آراء

المرتزقة الجدد والمخطط الأمريكي لتفتيت العراق (2)

محمود محمد عليسياسة الصدمة الثلاثية

لم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل قررت في عام 2003 أن تغزو العراق في معركة سميت بـ "معركة الحواسم"، أو حرب الخليج الثالثة (حرب العراق أو احتلال العراق أو حرب تحرير العراق أو عملية حرية العراق) هذه بعض من أسماء كثيرة استعملت لوصف العمليات العسكرية التي وقعت في العراق سنة 2003م، استمرت من 19 مارس إلى 1 مايو 2003، والتي أدت إلى احتلال العراق عسكريا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدة دول أخرى مثل بريطانيا وأستراليا وبعض الدول المتحالفة مع أمريكا حسب تعريف مجلس الأمن لحالة العراق في قانونها المرقم 1483 في 2003م، وانتهت الحرب بسيطرة الولايات المتحدة على بغداد .

نفذت الولايات المتحدة عند غزوها العراق عام 2003 سياسة الصدمة الثلاثية، فكان الاحتلال أولا، ثم صدمة الغزو ورعب وإرهاب الشركات الأمنية الخاصة، وعند قراءة الدليل العسكري توضح نظرية الصدمة والروعة، أن الكثير من الناس يعتبرونها مجرد ألقاء الكثير من القنابل والقذائف الصاروخية، لكنها في الحقيقية عقيدة سيكولوجية أو نفسية، وهي بحد ذاتها جريمة حرب لأنها تقوم وبشكل صريح جدا: " بأن حرب عام 1990 هدفها الهجوم علي البناء التحتي العسكري لصدام، ولكن أثناء حملة الصدمة والروعة عام 2003 هدفها ترويع المجتمع العراقي بصورة عامة .

وقد جاء هذا الترويع من قبل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي استقطبتهم إدارة الرئيس بوش (الابن)، حيث يذكر "شون ماكفيت" (المتخصص فيظاهرة خصخصة الحروب والأمن في النظام الدولي المعاصر) أنه :"مع تطورات الحربين، تزايد اعتماد الولايات المتحدة علي الشركات الخاصة في العمليات العسكرية هناك، خاصة مع الاعتقاد المسيطر علي القيادة الأمريكية آنذاك بأن الشركات العسكرية الخاصة ستساعد الولايات المتحدة في توسيع وجودها العسكري بوتيرة متسارعة وبتكلفة أقل، ويدلل ماكفيت علي هذا الأمر بالإشارة إلي تعاقد إدارة جورج دبليو بوش مع نصف المقاتلين في العراق من الشركات الخاصة، فيما وصلت نسبتهم في أفغانستان إلى 70 ٪ .

وبعد تحقيق هذا النجاح الجزئي ارتفعت الأصوات في الحكومة ووزارة الدفاع ووكالات المخابرات الأمريكية لتنفيذ نظرية خصخصة الحروب كاملة، وذلك لتخفيض من خسائر الجيش الأمريكي البشرية، أما الخسائر المالية فثروات الشعوب، التي تم الحصول عليها وامتلاك أراضيها ونهب خيراتها كافية لتسديدها، ولم تختصر الدعوة لتنفيذ نظرية خصخصة الحروب علي القادة العسكريين الأمريكيين فحسب بينما ناشد السياسيين (شيوخا ونوابا وصحفيين وكتاب) لتنفيذ هذه النظرية، حيث ناشدوا الكونجرس إلي مراقبة الاعتمادات المالية الكبيرة لتمكن من استئجار العديد من الشركات الأمنية العسكرية الخاصة لخدمة العمليات العسكرية في العراق وغيرها من العمليات العسكرية القادمة

وتعد الدعوات الخطرة هو ما لخص من نظرية خصخصة الحروب، التي اقترفها الجناح اليمني المتعصب في الولايات المتحدة وهم المحافظون الجدد، والتي ترتكز علي مقولة خطيرة تقول :" إن الوجود القوي للمرتزقة يغير مستقبل أمريكا، ويسمح بشن الحروب دون توقف " . كما ناشدوا مثقفوا الرأسمالية إلي استرجاع توصيف المرتزقة من جنود مستأجرين من أراذل البشر بالمال لخدمة مطامع الآخر إلي توصيفات أخري، ويتم تسويقهم سواء بالداخل أو الخارج تحت أسماء كثيرة منها ( الجنود الخصوصيين) أو ( المتعاقدون المدنيون) أو ( المقاول)

وقد ازدادت قدرات الشركات الأمنية الخاصة من خلال الدعم المالي الذي يهدف لشراء الكثير من المرتزقة وشراء الأسلحة الحديثة، ومن أجل العمل علي تحقيق أهدافها في أي دولة كانت، لأهداف معينة تبرز في الاحتلال أو إسقاط نظام سياسي لتلك الدولة

ويذكر "باسل يوسف النيرب" في كتابه المرتزقة ... جيوش الظل، أن :" حرب العراق غيّرت كل شيء، وأصبح الجنود المحترفون سلعة مطلوبة تُدفع لهم الأموال الطائلة لقاء بعض الخدمات التي لا ترغب الدول الكبرى أن تنجزها بنفسها، إما خوفاً على حياة جنودها أو حتى يستفيد القائمون على توريد السلاح من تلك الشركات"

وينقل لنا "باسل يوسف " في فصل: (التحالف العسكري الصناعي) دور الشركات الكبرى في التحالفات التي تقودها للعمل في شركات توريد الأسلحة، وما سجّله الصحفي الأمريكي (جوناه غولدبيرغ) في (الناشيونال ريفيو): "إن الولايات المتحدة كل عشر سنوات أو نحوها تحتاج إلى الإمساك ببلد صغير ومتداعٍ وتقذفه إزاء الحائط، فقط لكي تظهر للعالم أنها تعي وتفعل ما تقول، ومن هنا فقد حاربت الولايات المتحدة العراق، لأنها بحاجة لجهة ما تحاربها في المنطقة، والعراق كان هو الخيار الأمثل"

وهناك الكثير من المرتزقة الذين يعملون في الشركات الأمنية الخاصة لا ينتمون إلي جنسية واحدة، بل يمتلكون عدة جنسيات، فأشارت العديد من المصادر البحثية إلي جنسيات المرتزقة الذين قاتلوا في العراق في عام 2003، فقد كانوا من الأمريكيين التابعين لشركات الحماية الأمنية الأمريكية، ومن تشيلي ونيبال والسلفادور وكولومبيا وهندراوس وأسبانيا وأيرلندا والبرازيل وبولندا

وفي العام الثاني من الاحتلال الأمريكي للعراق، دخل مرتزقة جاءوا من لبنان، وروسيا، وجنوب إفريقيا، وسيراليون، ومن دول إفريقية، ثم جاء مرتزقة من كرواتيا، والصرب، ومن دول شرق أسيا، ومن بعض الدول الأوربية الشرقية، وكان الأفضلية للمرتزقة هم من الروس الذين اكتسبوا خبرة قتالية في أفغانستان والشيشان، وبذلك نري أن المرتزقة ينتمون إلي معظم بلدان العالم

وهناك عمليات احتيال في العقود التي تبرم مع المرتزقة من قبل إدارة الشركات، فيتم  الاتفاق معهم  علي مهام معينة، ولكن بعد أن ينتقل إلي المكان المتفق عليه، فيجد نفسه قد كلف بمهام غير واردة في العقد، فلو عرضت عليه قبل تجنيده لرفضها، لما تشكل من خطورة علي حياته

وقد ذكرت بعض الصحف الروسية بعض التصريحات لضابط روسي، كان يعمل مرتزقا في العراق، وكان يعمل في قوات المظليين في روسيا، بعد أن تم تسريحه من الجيش، ذهب إلي احدي شركات المرتزقة للعمل فيها، فعرضوا عليه عمل مغري في العراق، وكان نوع العمل هو مصاحبة قوافل المساعدات الإنسانية، وحراسة المنشآت النفطية للشركات الأمريكية، أو بعثات المنظمات الدولية . وقد اكتشف أنه تم الاحتيال عليه، فقد كان العمل في الواقع مجرد غطاء، يقوم بأعمال أجبر علي تنفيذها، مثل : القيام بأعمال الاستطلاع، وتمشيط الأحياء السكنية في المدن، بحصاً عن المقاتلين، والتفتيش علي الحواجز

وذكر الكاتب الأمريكي " جريمي سكاهيل " في كتابه " جيش المرتزقة الأقوى في العالم "، أن شركة " بلاك ووتر" أرسلت إلي العراق 1000 مرتزق، ممن ساعد في قوات الجنرال التشيلي " خوسيه ميغل بيثارو اورايه" الذي قاد  عمليات المطاردة والقمع للقوة اليسارية في تشيلي، بينما انتقل الجنرال "بيثار اوبايه" من تشيلي، ليعمل مترجما في قيادة الجيش الأمريكي، ثم انتقل ليكون وسيطا لشركات الأسلحة في الولايات المتحدة، وليعمل في الشركات الأمنية الخاصة  وكيلا عنها في تجنيد المرتزقة في 12 بلدا في أمريكا اللاتينية

قامت شركات المرتزقة باستغلال الفقراء الباحثين عن تحسين أحوالهم، فأعلنت القيادة العسكرية الأمريكية بمكافئة المرتزق من الدول الفقيرة، والراغب في الهجرة إلي الولايات المتحدة، بأنه تطوع للعمل في القوات المسلحة الأمريكية في المناطق الساخنة،  كأفغانستان، والعراق، والقيام بما يطلبه من أعمال قتالية في تلك المناطق، فتقوم الحكومة الأمريكية بمكافئة ذلك المجند بمنحة فرصة الحصول علي الجنسية الأمريكية، فيتم قبوله بالجيش الأمريكي وذلك يسمي " البطاقة الخضراء"، يستخدمها خلال خدمته القتالية، وتقوم بمنحه الجنسية الأمريكية، بعد أن يثبت إخلاصه لأمريكا. وتحت هذا الإغراء أقبل الكثير من فقراء العالم للتطوع في القوات المحاربة الأمريكية

ويستعرض " باسل يوسف النيرب" في كتابه (المرتزقة جيوش الظل) آلية عمل شركات الارتزاق، فيقول: "عندما تفشل الحكومات، وتسود الفوضى، ويعم غياب القانون، يطفو على السطح قطاع جديد يأخذ في الازدهار، هو قطاع شركات توريد الأسلحة وعناصر المرتزقة، وهي الشركات التي ذاع صيتها، وتوسّعت بشكل رهيب، منذ التسعينيات من القرن الماضي. ويشير مصطلح الارتزاق الاستثماري إلى التعبير عن ظهور حروب من نوع جديد أدت إلى إضعاف دور الدول الكبرى على الساحة الدولية بسبب خصخصة العنف، وهذا الفعل أدى إلى ظهور الشركات الخاصة التي توفّر مادة الحروب المتواصلة، وكذلك ظهور شركات توريد الأسلحة".

ويؤكد المؤلف أن حرب العراق غيّرت كل شيء، وأصبح الجنود المحترفون سلعة مطلوبة تُدفع لهم الأموال الطائلة لقاء بعض الخدمات التي لا ترغب الدول الكبرى أن تنجزها بنفسها، إما خوفاً على حياة جنودها أو حتى يستفيد القائمون على توريد السلاح من تلك الشركات

وينقل لنا المؤلف في كتابه مقولة لـ (وليم أولتمان) تصف عمل المرتزقة، فهم: "يمارسون أعمالاً لا تخطر على بال، وأخطر بكثير مما يفعله الجنود النظاميون، ولا ينطبق عليهم ما ينطبق على البشر، لأنهم بلا مشاعر أو ضمائر، ومن أين تأتي الضمائر لبشر مهنتهم القتل مقابل المال".

ويرصد المؤلف تنامي استخدام المرتزقة في مناطق الصراع، إما حفاظاً على حياة الجنود النظاميين، أو لأن الجنود النظاميين غير قادرين على الإمساك بزمام الأمور والسيطرة على المناطق الملتهبة، وحتى عندما يُقتل (المرتزق) أو يُسحل في الشوارع ويحرق، أو حتى يقع في الأسر، فلا أحد ينعاه، أو يجمع رفاته، أو حتى يفاوض من أجل إطلاق سراحه .

إن هذه الشركات اليوم تشكل خطرا علي حرية الشعوب واستقلالها وثرواتها، من أجل تحقيق مشاريعها الإمبريالية من دون خسائر بشرية، أما الخسائر المادية فيكون تعويضها علي حساب ثرواتها المحتلة، والعراق أنموذجا . كما أن الخطر علي الوطن العربي يأتي من التغاضي والتساهل، الذي تبديه عدد من الدول العربية بالسماح لمئات شركات الحراسة بالانتشار فيها، والتي قد تتحول إلي مخلب للقوي الطامعة ضدها .

ويؤكد المؤلف في مجمل كتابه أن المرتزقة في العراق يمارسون بطريقة روتينية أعمالاً تُعدّ مخالفة للقوانين الدولية والقوانين العسكرية الأمريكية التي تحكم قواعد الاشتباك والسلوك أثناء الحرب وبعدها بالمناطق المحتلة، منها على سبيل المثال ما كشفت عنه صحيفة (آرمي تايمز) من أن المرتزقة كانوا يستخدمون طلقات خارقة للدروع، وذات اختراق محدود من صنع شركة (RBCD) في (سان فرانسيسكو)، وهذه الطلقات حُرمت من الجيش الأمريكي بسبب ما تحدثه من رعب ومعاناة غير ضرورية ودمار داخل جسم الإنسان، حيث تفتت الأعضاء الداخلية من الجسم، وقد ذكرت الصحيفة أن هذا النوع من الذخائر أثار جدلاً واسعاً، حيث إن (المرتزق)، والذي كان في السابق جندياً في فرقة القوات الخاصة إذا ما استخدمها أثناء خدمته العسكرية فإنه كان يعرّض نفسه للمحاكمة العسكرية بسبب ذلك، لأنها تخالف المعايير الموضوعة، ولم تحصل على إجراءات موافقة الجيش، أما عند استخدامها من قاتل أجير مرتزق، فلن يجد من يوبّخه على هذا العمل بل ربما يجد الثناء.

ويوضح المؤلف كيف أن سجن (أبو غريب) يُعد نموذجاً سيئاً لعمل المرتزقة (أبو غريب نموذجاً للمرتزقة)، ففي أوائل العام 2004م، قام بعض عملاء شركتي (كاسي انكوربوريشن)، و (تيان كوربوريشن) بإساءة معاملة سجناء عراقيين؛ وهاتان الشركتان تقومان بإمداد قيادة قوات التحالف بمئات ممن يشاركون في التحقيقات كعناصر "تحت التعاقد الخاص"، وكان آخر عقد وقع في هذا السياق مع شركة (تيتان) بقيمة (172) مليون دولار لتزويدها بعناصر من المرتزقة موزعين على مجموعة من المهام ضمن (قائمة مشتريات) تقدمها القيادة، أي عدد معين من عناصر الأمن، وعدد آخر من المترجمين، وثالث من خبراء الاستجواب ... وهكذا. .

ولا يخضع العاملون في الشركات الخاصة للقانون العسكري الأمريكي، ذلك أنهم ليسوا من مجندي القوات المسلحة، وهم لا يخضعون أيضاً للقانون المدني الأمريكي، لأن هذا القانون لا يطبق في العراق، فضلاً عن أنهم لا يخضعون للقوانين العراقية التي تُعدُّ معطلة في هذه الحالة الاستثنائية، وجاء في تقرير نشر في واشنطن أن هناك "17" عنصراً يعملون لشركات خاصة تم إبعادهم من السجن بعد نشر صور التعذيب، وإبعادهم هذا لا يمثّل عقوبة من أي نوع، كما أن العالم لم ينتبه إلى هذه القضية لسبب واحد، وهو أن هذه العناصر المرتزقة كانت تطلب عدم تصوير ما يفعلون، من هنا فإنه لا وجود لدليل مادي على ما ارتكبوه بحق السجناء، رغم أن ما يقال عن المرتزقة إنهم لعبوا دوراً أكثر شراسة وقسوة مما فعله العسكريون الذين تم التقاط صورهم .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل.

..........................

المراجع

1- أحمد أنور صيتان العزام: دور الشركات الأمنية المتعددة الجنسية في الحروب والصراعات العسكرية في الوطن العربي (2003- 2015) : دراسة في حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب – جامعة اليرموك، الأردن، 2016.

2- محمد الألفي : الشركات الأمنية العسكرية، بحث منشور بمجلة السياسة الدولية، 10/10/2017.

3- د. حسن تركي عمير : الشركات الأمنية الخاصة وهندسة الرعب في العراق، بحث منشور ضمن المجلة العربية للدراسات السياسية والأمنية، العدد الأول : آذار / مارس، 2016 جامعة علي لونيسي – البليدة 2، الجزائر، ودار أمواج للنشر والتوزيع، الأردن.

4- ضيا ميان : القوات الأمريكية تتفكك، المستقبل العربى، مج 28،ع 3، لبنان، 2005.

5- باسل يوسف النيرب : كتابه المرتزقة ... جيوش الظل، مكتبة العبيكان، السعودية، 2008.

6- بدر حسن شافعي : إشكالية العلاقة بين الجيوش الوطنية والشركات العسكرية الخاصة، بحث منشور ضمن كتاب الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، الدوحة، قطر، 2016.

7- جيرمي سكاهيل:بلاكووتر- أخطر منظمة سرية في العالم، ترجمة، تحقيق فؤاد زعيتر، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2007.

8- شون ماكفيت: المرتزقة الجدد- الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي، ترجمة إبراهيم البيلي محروس وآخرون، مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، 2016.

 

 

 

في المثقف اليوم