آراء

"الأقلية" ولعبة المكر السياسي

ميثم الجنابيإن المراحل العاصفة في تاريخ الأمم والدول لا تخلو من مختلف المفاجئات. والسبب يكمن في أن مراحل الانتقال العاصفة عادة ما تتصف بانعدام الثبات والتقلب والتغير الذي يصعب رده إلى عامل أو سبب واحد بفعل تحطم أو تهشم منظومة الانضباط الذاتي للدولة والمجتمع والثقافة والقيم. من هنا إمكانية ظهور مختلف الأفعال وردود الأفعال، إضافة إلى انتشار مختلف المظاهر اللاعقلانية من الجريمة العشوائية إلى المنظمة، ومختلف مظاهر الفساد الفردي والجماعي. بحيث يصعب أحيانا عزل الفساد الفردي عن الجماعي، وذلك لتغلغله في كل مسام الوجود الاجتماعي من العلاقات العائلية إلى علاقات "النخب السياسية". من هنا عدم غرابة تحول المكر إلى فن من فنون "السياسة".

وعندما تتحول الحيلة والامتهان الشامل بما في ذلك للأعراف الراسخة إلى جزء من "صعود" الشخصية إلى "ذروة" السلطة، عندها تصبح الأفعال جزء محسوبا من نفسية وذهنية العدّ والنقد! غير أن هذا الحساب الرقيع لا يمكنه القيام بشيء غير ترقيع النفسية والذهنية المثقوبة. ومن ثم لا يمكنه الصمود لفترة طويلة أمام الحالة العاصفة للتحولات والتقلبات الملازمة لمراحل الانتقال. بعبارة أخرى، إن القوة الوحيدة القادرة على الثبات في تلك المراحل، هي تلك التي تتسم بالثبات المقترن بالفكرة العامة، أي بفكرة الدولة والمصالح الوطنية العامة. وهي الحالة التي تكشفت بصورة جلية ونموذجية في حالة العراق الحالية. إذ نقف أمام اقتران غريب، لكنه مفهوم، مثل مهاجمة أزلام السلطة للسلطة التي يعملون فيها، أو اتهام احدهم للسلطة بالطائفية وهو "نائب رئيس الجمهورية"! أو أنه يعمل احدهم أو بفرقته السياسية "البرلمانية" ليس فقط على تخريب "العملية السياسية" بل وتنظيم الاغتيال فيها وعبرها. وهذا كما يقال غيض من فيض. وهي حالة قد يصعب ربطها بطرف دون آخر، لكنها تعكس في الإطار العام حالة الخلل الفعلي في النخبة السياسية وطبيعة صيرورة السلطة والدولة ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة ومستوى الخراب الشامل للعراق بأثر عقود من سيطرة واستهتار الدكتاتورية الطائفية الفئوية الجهوية القبلية العائلية، أي اشد الأشكال تخلفا وانحطاطا لظاهرة العصابة المنظمة، من هنا يمكن توقع استمرار خرابها في بقاء وفاعلية إفرازاتها في القوى التي كانت للأمد القريب تمتص لبن وجودها منها!

ولم تعد هذه الظاهرة فردية بسبب سعة انتشارها بل غلبتها في الواقع السياسي الحالي في العراق، أي ظاهرة التفسخ البطيء لقوى الماضي في ديناميكية التحول العاصف صوب الانتقال من الدكتاتورية والواحدية العقائدية الفجة إلى فضاء النظام الاجتماعي السياسي المحكوم بفكرة الدولة والقانون. وليس مصادفة أن يتحول "القانون" إلى وسيلة لعبها الشخصي ومكرها السياسي. مع أن القضية واضحة وجلية. وذلك لأن ظروف الانفتاح والصراع العلني العنيف في ظروف العراق الحالية تجعل من الصعب بقاء وديمومة المؤامرات الصغيرة مخفية. ومن هنا أيضا تحول المؤامرات إلى مغامرات جلية. من هنا تحول "القانون" للمرة الأولى إلى جزء من تخريب القانون! لكنها مفاجأة ليست غريبة وذلك لأنها تستكمل حلقات هذه الذهنية والنفسية، أي تخريب السلطة من خلالها، والدولة من خلالها، والحق من خلاله، والقانون من خلال القانون!

ومن الممكن النظر إلى هذه الظاهرة على أنها جزء من لعبة الارتزاق السياسي، التي تحددها آلية عدم الثبات في مرحلة الانتقال. من هنا انتشار ظاهرة المؤقتين في بنية الصيرورة الجديدة للدولة والمجتمع. وهي الظاهرة التي وجدت منافذها من خلال العدد الهائل للشقوق في بنية الوجود الاجتماعي والدولة والقيم والفكرة الوطنية، كما كان يمكن رؤيته بوضوح في توسع وتضخم الظواهر التقليدية والمتخلفة من الطائفية السياسية والعرقية والجهوية والفئوية وغيرها وتغلغلها في بنية السلطة "الجديدة". وهي حالة كان وما يزال يصعب التحرر منها بسبب تخلف الوعي الوطني والدولتي عند الكثير من "النخبة السياسية".

إن صعود هذه الظواهر الخربة وقدرتها على الفعل والتأثير الخرب يكمن أساسا في مرحلة الانتقال وعدم نمو وتكامل الدولة بمعايير الحق، والمجتمع بمعايير المدنية، والثقافة السياسية بمعايير العلم النظري والعملي. الأمر الذي يفسر سبب صعود وهيمنة فكرة المحاصصة والوفاق التي جاءت بأغلب "شخصيات" السلطة على امتداد مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي ولحد الآن. إذ ليست المحاصصة والوفاق وما شابه ذلك سوى الوجه المحسن والمنمق والملون لقبح الطائفية والجهوية والفئوية والعرقية – أي لكل أشكال البنية التقليدية. من هنا الانهماك فيها مع كل خطوة تخطوها القوى السياسية والدولة صوب التكامل بمعايير الوطنية والاجتماعية. وإلا فماذا يعني الدفاع عن الأقلية في ظرف يحتاج العراق فيه إلى بناء منظومة عامة تحفظ الجميع؟ غير نفسية الأقلية؟ وهو سؤال يحتوي على إجابة في حال تأمل الخطاب السياسي السائد "للأقليات" بهذا الصدد. إذ نعثر فيه على إحدى الصيغ الفاقعة لنفسية وذهنية الأقلية الطائفية والعرقية! بمعنى انه يمثل التيار الذي يغلّب الفكرة الضيقة على الفكرة العامة (الوطنية). من هنا تحول نفسية وذهنية المؤامرة الصغيرة إلى فعل المغامرة السياسية، التي أدت ويمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج معاكسة لما كان يجري التخطيط له. وذلك لأن هذا النمط من المكر السياسي لم يعد بإمكانه العمل والفعل بالطريقة التي كانت ممكنة في مجرى السنوات الست التي تلت سقوط الدكتاتورية الصدامية.

إن طبيعة ومستوى ومسار الفرز الاجتماعي والسياسي والفكري قد اخذ يسير باتجاه، رغم تعرجه، صوب بلورة فكرة الدولة ومركزيتها وضرورة سيادة القانون وتذليل تركة الماضي. من هنا لم يعد بإمكان مناهضة وانتهاك القانون باسم القانون سوى مغامرة غير مجدية. وذلك لأنها لم تعد تمتلك تلك الأرضية التي جعلت في وقتها من الممكن أن تصبح المحاصصة والتوافقية "نموذجا ديمقراطيا". فقد كشفت عما فيها من خلل جوهري يتعارض مع المسار الضروري للدولة الحديثة. من هنا لم يكن التمسك بفكرة الأقلية سوى التعبير عن بقايا وتأثير وفاعلية نفسية وذهنية الأقلية. وهي بلا آفاق. والقضية ليست فقط في أن الأقلية كيان ما قبل تاريخي، بل ولأنه كائن غير قابل للتطور. فالأقلية حاملة الأزمة والانغلاق والقيم السقيمة. وهي التجسيد الفعلي للضيق والعجز عن الاندماج بمعايير المواطنة والحرية. من هنا لم يعن الدفاع عن الأقلية سوى الدفاع المبطن عن فكرة المحاصصة والتوافقية. وذلك لأن الإصرار على قيمتها لا يعني سوى الإصرار على بقايا وسيادة الجزء على الكلّ. كما أنها تشكل احد مظاهر النزعة التقليدية والانحطاط المادي والمعنوي حالما يجري رفعها إلى "فكرة سياسية" و"قانونية". وذلك لما في هذه الممارسة من خداع ظاهر ومستتر. وذلك لأن الأقلية بالمعنى "القانوني" المغامر يجعل منها لعبة المكر السياسي. كما أنها تحتوي من حيث مقدماتها ونتائجها ووسائلها على نكوص عن مبادئ المواطنة، والحقوق، والوطنية، والعقلانية، والديمقراطية. ومن ثم تتعارض مع فكرة المستقبل. بينما حقيقة العراق هو مستقبل فقط من اجل الخروج من أزمته التاريخية الطويلة والعليلة. وإذا كان بالإمكان الحديث عن أقلية جيدة فهي الأقلية الثقافية، أي المندمجة بمعايير المواطنة والعقلانية والديمقراطية والحقوق. وما عداها هي مجرد لعبة المكر السياسي وهواجسه المغلقة، وذلك لأنها محكومة بهموم خربة لا علاقة لها بالدولة الشرعية والمجتمع المدني وفكرة الحق والحقوق.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم