آراء

من سايكس بيكو (1) إلى سايكس بيكو (2)

محمود محمد عليتعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مرحلة تاريخية فارقة فى التاريخ الحديث، فأثناء الحرب اندلعت الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية فى يونيو 1916 والتى وُضعت مبادئها بين "الشريف الحسين بن على" حاكم مكة وقادة الجمعيات الثورية فى سوريا والعراق .كانت الصفقة واضحة بين الثوار العرب والإنجليز، دعم بريطانيا الحرب فى مقابل الحصول على الاستقلال، وهو ما كشفت عنه مراسلات "حسين – ماكمهون"، والتى أظهرت اعتراف بريطانيا بآسيا العربية كدولة عربية مستقلة إذ شارك العرب فى الحرب ضد الدولة العثمانية، فأتت الخديعة الكبرى والمؤامرة على العرب في اتفاق سايكس بيكو عام 1916، وهو تفاهم سري بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ فى غرب آسيا بعد تهاوى الامبراطورية العثمانية فى الحرب العالمية الأولى، وقد تم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين نوفمبر من عام 1915، ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي "فرانسوا جورج بيكو"، والبريطانى "مارك سايكس"، وكانت على صورة تبادل وثائق بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك، وبعد الثورة البلشفية وسقوط الامبراطورية الروسية آنذاك، وبعد الثورة البلشفية وسقوط الإمبراطورية الروسية بنهاية الحرب، كشف الشيوعيون عن الاتفاقية مع وصولهم إلى سدة الحكم فى روسيا عام 1917، وجاءت رسالة آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر 1017 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، تلك الرسالة التى أشار فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود فى فلسطين والذي عرف بوعد بلفور.

ولقد كان البند الأول في المعاهدة واضحًا حين اعترفت بريطانيا وفرنسا بدول عربية مستقلة بدلًا من دولة عربية مستقلة، فيما تناولت البنود الأخرى كيفية تقاسم الأرض العربية بين البلدين المستعمرين، بحيث يكون الفصل الجغرافي لمنع أي التقاء بين هذه الدول. غير أن معاهدة سايكس بيكو لم تكن كافية للدول المستعمرة التي توصلت بعد مفاوضات حثيثة مع روسيا القيصرية إلى معاهدة بطرسبرغ في مارس 1916، وهي معاهدة أكثر جرأة من سايكس بيكو، لأنها نصت علنيا على ضرورة تقاسم الأمم الخاضعة للدولة العثمانية وتقاسم النفوذ فيها بين الدول الثلاث، لكن الثورة البلشفية عام 1917 دفعت روسيا إلى الانسحاب من اللعبة الاستعمارية. لم تمض سنوات قليلة حتى كانت سوريا، والجزائر، وتونس، وموريتانيا، وجزء من المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، فيما احتلت إسبانيا الجزء الآخر من المغرب العربي، وخضعت ليبيا للاحتلال الإيطالي، أما مصر، وفلسطين، والعراق، والأردن، واليمن، والخليج العربي، فكانوا من حصة بريطانيا، وما كان من معاهدة سان ريمون عام 1920 نفسها إلا تكريس الواقع القائم .

ورغم كل ذلك فإن النظر في حصيلة سايكس بيكو مقارنة بالوضع الراهن الذي نعيشه الآن تبدو لمصلحة هذا الاتفاق رغم طبيعته الاستعمارية، ذلك أن الاتفاق قد أفضى عمليا إلى قيام دول وطنية تزعم أنها حديثة وكرس ميلاد الدولة الوطنية بعد اشتداد عود الحركات الاستقلالية والتحررية العربية على غرار نمط دولة «ويستفاليا» باعتبارها وحدة القانون الدولي، كذلك ضمن الاتفاق الطبيعة المدنية للدولة الوليدة من زاوية حكم القانون والمبادئ، لم يستطع الاتفاق أن يعصف باللغة العربية التى تنطق بها شعوب المنطقة، بل ظلت لغة التواصل الرسمية والشعبية ولم يصادر العادات والتقاليد، ولا المصاهرات المتكررة ولا الموسيقى ولا الفن ولا الآداب المشتركة بين هذه الشعوب.

بالتأكيد لا تنخرط هذه المسائل باعتبارها إيجابيات فى طبيعة اتفاق سايكس بيكو ولا باعتبارها طبيعة استعمارية استعلائية، ولا في إطار الدعاوى المشبوهة حول «رد الاعتبار للاستعمار» أو فضائل الاستعمار، بل هى نتائج تنخرط فى إطار قابلية التخطيط والتدبير على التحول إلى عكس ما يريد واضعوه وصانعوه، إذ كثير ما يتم التخطيط لشيء ويسفر التطبيق عن شيء آخر معاكس جزئيا أو كليا لما خطط له، وفضلا عن ذلك فإن تحولات تطبيق الاتفاق فى الواقع كانت محصلة نضالات الحركات التحررية العربية والمناهضة للاستعمار وإصرار قادة هذه الحركات على التحرر من الاستعمار وطلب الاستقلال وانخراط الشعوب العربية فى زخم النضال الوطني والقومي.

هكذا أفضى اتفاق سايكس بيكو إلى تدعيم ولادة الدولة الوطنية والقطرية العربية، تلك الدولة التى اعترف بها العالم وحصلت على عضوية الأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية والأممية، بل إن هذه الدولة الوطنية هى التى أسهمت في إنشاء النظام العربي من خلال جامعة الدول العربية، وفى فترة المد القومي والتحرري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر استطاعت هذه الدول بقيادة مصر ودورها وريادتها أن تبلور التوجه العربي للنظام العربي، وأن يكون الدور العربي فيه مؤثراً إقليمياً ودولياً .

ومن هنا أدركت الولايات المتحدة الأمريكية بعد إنهاء الحرب الباردة التى كانت بينها وبين الاتحاد السوفيتى، ضرورة النظر فى سايكس بيكو 1916، وإن الولايات المتحدة الأمريكية ستعتمد في تجزئة المنطقة هذه المرة على الاثنيات والطوائف والأقليات، وذلك باتباع أساليب الإغراء، كإقامة كيانات سياسية مستقلة لها، أو الوعود بحمايتها وتلقى المساعدات منها وغيرها من هذه الأساليب، وفى واقع الأمر ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية من وراء ذلك هو جعل هذه الاثنيات والأقليات والطوائف أداة من أدوات سياستها الهادفة في نهاية المشوار إلى الهيمنة على المنطقة والسيطرة عليها. وهذا لن يحدث إلا من خلال " تجزئة المنطقة إلى كنتونات أكثر مما هى مجزأة، بدلا من الروابط القومية والدينية أو الثقافية التى تربط بين أبناء المنطقة ".

إن من أهم الأهداف الأمريكية التي تسعي إلي تحقيقها في المنطقة العربية هي تنفيذ مشاريع “ التجزئة السياسية Political Fragmentation " ؛ التي تشمل دول الشرق الأوسط ( الدول العربية بالإضافة إلي تركيا وإيران وأفغانستان)، حيث تكشف الوثائق الأمريكية التي تعود إلي الثمانينيات من القرن الماضي عن مخطط صهيوني أمريكي لإعادة هيكلة جيوسياسية جديدة للشرق الأوسط برمته، فقد تقاطعت مصالح ثلاثة قوي هي ( الرأسمالية الأمريكية المتمثلة بالشركات العملاقة، اليمين الديني المتمثل بالمحافظين الجدد، اللوبي الصهيوني الأمريكي) وتمت بلورة وبرمجة أمريكي صهيوني قديم في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ( 1980-1988) يقضي بتفكيك عدة دول في الشرق الأوسط وخاصة الدول العربية بهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية، فضلا عن إنشاء دولة إسرائيل الكبرى، وإعطاء إسرائيل دور الريادة، مع محاولة إلغاء الخلاف الحاد بين إسرائيل ودول المنطقة والاعتراف بها وبكل ما يتطلبه هذا الاعتراف .

وتعود خطة تفتيت العالم العربي وتحويل دوله إلى دويلات تقام على أسس عرقية أو مذهبية أو طائفية إلى خمسينات القرن الماضي حين خططت إسرائيل لذلك كما ثبت من المناقشات التي دارت في إحدى جلسات الحكومة الإسرائيلية عام 1950 والتي نشرت محضرها صحافية إيطالية لقيت مصرعها بعد ذلك في ظروف غامضة. واعتبرت الدولة الإسرائيلية أنه ضماناً لأمنها القومي لا بد من تفتيت العالم العربي حتى تمنع المحاولات التي كانت تبذل لتحقيق الوحدة العربية والتي كانت من المطالب الأساسية لتيار القومية العربية والذي كان في ذروة صعوده في تلك الفترة.

ولكن الأحداث المتلاحقة التي جرت في الشرق الأوسط وأبرزها الصدامات العنيفة بين الدولة الإسرائيلية والحركة النضالية الفلسطينية، بالإضافة إلى المواجهات العنيفة بين إسرائيل والدول العربية والتي تمثلت في سلسلة من الحروب التي بدأت بمشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مع بريطانيا وفرنسا كرد فعل على تأميم الزعيم جمال عبدالناصر لقناة السويس ثم حرب حزيران (يونيو) 1967 ضد مصر وسورية، والتي تبعتها حرب أكتوبر 1973، كل هذه الأحداث والحروب لم تسمح لإسرائيل بتنفيذ خطتها الاستراتيجية في تقسيم العالم العربي، وتفتيت دوله وتحويلها إلى دويلات .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

في المثقف اليوم