قضايا وآراء
الكتابة الشرسة: قتل الناقد
نحبه ومنها ما مات تحت مقصلة الحاكم من كل بلاد.
الكتابة الشرسة كتابة مقاتلة مختلفة بما يعنيه الاختلاف حقيقة وليس مجازا فلسفيا. إنها لا تؤطر نفسها ضمن قطيع ولا تنتصر لأحد سوى صوت الكاتب وقيمه ووجهة نظره كما يراها هو وليس كما يراها مذهب أو تنظيم أو دولة. تنهل من الماضي والحاضر والمستقبل كما تراه عين الكاتب الفاحصة – دون اعتبار مدى الصواب والخطأ فيما يرى– وليس كما يراه فوكوياما مثلا أو ماركس أو ذاك الرسول الذي يسبح بحمده العوام. ليس لأن هؤلاء المفكرين في مزبلة التاريخ ولكن لأن أفكارهم لا بد وأن تكون حرفت وشوهت وتم التصرف فيها بوقاحة ليس بعدها وقاحة. وعليه فإن اليهودية كما جاء بها صاحبها تغيرت كثيرا ولا مطمح للعثور على النسخة الأصلية أبدا وقس على اليهودية باقي الديانات. أما ابن رشد وكارل ماركس وماكس فيبر وابن خلدون وكونفوشيوس وغيرهم فلا سبيل على الإطلاق معرفة أفكارهم الحقيقية وكم من القراصنة اعترضوا سبيلها. منطقيا لو تراكمت أفكار الفلاسفة والأنبياء لكان العالم أحسن اليوم لكن بتر هذه الأفكار وتشويهها وتحريفها هو ما يجعل الكوارث تعيد نفسها والفكر يعيد نفسه كأنه يُكتشف من جديد وإن بلبوس آخر. لا يمكن اعتبار كل من فكر في الماضي قد أصاب أو كل نبي على صواب لكن الاستئناس بأفكارهم كان سيحقق طفرة خلاقة في حياتنا الآن لولا هؤلاء المدمرون الذين لا ينصتون إلا إلى الوحش الرابض في قلوبهم فقطعوا دابرها. إن المتورطين بصفة عامة هم الحكام من كل الأجناس لا يخلو عرق منهم ولا ملة.
على ضوء ما سلف تبني الكتابة الشرسة سياقها. إنها لا تدجن ولا تؤمن ب” المفكر الكبير” و “الكاتب الشهير” و ” النبي المبشر” بل كل كاتب قبل أن يبدأ يجب أن يعتبر نفسه مفكرا ما دام سيكون مخلصا لإحساسه وصادقا في رأيته دون أن يتملق لأيديولوجيا أو دين أو يسقط أسيرا لها. من أين سيأتيك الخطأ إذا وصفت ما رأيت وعبرت عما أحسست به؟؟! هل سيقول ناقد أن إحساسك خطأ أو أن ما رأيته وهم؟؟ كلا! سيقول لك: لم تكتب ما يجب كتابته ! هذا كل ما في الأمر. وإذا اعتمد ناقد أو قارئ على المقارنة مع ” مفكر كبير” أو كاتب أكبر” فإن جواب الكتابة الشرسة سيكون بداهة: إلى الجحيم كل الكتاب الكبار . ليس هناك أذكى من هذا القلب الذي في أحشائي.
تتمترس الكتابة الشرسة خلف الصدق والإحساس المرهف لكنها ليست رومانسية بما هي معاندة متكبرة لا تحترم شيئا سوى نبضها وحقيقتها وبما هي مدمرة هدامة لا تتغيى البناء ولا تجعله أفقا لها لأن شكل البناء الذي يجب أن يكون تخفيه البنى القائمة، وما هو قائم لا يجب بالضرورة نسفه كله. إنها متاهة تحلو المغامرة فيها كأن تجد نفسك تدمر ما أنت في حاجة إليه فتعض على إصبعك أو أن تجد نفسك قد تورطت بين بارثن الخبثاء فتعض على أصبعك مرتين. إنه الفشل متعاقبا مع النجاح هو ما يحقق متعة الكتابة الشرسة. والفشل تلو الفشل هو ما يزيد في شراستها. لا تكون الكتابة الشرسة فاتنة جدا وقوية جدا إلا مع الفشل وكأنه واحد من مقومات وجودها والنجاح محطة نهايتها. إن الكاتب الشرس الناجح هو الذي يقود نفسه باستمرار نحو الهزيمة كأن يبصق في وجه الجوائز ويهجر المصفقين له، وأن يقطع مع غير الحقيقي وأن لا يهادن ولا يصالح…إلخ.
تعترض سبيل الكتابة الشرسة عدة عوائق أهمها ماكينة الإعلام والتدجين التي تجعل المرء ليس سيد نفسه ومنساقا عن طيب خاطر في ثغاء عمومي. يرى الأمور ليس كما هي وإنما كما وجب أن تكون في المنظومة المُدجنة له. كيف الانعتاق من سطوة التأثير اليومي والغشاوات الثلاث التي تحجب الحقيقة؟؟ لا بد من الانعتاق أولا. ولا ينعتق إلا من كانت هزائمه نكراء دائما. أما المتفوقون فيعميهم النجاح عن كل فاجعة حتى تقع وهم في سلك مؤسستهم يتبجحون.
يأتي بعد ذلك ضغط المُدَجًّنين الذي ينقضون على كل ما يخالف ما دُجنوا به ظنا منهم أنهم تحت حمايته ووفاتهم ستكون بوفاته. هذا الوهم هو ما يجعلهم ينقضون بدافع المصلحة على كل كاتب شرس بل إن شراسته وداعة في الأصل وسميت كذلك لما هي مخربة لنواميس عششت في الأذهان. ليس للكاتب الشرس أي أعداء غير نفسه التي لا تريد أن تكون شاة في إسطبل لكنه مع ذلك قد يكون عرضة لحملات عدائية حين يتعلق الأمر ب” عدم الانضباط”. لو كانت الحقيقة في جهة واحدة لوجد الكاتب الشرس نفسه في جهة واحدة لكن للأسف الشديد يرغم على عدم الانضباط أثناء رحلته في مملكة الحروف إذا كان لا ينصت إلا إلى أحاسيسه ولا يصدق إلا عينيه فيعثر على الحقيقة حيث لا يتصور مٌدَجَّن أنها هناك ويعثر على نقيضها حيث لا يقبل المدجن أن تكون فيه. لا يكون العثور على الحقيقة من طرف الكاتب الشرس بواسطة علم منظم أو وحي منزل وإنما بما هي جزء من حياته وإحساسه ومعيشه اليومي.
كما أن عدم تفكيره في شكل البناء القادم يجعله غير مساهم ضمن هذا التصور أو ذاك فينزل عليه غضب كل الآلهة المتخيلة أو المجسمة. كل بناء يلوح في الأفق ليس لي ولا يناسبني: هذا ما يقوله الكاتب الشرس الفاشل دوما في تشييد وكره الخاص. إنه بوهيمي لا يرتاح في بيوت الآخرين. رحالة بين حظائر المُدَجَّنين.
بعد هذا ، إن مأساة الكاتب الشرس تأتي من الناقد قبل القمع والمصادرة. ليس الناقد سوى خادم حرم جامعي أو حزبي أو أية مؤسسة أنجبته. إنه في غالب الأحيان ليس هو وإنما ما يراد له أن يكون. مزود بأسلحة وعتاد نقدي فعال في الرفع من شأن هذا النص أو تحطيمه إذا لم يكن قويا بما يكفي. بهذا المعنى يكون النص جميلا إذا صادف هوى في نفس المؤسسة التي أنجبت الناقد لكنه ليس كذلك إذا زاغ عن المسار الذي يجب أن يكون عليه. بهذه الصفة يكون الناقد حارس قطيع تم اختياره لكفاءته أو لانتسابه العضوي للمؤسسة التي أنجبته. يعمل الناقد على الرفع من قيمة الكتابة ” المختارة” بمقاييسه وهي طبعا ليست مقاييس جمالية فقط. وبالمقابل يتصدى للكاتب الشرس بالنبش في حياته الشخصية واتهامه بالشذوذ الجنسي وزنا المحارم والفصام والسادية والمازوشية ورمي الإشاعة عنه من خيانة زوجية ووطنية…إلخ. باختصار ليبين أن العلة في ذات الكاتب الشرس وأنه حالة خاصة وليس العيب في المؤسسة (-ات) الراعية. كذلك فإن الناقد يسعى إلى محاصرة الكاتب الشرس من خلال ثلاثة أمور:
- فضح مشروعه.
- تكهن ممكن الحدوث بفعل كتابته.
- رصد المخاوف التي تأتي منها.
باختصار فإن الناقد عميل علني لهذه الجهة أو تلك. إنها مهنة غير شريفة رغم ما يبدو عليها من حسن النية من خلال شعار" الرفع من مستوى الكتابة". يتواطأ الناقد مع كاتب مسخر لذات المؤسسة فتتناغم الضحكات والابتسامات لكنه لا يمكن أن يتواطأ قط مع كاتب شرس صُحبته غير محمودة العواقب ومقامه دوما بين الأشلاء. إنه ينتظر وفاته مثلا ليعلن عن صداقته القديمة له وليمشي في جنازته ثم يتصرف في نصوصه وأدبه وأفكاره حتى لا يرث الجيل اللاحق غير نصف الحقيقة مشوهة منسوخة وممسوخة كما أرادتها المؤسسة/الدولة. لا بد أن يموت النص الشرس في أقرب الآجال إلى حين أن يوفر الحماية لنفسه وهو ما ليس ممكنا الآن. لا بد أن يخر بُعَيد إنجابه صريعا على يد قطاع الطرق: وسائل الإعلام ونحوها.
الكاتب الشرس الجيد بالإضافة إلى لهوه بلعبة الإخفاق والنجاح كمحدد أساسي لمساره- أي أن يمشي بثبات وحزم نحو الخسارة كلما تحقق له نجاح مفتعل كي يستطيع الكتابة مرة أخرى- بالإضافة إلى هذا هو من يستطيع مواجهة الناقد. كل القراء اليوم لا حول ولا قوة لهم إلا بالناقد. لا يقرأ الفرنسي إلا ما اختاره له بيرنار بيفو مثلا. هذا المارد( الناقد) الخطير المسلح بشتى أنواع الحرب: سرديات، سوسيولوجيا، علم نفس، تاريخ، إيديولوجيا…إلخ هو ما يشكل أكبر عقبة أمام الكتابة الشرسة. يقوم بإحباط الكاتب من خلال إهماله أو إذا لزم الأمر تسفيهه مستعملا مصطلحات وألقابا ومستنتجا أحكاما وعضات ومشخصا أمراضا وعللا. منه الطبيب النفسي ومنه مالك الحقيقة التاريخية من عهد عاد وهو أيضا من زودته مخابراته بمعلومات " دقيقة" عن حيوات الكتاب الشخصية من الألف إلى الياء وهو كذلك من له معرفة بقواعد الكتابة وأصول ما يجب أن يكتب. إنه باختصار شرطي مرور بقلم وبدون مسدس، على الكاتب الشرس أن يكتب نصوصا قادرة على مواجهته بقوتها وصدقها وخصوصا ببوحها الشفاف الذي لا يترك مجالا للتأويل والقال والقيل. وأن يتحلى بثقة في النفس تجعله قادرا على عدم الاكتراث للناقد وقادرا على المشي نحو حتفه بتؤدة. على الكاتب الشرس أن يضع نصب عينيه ناقدا حاقدا يترصد هفواته ويريد خلط الأمور بين الحقيقة كما هي في الواقع والنص مع متاهات الفكر المؤسسي المُدجن للناس. إنها مهمة صعبة لحسن الحظ أن الفشل فيها من مسليات الكتابة الشرسة وأحد مُتعها. إنها محاولة لقتل الناقد من خلال عدم الإنصات إليه وإزعاجه عن قصد داخل النص المكتوب ومباغثته في لاوعيه ومراميه. باختصار: إشهاره عدوا وجَبت تصفيته.
لا يجوز مطلقا أن نقول ب” الناقد الشرس” لرد الاعتبار لأولئك الذين يساندون الكتابة الشرسة. كل من ساند كتابة شرسة إنما هو من نفس الحال ولا تجوز تسميته بالناقد لأنه في صميم الواقع ذاق من الهزائم أروعها بينما الناقد متألق في سماء مؤسسته. حتى بالنسبة للكاتب الذي نذر نفسه لتدمير النصوص التي لا تتأسس على ما يراه وما يحسه دون أن يؤطر كتابته ضمن رؤى قطيع بعينه فإن تسميته بالناقد لا تجوز لغة. ذلك أن كلمة ناقد أخذت معناه بصفة نهائية وجعلت منه هو المشرف على النصوص واختيار الجيد منها وتكملتها بالتوضيح والتشريح أو إبطال مفعولها بالقدح والتجريح بما يناسب رؤية عامة حددتها مؤسسة من المؤسسات.
لتقريب المعنى إلى الأذهان نعطي كلمة ” فقيه” كمثال. لا يجوز أن نسمي محاميا ولا طبيبا متخصصا ولا سياسيا محنكا بالفقيه كما لا يجوز أن نقول فلان فقيه في الرياضيات لأن كلمة فقيه ارتبطت بمعنى محدد لا يمكن الخروج عليه. كذلك كلمة ناقد في مفهومها القائم الآن. لا مجال للتخلص منها إلا بنكرانها. ولا مجال لوضع تسمية ” الناقد الشرس” للحفاظ عليها. لا يجوز أن نقول ” فقيه الملحدين” إلا من باب السخرية والاستهزاء. بالقياس ومن باب السخرية والاستهزاء نقول أيضا: ناقد شرس! نسمي من أدمن قراءة النصوص الشرسة قارئا شرسا ومن احترف تدمير النصوص بمقاييس شرسة " كاتبا شرسا" أيضا وليس ناقدا رغم أن مادته هي الكتابة حول الكتابة ورغم أن قلمه يفتك بأجساد النصوص المتواطئة، لأن وظيفته غير وظيفة الناقد وإنما وظيفة الكاتب الشرس عموما بما هي مدمرة غير بناءة ولا تنحاز لقطيع، وبما هي غير مستقلة تنتمي إلى عالمها الخاص: الشراسة.
لكن يجب الانتباه إلى شيء مهم وهو أن نقيض الكتابة الشرسة ليس هو الكتابة المسالمة وإنما الكتابة المتواطئة ذلك أن الكتابة الشرسة مسالمة في حد ذاتها لأنها ناتجة عن كاتب فاشل في كل شيء، منهزم وعاجز عن بناء ما يريد أمام جبروت ما هو قائم. مستسلمة لشيء ما أكاد أسميه القدر. إنه شيء كالقدر أن يكون المرء كاتبا شرسا! رافضا طبعا لكل أشكال الزيف والاحتواء والتدجين. إنها كتابة ترفض التوجيه وتعتبر كل قائد قوًّادا كأنها سمعت للبينك فلويد Pink Floyd حينما قالوا:
. Hey! Teachers (Critics), leave us a lone
عبد الغني بنكروم – كندا
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1265 الاربعاء 23/12/2009)