آراء

عبد السلام فاروق: وسقطت المتاريس والحصون!

إنهم يعلمون كيف يحمون ما سرقوه من أراضى وحقول، فصنعوا جدراناً عازلة وارتقوا بالأسوار المكهربة، وظنوا أنهم بمأمن حتى جاء يوم السابع من أكتوبر فتغيرت قناعاتهم وانتهت للأبد!. ولأنهم متخصصون فى الدراسات والأبحاث النفسية وطرق التلاعب بالعقول، أقاموا جدراناً نفسية وهمية أنهم الأقوى وألا سبيل لهزيمتهم، حتى رأينا كل تحصيناتهم تتهدم وتتفتت كأنها بيوت العنكبوت! وكل هذا حدث فقط فى 40 يوماً!!

ما بعد الأربعين

إنها الهدنة يسعى إليها المهزوم سعياً.. فمن الذى انتصر حقاً؟

الآن وبعد تكدس الآليات المعطوبة بفعل راجمات المقاومة، وبعد النزيف المؤلم للجيش العرمرم على أرض غزة، وبعد اقتناعهم باستحالة التوصل إلى مكان الأسري أو حتى تحرير أسير واحد منهم، وبصعوبة العثور على نفق واحد من مئات الأنفاق فى شبكة غزة الخارقة للتحصينات. باتت الهدنة أقصى أمانيهم!

سياسياً هناك انشقاق داخل دوائر الحكم والقيادة فى إسرائيل، وضغوط كبيرة مؤداها أن حكومة نتنياهو تلفظ أنفاسها الأخيرة. وعلى الجانب الآخر من الشاطئ تنحسر شعبية جو بايدن وحزبه الديمقراطى إلى الذيل، وحزب المحافظين البريطانى تحت ضغوط شعبية ومليونيات ثورية تنادى بوقف الحرب، والتوقف عن دعم الكيان الإسرائيلى المحتل صاحب المجازر النازية غير المسبوقة.

وعسكرياً لا يوجد تقدم على أى محور من محاور الاقتحام البري، بل يبدو المشهد وكأنه كادر سينمائى ثابت متجمد على بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم الشاطئ وما حول مستشفى الشفاء. والحديث يجرى عن معارك سجال بين طرفين قويين، لا عن اقتحام وفرض سيطرة ونشر قوات للجيش الأقوى والأكثر عتاداً!

الآن وبعد أربعين يوماً على القصف الغاشم على غزة، لم يعد ثمة حلول إلا هدنة قصيرة من أجل تحرير بعض الأسرى، وكلها تتم بشروط تمليها المقاومة المنتصرة !

عجائب المتعاطفين مع غزة

لعل أهم مكاسب ما حدث فى فلسطين المحتلة التعاطف العالمى المذهل مع غزة، وتلاشى فاعلية ومصداقية الإعلام الصهيوأمريكى.

المتابع لمظاهرات نيويورك ولندن سيجد فى صفوفها الأولى عائلات يهودية متعاطفة مع القضية الفلسطينية! وشباب بأوشام وتقاليع غربية. وعروض رقص يؤديها رجال بأزياء الهنود الحمر، يتذكرون مأساتهم ويربطونها بمأساة غزة وفلسطين!

أغلب المتعاطفين مع غزة حول العالم ليسوا عرباً ولا مسلمين! وإنما هم خليط من كافة التيارات والأحزاب والعقائد والأجناس. إنه تعاطف إنسانى خالص تجاه صمود يبدو كصمود الجبال الرواسي لأهل غزة، وطغيان إسرائيلى يعيد للأذهان محارق الهولوكوست النازية، وقبضة الدكتاتوريات الفاشية، ومجازر المغول والتتار!

المشهد الأعجب يحدث بيننا! عندما تلاحظ حولك أناس تغربلهم المحنة، فينفضوا عن قلوبهم وعقولهم وأكتافهم كل ماضيهم الذى تعاطفوا خلاله مع الماركسية حيناً ومع الليبرالية حيناً ومع العلمانية بعض الوقت، ثم يكتشفون أنهم لا يملكون إلا التعاطف مع المقاومة الفلسطينية حتى وإن كانت تتعارض مع معتقداتهم وأفكارهم ومزاجهم السياسي والنفسي!

الحق أن ما يحدث فى فلسطين المحتلة اليوم يعيد هيكلة العقل الجمعى لا أقول فى منطقتنا بل فى العالم كله. وسوف نرى فى المستقبل من التداعيات والنتائج ما يثير الحيرة والعجب والاندهاش أكثر وأكثر.

زمن سقوط الأقنعة

بعد معركة طوفان الأقصى لم يعد التخفى خلف شعارات المداهنة والنفاق ممكناً..

بات من السهل تمييز الوجوه كلها بوضوح. وجه الإمبريالية الاستعمارية المتدثر بعباءة الليبرالية وحماية الحريات. ووجه الشيوعيية الأحمر الدامى الرابض خلف قناع النضال الكاذب والدعوة الزائفة لحفظ حقوق الفقراء والضعفاء والعمال والفلاحين. وهؤلاء وأولئك خرسوا تماماً أمام مجازر جيش الاحتلال الإسرائيلي فى غزة. بل إن بعضهم بات لساناً للظلم ضد المظلومين!

هل تعلم أن المعضلة الأكبر أمام الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل الآن فى تفاوضهما مع المقاومة الفلسطينية هى غياب الوسيط بين الجناح العسكرى الغزاوى وبين المفاوض الإسرائيلي؟! والسبب أن المقاومة لم تعد تثق فى أحد خارج نطاق المعارك على الأرض، وبات التواصل الوحيد من خلال المتحدث العسكرى للمقاومة الفلسطينية، والذى أصبح يلعب دور السياسي والإعلامى بالإضافة لدوره العسكرى! كأن كثرة الأقنعة وتداعيها من حول أفراد المقاومة، دفعهم ألا يثقوا إلا فى أنفسهم، الأمر الذى يفسر سرية عملية طوفان الأقصى منذ بدايتها؛ كأن العارفين بساعة الصفر كانوا أقل من أصابع اليد الواحدة!

وثيقة كامبل السرية!

عام 1905 عُقد مؤتمر كامبل بنرمان فى العاصمة البريطانية لندن. إنه مؤتمر دعا إليه حزب المحافظين البريطاني سراً . واستمرت مناقشات المؤتمر حتى عام ١٩٠٧. وقد ضم المؤتمر جميع الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي:بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، إيطاليا، وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية دعوها "وثيقة كامبل" نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان.

انتهى المؤتمر الحاشد إلى قرار خطير مفاده: اعتبار البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار والجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم..وأن العقبة الكبيرة للسيطرة عليه، هى الوحدة الدينية والتاريخية واللغوية للشعوب المطلة على جنوب وشرق البحر.. وعليه فإن قادة المؤتمر قرروا الآتى: أولاً: إبقاء شعوب تلك المنطقة مفككة جاهلة متأخرة اقتصادياً وتنموياً. ثانياً: منع أى اتحاد بين أجزاء المنطقة المقسمة بفعل الاستعمار ثم باتفاية سايكس بيكو الشهيرة. ولضمان تحقيق ذلك تم التخطيط لإقامة دولة إسرائيل كشوكة مغروسة فى حلق المنطقة تعيق توحدها وتغرقها فى مشكلات مزمنة.ثالثاً: تفكيك نسيج الدول المستهدفة من داخلها من خلال دعم الأقليات وإثارة نعرات التفرق والانقسام بكل أشكاله العقائدية والعرقية والقبلية بحيث لا يستقم النسيج الاجتماعى لهذه الدول إلا من خلال تدخلات خارجية ورعاية أممية! .

إنها وثيقة تمثل نهج الدول الغربية ما بعد خروجها الظاهرى وانسحاب جيوشها من المنطقة، لضمان استمرار سيطرتها ونهضتها على حساب تراجع منطقة الشرق الأوسط حضارياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً ليظل العرب طوال الوقت معتمداً متكئاً على الغرب موالياً له كل الموالاة!

مستقبل المحمية الأمريكية!

لم يعد أحد يجهل حقيقة أن إسرائيل هى الطفل المدلل لأمريكا، وأنها محميتها فى الشرق الأوسط..

كيف لا، وهذه السفن الحربية وحاملات الطائرات وأطنان الذخيرة والسلاح تطير من أمريكا إلى إسرائيل عبر جسر جوى دائم لتحيط إسرائيل المحتلة إحاطة السوار بالمعصم؟! خطوات ليست وليدة اللحظة، بل هو دعم قديم ودائم وشامل لكل عناصر القوة من سلاح وعتاد وأموال وتقنيات بل وجنود مرتزقة من أوروبا والغرب!

ومنذ كتابات هنرى كيسنجر التى دعت إلى منع أى انتصار عربي، إلى قرارات دعم الكيان بأقوى طيران وأقوى ترسانة قنابل وذخيرة فى المنطقة، وحتى معركة اليوم التى جمعت أساطيل أوروبا وأمريكا وأحلاف الغرب، نستطيع أن نفهم أن الصراع يدور حول المصالح الغربية فى المنطقة، بقناع أيديولوجى عقائدى!

ونظرة سريعة لنتائج المعركة على الأرض يستطيع أن يصل إلى يقين تام أن المصالح الغربية فى المنطقة لن تتحقق، وأن المحمية الأمريكية الشرق أوسطية المسماة إسرائيل، سوف ينكشف عنها غطاء الدعم الغربي، وأنها ستكتسب مزيداً من الكره والاحتقار من جانب الرأى العام العالمى، وأن الانقسامات الداخلية الحادثة فى النسيج الاجتماعى الإسرائيلى، كعقاب عادل لمؤامرات مؤتمر كامبل وأشباهه، تنذر بتحقق ما اصطلح على تسميته "لعنة العقد الثامن".

ولن تمر سنوات قليلة إلا وتتحول المحمية المحاطة بسياج ضخم من الجدران والحصون ووسائل الحماية، إلى مقصد لكل فلسطينى ترك أرضه قسراً وصدره ينطوى على حلم العودة الذى لم ولن يزول.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم