحرجة إلى الأسفل في حركة عبثية مستمرة والتلهي بمنظرة العبث الذي انتهى إليه العالم الإنساني وها هو يعلو صوت الاحتجاج على آلهة هجرت مضاجعة آلام الإنسان وانكفأت على نفسها تتأمل ألمه وعذابه وموته في قسوة
"أواه كم هي قاسية السماء / تسرق زرقة البحر" فها هو يقابل بين عالم السماء وعالم الأرض ويقابل بين العطاء والحرمان فمن يهب البحر زرقته هي السماء لأن أصل الماء لا لون له ولكن من يهب نعمة اللون هو نفسه من يسرقها ونحن نعرف أن السماء عادة تقترن بفكرة ما هو ألهي وما هو مقدس وأن بين امتداد السماء ولا تناهيها وقدسيتها بما هي مأوى الآلهة وبين امتداد البحر وعمقه وحركة مده وجزره وغموضه وثورته وما يسكنه من كائنات متنوعة وأسطورية ليس أقلها ما شاع في ميثولوجيا العقل البشري من حديث عن "عروس البحر" إلا دلالة على الوضع البشري المتناقض وتردده بين الخيال الحالم وبين واقع يشده ويطفئ نور أحلامه وما ينتظره من أمل في الأفق البعيد .كما يعكس البحر تداولا لقانون الطبيعة الانتقائي "البقاء للأقوى" مادمت من حق الأسماك الكبيرة أن تأكل الأسماك الصغيرة ضمانا لبقائها وتنفيذا لقانون الطبيعة وميزانه المختل لصالح الأقوى ما يعبر عن عمق المأساة في عالمنا. فالبحر هو عالم الإنسان والسماء هو عالم الآلهة وكلا العالمين قد أصابه الأفول والإنحطاط واختلال الميزان .
أما التجديد والإضافة الثانية فيما يتعلق بكتابة المأساة كون اعتدنا في الأدب التراجيدي أن المأساة في بنائها التقليدي تدور حول بطل مفرد هو من تنكل به الأقدار وتخضعه الآلهة لقهرها أما في ديوان "وجوديات " فإن البطل التي تعبث المقادير به وتتعطش الآلهة لتعذيبه والتنكيل به هنا هو "جماعة" و"تاريخ" تقوله قصائد الديوان فيلبس الوجود كله "ثوب حداد" إذ يقول في قصيدته "شاطئ الحوريات" : "شاطئ مهجور / يرتدي ثوب الحداد " . فلنستعد إذن لهذه الجنائزية بما يلزم الطقوس الجنائزية من خشوع ولننتبه إلى قرع أجراس العدم ولننصت للمنايا تقص موتها عبر السفر في تراتيل النهايات إنها تنهيدة الإنسان القادم من أفق حضارة متعبة تأبى تشييع موتها الماضي والالتفات لحاضرها ومستقبلها/" منذ ألف سنة "توقف الزمن/ عائدا إلى الوراء ألف قرن/ "ويا أسفا على وطن لا يسكن فيه الشعر".
فهل يمكن أن ننتظر من الديوان وصفة خلاص تبرئنا من أمراضنا و تغسلنا من آثامنا؟
هل من"كاثرسيس"-بمعنى التطهير- يطهرنا ويطهر عالمنا من رجس شياطين البشر..؟
صحيح إن مساحات الألم والحزن قد طغت على ديوان وجوديات لكن الأكيد أن روح الحلم لم تغادر الشاعر لحظة أمام هذا الركام الهائل من الصقيع واللامعنى بل كان الأمل كعادته كبريق ينفذ من شق العدم وينضج على نار الحب والحلم والأمل الهادئ في انتظار أن تتحقق الثورة البنفسجية الهادئة ثورة الحرية على كل أصنام هذا القرن بداية من التبشير ب"أفول أصنام الجهل" والاستبداد لذلك يعلو صوت الشاعر فوق صوت العتمة منشدا نشيد "الجبار" "دعيني أحطم أصنام الجهل /وأزرع في مدن الصحراء /رياحين الشعر/وأغني .
ينتزع الشاعر بقوة الشعر وقوة الكلمة إرادة الحياة وأغنيتها من صفيح العدم مرددا " لن تتوقف زقزقة العصافير /لطلوع الفجر / وهنا يعود المعجم الذي ينثر بذور الأمل فتبرز إلى سطح القصيد عبارات من قبل " تباشير الثورة " الانتصار يحملنا إلى حب عظيم /يحطم الحواجز والحدود / حينها يتحول العالم سريعا /إلى وردة من ضياء /تنبض فيه قصائد الحب/ وتبدأ الأرض بالنشيد / وهنا يتحول الشعر من كتابة تكتب تيهها إلى كتابة تكتب ضدا عن إستراتيجيا التيه نواة القصيدة معنى محفوظ للذي يتكلم شعرا والشعر في وجوديات يمارس "إيبوخيا شعرية" تضع فيه كل الموجودات بين قوسين إلى حين قدوم الثورة البنفسجية الشعرية لتشطب العتمة لصالح النور وتنزع الحجب لصالح انكشاف الحقيقة والوجود وإلغاء الفجيعة والألم والفساد والموت لصالح الانبعاث والحياة والأمل والصلاح للإمساك بجوهر عالم روحي فاضل ينكفئ داخل الكلمة الشعرية الصادقة من أجل استعادة صفاء الشعرية صفاء الكلمة صدقيتها براءتها حريتها وهنا لا يسعنا إلا أن ننهي هذا العمل بالتساؤل سؤالا ضاجا ومقضا كما تساءل منير مزيد "ألا يزال فيك متسع للحلم / يا وطني؟ ويا وطن كل البشر... الأرض أمنا؟
بقلم: أ.سلمى بالحاج مبروك
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1262 الاحد 20/12/2009)