آراء

"لافروف" واللامنطق الروسي

محمد العباسيالشعب السوري المناضل يعاني من كل صوب وحدب منذ انطلاقة تلك الاحتجاجات السلمية.. لا يبدو أن أحداً يريد لهذا الشعب المغلوب على أمره النهوض والتغلب على وضعه المأساوي.. فتأتيهم الضربات من كل ناحية.. من النظام السوري.. من حلفاء النظام السوري من كل الأجناس والأطياف الطائفية.. من الروس، أرضاً وجواً، من خلال "الفيتو" الروسي المتعنت والمتكرر في مجلس الأمن.. من التردد الأمريكي المشكوك جداً في نواياه المبيتة بالذات في فترة "أوباما" ووعوده المحبطة التي طالما خذلتنا دون أدنى مبالاة بعدد الضحايا من الأبرياء والأطفال والنساء.. من الدعم الإيراني المتبجح للنظام الظالم وسطوة "بشار الأسد" تحت شعار حماية المزارات المقدسة، رغم أن النظام العلوي البعثي الحاكم في سوريا لا يمكن اعتباره مذهباً شيعياً ولا علاقة له بالإسلام.. وكذلك يأتيهم الخذلان من الجامعة العربية التي "لا حول لها ولا قوة" وليس لها سلطة ولا سلطان.. من وعود الدعم التركية التي أوقفتها الخلافات مع روسيا خلف حدودها وانشغالها بالجماعات الكردية المدعومة روسياً وأمريكياً.. والموضوع يتشعب في كل اتجاه، وكل جهة لها مصالحها ومطامعها.. بينما الشعب السوري يعاني الأمرين بين فكي المطرقة والسندان!

منذ أيام الحرب الباردة كانت أمريكا وروسيا تشعلان حروبهما بالوكالة.. كل جهة منهما تدفع بالسلاح والمال لجهة ما لتحارب جهة أخرى.. مجرد معارك وحروب تشعلانها بغض النظر عن الضحايا والمآسي.. ومن خلفهما تجار السلاح واللوبيات المصنعة لأدوات القتل والدمار.. مجرد ساحات لتجارب الأسلحة الجديدة أحياناً أو لبيع مخزوناتهما من الأسلحة الصدأة قبل نفاد صلاحيتها.. وهكذا دعمت أمريكا الأفغان ورمت بهم في أتون الحروب ضد الروس لسنوات أعادت أفغانستان إلى القرون الوسطى.. وشجعت أمريكا جماعات مثل الطالبان والقاعدة.. بل وشجعت الدول العربية والإسلامية السماح لأبنائها بالجهاد في أفغانستان.. وأن تمدهم بالمال والدعم والفتاوى الشرعية بلا هوادة.. ثم انقلبت عليهم جميعاً بعد أن استنفدت مبتغاها ونالت مرادها.. أما اليوم فأمريكا وروسيا قد تكالبتا على سوريا بذريعة محاربة الإرهاب "الداعشي".. وتوزعتا الأدوار، أمريكا تحارب "داعش" في العراق وشرق سوريا.. وروسيا تتكفل بهم في سوريا كذريعة للبقاء في المنطقة والاستمرار في تجارب أسلحتها وصواريخها.. ويبقى السؤال المحير: هل روسيا حقاً تحارب الدواعش في سوريا؟

كثيراً ما عانت الدول العربية من صنوف الاستعمار الأوروبي تارة، ومن زرع السرطان الصهيوني في قلب الأمة تارة أخرى، مما أضطر بعض العرب أحياناً إلى اللجوء للروس (السوفيت) لبعض الدعم والسند في الماضي، كما فعل "السادات" قبيل تحرير سيناء.. لكن هذه المرة فقد أتتنا الفاجعة الكبرى من روسيا ذاتها وبشكل مباشر لا ريبة فيه.. فروسيا تتدعي أنها لا تقف مع النظام السوري (!)، لكنها تدعم الجيش السوري!  إدعاء غريب جداً ولا يمت للمنطق بصلة ولا يقبله عقل.. لأول مرة منذ عصور القياصرة الروس نواجه أطماع روسيا التوسعية في منطقتنا العربية بهذا الشكل المباشر.. ونكتشف أن في روسيا اليوم قيصر جديد اسمه "بوتين".. ولسانه في المنطقة هو وزير خارجيته المدعو "سيرغي لافروف".. و"لافروف" هذا ظل يتفنن في سرد الأكاذيب والادعاءات ويتقلب "على بطنه وظهره" دون حياء.. وكان جل كلامه يمتاز بالكذب "جهاراً" دون أن يرد عليه أحد منا.. ولا حتى أمريكا ذاتها!!

"لافروف" هذا (رغم أفول حضوره هذه الأيام) ظل يتبجح بكل فخر بعمليات القصف الجوي في سوريا على أساس أنها بطلب من النظام السوري، لذا هي عمليات لا تشوبها شائبة، بعكس غارات التحالف التي ليس لها حق في التحرك في الأجواء السورية بدون إذن مسبق.. وفيما يخص الاتهامات المتكررة الموجهة إلى سلاح الجو الروسي باستهداف فصائل من المعارضة المعتدلة، وحتى جحافل المدنيين الأبرياء، في سياق غاراتها المتواصلة في سوريا، فقد دأب "لافروف" في وصفها بأنها عديمة الأساس على الإطلاق.. لأن قنابلهم (العنقودية والفسفورية) موجهة ضد الإرهابيين فقط!!.. ففي نظر "لافروف" وكل المتحدثين الروس وبكل بساطة أن النظام السوري هو من يحدد لهم الإرهابيين وأماكن تواجدهم.. وأن كل من يعمل ضد النظام بغض النظر هم بالضرورة ضمن المصنفين كذلك.. هم وكل قرية ومدينة قد يتواجدون فيها أو حولها!

ماذا عن "داعش"؟  لماذا إذن كانت الطائرات الروسية تتفادى القصف المباشر لمناطق نفوذ "داعش" وهي كانت واضحة للعيان؟  بل أن التواطؤ كان جلياً في حالات متكررة، حيث كانت "داعش" تتوسع وتغزو ذات المناطق التي تقصفها روسيا وتخليها من المعارضة المعتدلة مباشرة بعد كل غارة.. وبشكل مريب كان القصف ينقطع عندها.. وكأنما الأمر مرتب بينهما مسبقاً.. وكما لو كانت "داعش" على علم مسبق بالقصف ليخلو لها مناطق جديدة.. وهذا التواطؤ لا يمكن نكرانه.. فذات الحالة تتكرر مع عمليات القصف المدفعي والبراميل المتفجرة من جانب النظام.. لتأتي بعدها "داعش" وتستولي على مناطق جديدة "باردة مبردة".!!

و ظل "لافروف" وغيره من أفراد حكومته يكررون أن موسكو تسمع مثل هذه الاتهامات منذ بداية عملياتها الجوية، على الرغم من أنها دعت دول التحالف منذ اليوم الأول من الغارات الروسية إلى الجلوس وإجراء مشاورات مهنية حول "الأهداف الصائبة" و"الأهداف الخاطئة" على أرض سوريا، بدلاً من الانخراط في خطابات دعائية.. وظل "لافروف" يوجه انتقاداته للتحالف ويشدد: "بدلا من ذلك يفضل شركاؤنا تكرار اتهامات عديمة الأساس على الإطلاق، ويتحاشون الحوار العملي، وهو أمر يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية التي يسعى التحالف لتحقيقها".

الغريب في الأمر أن روسيا لا تزال تتحرك في سوريا دون أن تجد من يوجه لها أي انتقاد أو شجب واضح المعالم.. بينما كان "لافروف" يقوم بتوجيه الانتقادات والتنديد للتدخلات التركية والأمريكية سواء على حدودها مع سوريا أو في العراق.. ولم ينتقد قط أو يشجب في ذات السياق التدخلات الإيرانية وميليشياتها الطائفية في كل من سوريا والعراق.. كما لو كان التاريخ يكرر ما فعله الأمريكان في العراق في 2003 وبتواطؤ مريب مع إيران ثم تركوا الساحة العراقية للإيرانيين "لقمة سائغة".. فذات السيناريو يتكرر في سوريا، والإيرانيين ينتظرون تسلم زمام الأمور فيها من الروس ليكملوا "كماشة" الهلال الشيعي الممتد من "قم" إلى "الضاحية الجنوبية" في بيروت.. بينما العمل قائم على قدم وساق في اليمن جنوباً.

بل ظل "لافروف" يتمادى في بهتانه مضيفاً: "إننا بحثنا هذه الأفكار مع شركائنا الأمريكيين، ونأمل في مواصلة الحديث بشكل أكثر تفصيلا قبيل اللقاءات القادمة لمجموعة "دعم سوريا".. ويشدد الوزير الروسي على أن العنصر الرئيس لوقف إطلاق النار يكمن في قطع قنوات تهريب الأسلحة عبر الحدود السورية-التركية والتي تساهم في تغذية الإرهابيين في سوريا.. ويعتبر أنه من المستحيل التوصل إلى وقف إطلاق نار مستقر بدون قطع قنوات التهريب هذه.. ولا يأتي على ذكر ميليشيات "حزب الله" اللبناني ولا المرتزقة الباكستانيين والأفغان والميليشيات العراقية وجنود حراس الثورة التي تغزو سوريا بدعم وتمويل وتسليح من إيران.. ورغم أنها كانت تنتقد تركيا بشكل مباشر كونها المنفذ الرئيس لدخول مرتزقة "داعش" في الأيام الأولى لنشأة هذه الجماعة، إلا أنها ظلت تستثني ذكر "داعش" ذاتها كونها منظمة إرهابية معارضة للنظام (ربما لعلمهم بأنها ليست كذلك).. ولم تكن ترى أنها تستحق منها أن توجه لها قصفها والقضاء عليها كما كانت تدعي.. مما يطلق العنان كما أسلفنا سابقاً للشك بل الاقتناع التام بالتواطؤ بين النظام والدواعش منذ البداية.

لقد نشر موقع "مدار اليوم" التالي: "ميزة الكذب الروسية، أساسها أن تورد خبراً كاذباً (مثل ادعائها بأنها تجتمع بالمعارضة السورية والجيش الحر)، تضع فيه بعض الحقيقة أو نكهتها، لتسوقه باعتباره الحقيقة ذاتها، ولا شيء غيرها".. وفي أخبار أخرى كان المدعو "بغدانوف" (نائب وزير الخارجية الروسي) يتحدث عن العلاقة مع المعارضة السورية التي كثيراً ما وصفها الروس بـ "الإرهاب"، فإنها لا تتعدى علاقتها المشبوهة مع بعض الجماعات المعارضة المرتبطة بالنظام، ومنها تواصله مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) الذي يبدو أن لهم مندوباً دائماً في موسكو، ويتم التواصل معه، ويفسرون الأمر على أنه اتصال مع الأكراد كلهم، لأنه أحد الأحزاب الكردية في سوريا، ويصنفه الروس في عداد المعارضة السورية، وهم في ذلك يتدعون التواصل مع كافة فصائل الأكراد والمعارضة السورية.. وحيث أن حزب الاتحاد الديمقراطي موجود في موسكو، فإن لقاءات الروس واتصالاتهم تتم في موسكو، وحيث أن لهذا الحزب جناح عسكري هو "قوات الحماية الشعبية"، المتحالفة مع تشكيل واحد فقط من الجيش الحر في غرفة عمليات "بركان الفرات"، فإن اتصالات الروس معهم هي إذن اتصال مع الجيش الحر.. فروسيا ظلت تفسر وتفصل الأوضاع كما تشتهي!!

أكاذيب "بغدانوف" لم تبتعد كثيراً عن الأكاذيب الروسية الأخرى الصادرة عن المصادر العسكرية المتفقة معها حول العمليات الجوية في سوريا، والتي كان أساس القيام بها محاربة تنظيم "داعش"، لكنها ذهبت في اتجاهات أخرى بقدرة قادر.. إذ ركزت الطائرات عملياتها على حمص صعوداً إلى حماه وإدلب وحلب، ثم التفتت جنوباً إلى دمشق وصولاً إلى مثلث التقاء محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق، وفي كل هذه المناطق، تنتشر قوات من المعارضة المسلحة "المعتدلة" باستثناء بقع محدودة تتواجد فيها "جبهة النصرة" المنتمية إلى "القاعدة"، والتي يمكن أن تشكل وحدها هدفاً للطيران الروسي.. لكن الجميع كانوا أهدافاً للطلعات الروسية، التي كانت في فترات ما تتجاوز خلال شهر الألف طلعة، تستهدف خلالها مدناً وقرى بتجمعاتها السكانية، ومستشفياتها وأسواقها، فتقتل المئات من المدنيين بينهم غالبية من الأطفال والنساء.. والأهم في معطيات العمليات الروسية، أنها لا تكاد تستهدف "داعش" إلا بنسبة لا تتجاوز العشرة بالمائة حسب التقارير الدولية (موقع مدار اليوم).

و لا يمكن اختصار المواقف الروسية إلا بالقول: "أكذب ثم أكذب ثم أكذب.. حتى يصدقك الناس".. وهذه نظرية "نازية" واعتمدتها روسيا أيضاً منذ أيام الإتحاد السوفيتي البائد.. حتى باتت من كثرة تكرار الكذب الفاضح تصدق نفسها.. وهذه نظرية ورثها "لافروف" ويكررها نائبه "بغدانوف" ويعيدها المسؤولون الروس بما فيهم رئيس الوزراء "مدفيديف" والقيصر (الدكتاتور) الروسي الجديد "بوتين".. جميعهم يمتازون بميزة الكذب بلا خجل أو حياء.. بينما تستمر المجازر الروسية دون أن تجد من يردعها أو يشجبها صراحة ولو من باب الإنسانية والرحمة بهذا الشعب الذي يكاد ينقرض.. ومن المخجل بالنسبة لنا نحت العرب أننا لا نوال نتكل على السند من روسيا وأمريكا وأوروبا والأمم المتحدة دون أن يكون لنا في أوضاعنا رأي ولا سلطان.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم