آراء

التفسير الفلسفي- السياسي لثورة 25 يناير المصرية (4)

محمود محمد علي (العوامل الخارجية – البرانية) (ب)

نعود وننهي حديثا عن التفسير الفلسفي- السياسي لثورة 25 يناير المصرية، حيث نكمل حديثنا عن العوامل الخارجية – البرانية لتلك الثورة، وفي هذا نقول  وفي عام 2009 دشنت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس باراك أوباما هذه الفوضي من خلال خطابه الشهير بجامعة القاهرة ليعلن بشكل مضمر وغير واضح المعالم علي مصالحة الولايات المتحدة لجماعة الإسلام السياسي وبالأخص جماعة اخوان المسلمين دون ذكر اسمهم، وفي عام 2010 أعلنت عن مشروع تغيير الأنظمة العربية الوطنية والقومية وأن يحل بدلا منها جماعة الإسلام السياسي؛ حيث دعت إلي إتباع مختلف السبل لتغيير الأنظمة عبر تحريك الشارع من خلال وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني من أجل التأثير على الرأي العام، وقامت ضمن هذا الجانب أيضاً بإعداد الدورات والتدريبات داخل الولايات المتحدة وخارجها للشباب المتطوع، من خلال منظمات المجتمع المدني، فبادرت الولايات المتحدة الأمريكية بتسخير نخبة من المستشارين من كلا الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) للبحث في موضوع الدبلوماسية العامة في البيت الأبيض، وانشاء مكتبات، ومراكز معلومات، وسعت إلى ترجمة المزيد من الكتب الغربية إلى اللغة العربية، وعملت على زيادة المنح الدراسية والزيارات، وتدريب المزيد من الناطقين بالعربية والمتخصصين بالعلاقات العامة.

وضمن هذا السياق قامت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات بالولايات المتحدة بتوزيع منشورات، تعلن من خلالها عن منح للطلاب الجامعيين "المهتمين بمحاربة التهديد الإرهابي للديمقراطية"، ويتم ذلك من خلال عقد حلقات دراسية وتدريبية، يتم تدريب الطلبة فيها على كيفية قيادة الاحتجاجات، والمشاركة في الأحداث التي تروج للديمقراطية، والحرية، وتوسيع المشاركة السياسية، والمطالبة بالتغيير والإصلاح، كما تسعى المؤسسة إلى جلب الخبراء والمسئولين إلى الجامعات لإلقاء المحاضرات التي تشجع الطالب على المطالبة بالتغيير والديمقراطية.

كما عملت الولايات المتحدة الأمريكية على استغلال الأوضاع الداخلية في الدول العربية ووظفتها من أجل إنجاح مشاريعها في المنطقة، فبدأت بصرف الملايين من الدولارات على برامج الحرية واصلاح التعليم ودورات تنمية مهارات الشباب وتدريبهم .

إن من أهم الأساليب التي اتبعتها الولايات المتحدة في تحريك الاحتجاجات، هو مساندتها لشريحة واسعة من الشباب العربي من خلال تدريبهم على مفاهيم الديمقراطية، بهدف استثمار هؤلاء الشباب الذين وجدوا في السياسة الأمريكية الناعمة ما فقدوه في الأنظمة المتحجرة في بلادهم والدفع بهم لتغييرها، حيث استغلت الولايات المتحدة الأمريكية شوق الشعوب العربية إلى الحرية ورغبتها في التخلص من الفساد والدكتاتورية والأوضاع السيئة التي تعيشها، لذلك شرعت بالعمل منذ عام 2008م مع عدد من المنظمات المدنية من أجل تنظيم الجهود الشعبية للمعارضة، وتم دعوة العديد من الناشطين إلى دورات تدريب، تحت مسميات حقوق الإنسان والتثقيف المدني للعمل السلمي وغيرها، وهذا ما أكدته صحيفة "الديلي تلغراف" وجود ثمة نماذج من أنظمة سياسية عربية كانت قد صاغتها هذه التوجهات وأدت إلى تفكيكها وهي (ليبيا ومصر) .

وهنا جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون "، في عهد الرئيس باراك أوباما لتعلن  في حفل تسليم جوائز المعهد الوطني الديمقراطي الذي افتتح منذ 2010م فروعاً له في عدد من المدن العربية إن " قادة المعهد كانوا يحولون الشتاء العربي إلى ربيع في الوقت الذي كانت الشوارع العربية هادئة وصامتة "، وأضافت " الربيع العربي ليس ثورتنا، ولكن كان لنا دور فيه" وتابعت تقول " لقد أنذرنا الحكومات العربية قبل حدوث الربيع العربي في مؤتمر الدول الثماني G8 الذي عقد في الدوحة أواخر عام 2010 م، بأن أسس المنطقة تغرق في الرمال، وأنه لا بد من الاصلاح والديمقراطية" وتطرقت لمخاطر العملية " لا يمكننا تفويت فرصة الاستثمار في الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي رغم وجود مخاطر واحتمالات لأن تحدث أمور صائبة أو خاطئة، والولايات المتحدة الأمريكية لها مصلحة وطنية فعليه بتغيير الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأن معادلة التطور، أو الاستقرار التي فرضتها الأنظمة الديكتاتورية وقبلتها سابقاً الولايات المتحدة تحولت اليوم إلى معادلة الإصلاح أو الاضطرابات .

ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث عن مفردة الربيع العربي تكون حديث الصباح والمساء في الدراسات والمقالات الأمريكية، حيث نشرت مؤسسة راند Rand البحثية التابعة لبنتاجون عام 2012م، دراسة مكونة من "250 صفحة "تحت عنوان " آفاق الديمقراطية في العالم العربي " Prospects for democratic transformation in the Arab world، أعدها الباحث الأمريكي الشهير " لوريل ميللر " Laurel Miller و6 باحثين آخرين أكثرت من استعمال مفردة " الربيع العربي" وربطته بــ" التحولات الديمقراطية العالمية " وحللت الأسباب الأمريكية لدعمه .

في هذه الدراسة تم التعامل مع الحراك العربي منذ 2011 م ؛ وبالأخص ثورة 25 يناير المصرية، على أنه تمثل عملية تشتمل على مجموعة من الأنشطة المتفاعلة أو المترابطة التي تحول المدخلات إلي مخرجات ". والعملية ترتبط بالضرورة بمشروع، وتشكل إحدي عملياته، فلها بداية ولها نهاية، ولها استراتيجيات، ولها أدوات وبرامج ومراحل، وأهداف وسياسات وجهات للتنسيق والتمويل وإدارة الموارد، ولا بد من مدخلات تفضي بعد توظيفها إلي  مخرجات (45).

أما مدخلات "  (Inputs)  "ثورة 25 يناير" والتي انبعثت من رحم الربيع العربي فهي وفق الآتي:

1- وضع التصور السياسي للمرحلة الانتقالية المصرية وقد أنجز في 21/1/2010 قبل سنة من الثورات مع انتهاء معهد السلام الأمريكي من مشروع " دعم الأمن والديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير" بمشاركة عدد من الخبراء العرب.

2- الانتهاء من تدريب آلاف النشطين المصريين، وتبليغهم في مؤتمر سري بقرب بدء المرحلة الانتقالية، وذلك في شهر سبتمبر من عام 2010م (قبل شهرين من الثورات).

3- تسخين الأرضية السياسية المصرية، وتحضير مزاج الرأي العام العربي، لتقبل هذه العملية، من خلال نشر وثائق ويكيليكس  WikiLeaks، عن فساد وديكتاريورية الأنظمة العربية، وتم ذلك في شهر ديسمبر من عام 2010 م ( قبل الثورات العربية بشهر).

4- دفع الناس والمعارضات المصرية للنزول إلى الشوارع، لاحتلال الميادين العامة ؛ وبخاصة ميدان التحرير، وكان أول من تحرك في الشوارع العربية، القوي، والمنظمات الشبابية، والليبرالية المدربة أمريكياً، وتمت الاستفادة من حادثة إحراق الشاب "محمد البوعزيزي" في تونس (وهي ليست أول حادثة من نوعها، تتكرر شهرياً في تونس).

5- بدء نزع الشرعية عن نظام حسني مبارك، ودفع رؤساء وقادة النظام للتنحي وتسليم السلطة، عبر حياد الجيش المصري؟

6- وقف العمل بقوانين الطوارئ، وحل وزارات الداخلية، والشرطة، وتسليم دفة الملف الأمني للجيوش.

7- تعيين مجالس الحكومة الانتقالية، لإدارة البلاد وتحضير المرحلة الانتقالية.

8- المباشرة بتغيير الدساتير المصرية عبر المجالس التأسيسية .

وأما عن مخرجات العملية outputs " لثورة 25 يناير فهي كالتالي:

أ- إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وإفراز مجموعة من القوي الجديدة متحالفة مع الإدارة الأمريكية.

ب- تطبيق العدالة الانتقالية Transitional Justice في محاسبة قادة ورجالات الأنظمة السابقة، برفع دعاوي قضائية لإدانة وتجريم قادة ورموز المرحلة السابقة وتجريدهم من أموالهم.

ج- بدء الانتقال إلى منظومة إقليمية جديدة تضم نظماً مصرية جديدة تأخذ ثوب إسلامي تتجاوز النظم السابقة شكلاً لا مضموناً، وتحافظ على المصالح الأمريكية والغربية والصهيونية.

وقد يتساءل البعض لماذا تعاملت الولايات المتحدة مع ثورة 25 يناير على أنها تمثل عملية وليس ثورة؟، وذلك لعدة أسباب منها :

1- أن العملية تستبطن مشروعا له استراتيجيات وأدوات تنفيذية.

2- تحضير مسرح الأحداث والأدوات التنفيذية لإنجاز العملية لخدمة المشروع.

3- إدارة العملية قبل وأثناء وبعد حدوثها مع قدر كبير من التحكم والسيطرة.

4- أن السياق الدلالي لمفردة " عملية" كشفت لنا بالأدلة والوثائق كيف أن الإدارة الأمريكية توقعت هذه الثورات وسعت لإدارة أدواتها على الأرض قبل حدوث العملية.

أما الثورة فتتضمن: المفاجأة والعفوية...عدم التوقع- قيادة ثورية ... وإلا صنف هذا الحراك على أنه احتجاج أو انتفاضة - مشروع ثوري شامل للتغيير السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وليس مجرد رفع شعارات مطلبية أو الإحاطة بقادة ورؤساء النظم والإبقاء على هياكلها .

وحينما تفجرت 25 يناير في الشوارع والميادين المصرية، كان الهدف الرئيس لها، أيا كانت الشعارات التي حملتها، هو إسقاط نظام حسني مبارك والذي لم يعد يمثل "النظم غير الحليفة للولايات المتحدة والتي يطلقون عليها بالنظم الاستبدادية التي حكمت تلك الدول طويلاً، وبأساليب مختلفة، تم التمكن بالفعل من إسقاط أربعة من تلك النظم، لتدخل مصر وغيرها من دول الربيع العربي بعدها مراحل جديدة، والتي تم الاعتياد على وصفها بـ "الانتقالية"، التي يفترض أن تشهد الترتيبات الخاصة بإقامة النظم الجديدة، على أسس مختلفة، تحقق أهداف تلك الثورات في "جمهوريات أفضل".

لكن ما حدث هو أن المخاوف النظرية، التي تشير- من واقع خبرات سابقة- إلى أن الانتقال إلى نظم ديمقراطية حقيقية ليس سهلا، وأن أشباح عودة الاستبداد، أو انتشار الفوضى، تمثل احتمالات قائمة، قد تصاعدت مع الوقت، وأصبحت هناك أسئلة مقلقة بشأن المستقبل.

وخلاصة القول فإن المؤيدين لهذا العامل الخارجي- البراني لثورة 25 يناير المصرية، القائم علي فكرة المؤامرة، إنما يعود تأصيله فلسفيا إلي نظرية الدومينو التي ظهرت في الخمسينات في الولايات المتحدة وتقول بأنه إذا كانت دولة في منطقة معينة تحت نفوذ الشيوعية فإن الدول المحيطة بها ستخضع لنفس النفوذ عبر تأثير الدومينو. وقد طرح الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور نظرية الدومينو في خطاب شهير ألقاه في عام 1954.

وتقوم هذه النظرية في إطار التخطيط الاستراتيجي الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية وسعى إلى تطبيقها الرئيس إيزنهاور مع نشوء أزمة الهند الصينية في 1954 بعد هزيمة الفرنسيين في معركة دين بيافو، وصعود الشيوعيين إلى الحكم وأعادت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتبار لهذه النظرية في 60 القرن العشرين لمجابهة المد الشيوعي ولكنها اضطرت للتراجع ويمكن ملاحظة العلاقة الاستراتيجية بين نظرية الدومينو والتخطيط الاستراتيجي العسكري في الحروب الكبرى، حيث تتسم بالسيطرة على مواقع بعيدة عن ساحة القتال من أجل تفادي سقوط مواقع لمجاورة وإبعاد مخاطر تحركات العدو.

وتفترض هذه النظرية وجود قوة خارجية قادرة على زعزعة حالة الاستقرار القائمة بين مجموعة متجاورة من الكيانات المنتظمة في ترتيب معين، مشكلة نظام ما، وتفترض أنه بمجرد نجاح تلك القوة في زعزعة استقرار أي من تلك الكيانات بدأ موجة من عدم الاستقرار تمس كل عنصر من عناصر النظام، الواحد تلو الآخر، ولهذه الموجة سرعة في الانتشار تتأثر بمدى توافر قدرة ذاتية لدى العناصر التي تسقط أولاً على تعزز انتشار أثر الموجة. ومن شروط تحقق هذه النظرية أن تكون المسافة الفاصلة بين الكيانات المكونة للنظام متساوية وأن تسقط بسرعة معينة وأن يكون لدى الكيانات المكونة للنظام استعداد للتأثر بالموجة. وقد استخدمت هذه النظرية في دراسة الظواهر الطبيعية والتفاعلات الكيميائية .

والمتتبع لمسار ثورة 25 يناير يستنتج تأثير الدومينو في انتشار الاحتجاجات الشعبية في مصر، وكانت هذه النظرية هي السبب الأساسي لوقوف الولايات المتحدة في مواجهة أي تغيير ديمقراطي في دول أمريكا اللاتينية التي كانت تعتبرها فناء خلفيا لها، ووقفت بالتالي في مواجهة التحولات الاجتماعية والسياسية في هذه الدول.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم