آراء

كيف تقرأ خريطة القوة بالعالم في حقبة ما بعد كورونا؟

محمود محمد عليمصائب قوم عند قوم فوائد، فالضرر الذى يلحق بطرف قد يكون له فائدة كبيرة عند أطراف أخرى. هكذا تقول التجربة الصينية.. عندما عصفت أزمة جائحة كورونا بالعالم ظهرت أغلب مساوئ الأنظمة الحاكمة في مختلف البلدان من جهة، ومساوئ النظام العالمي القائم منذ عقود من جهة أخرى في التعاطي الداخلي والخارجي في مثل هكذا أزمات عابرة للحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية، حتى اقترب النظام العالمي من حالة شبه فوضوية غير مسبوقة وشلل تام على المستوى الاقتصادي والسياسي والتعليمي والتنقل والعمل، فضلاً عن فشل نظام الرعاية الصحي للدول المتقدمة في احتواء الأزمة أو التقليل من خطرها داخل بلدانهم أو مساعدة الدول الأكثر فقراً وتخلفاً للوقوف بوجه هذه الجائحة العالمية ، وذلك كما قال باسم حسين الزيدي في مقاله بعنوان التكافل الإنساني والنظام العالمي الجديد .

وقد تنبئ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والدبلوماسي المخضرم "هنري كيسنجر"-  (عراب السياسة الخارجية في حقبة الحرب الباردة) ، أن تغير جائحة كورونا النظام العالمي للأبد، وأن تستمر تداعياتها لأجيال عديدة؛ وفي مقال له بصحيفة "وول ستريت جورنال"، قال  كيسنجر إن الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة..

واعتبر كسينجر أنه "لا يمكن لأي دولة، حتى وإن كانت الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض، وأن التعاطي مع الضرورات المستجدة الآن ينبغي أن يصاحبه وضع رؤية وبرنامج لتعاون دولي لمواجهة الأزمة"، مضيفا أن "الإخفاق في العمل على المحورين في آن واحد قد تترتب عليه نتائج سيئة"..

كما لفت كسينجر في هذا المقال إلي ملمح أن راه مؤشراً علي تغييرات قد تطرأ علي النظام العالمي، وهي أن القادة في العالم يتعاملون مع أزمة فيروس كورونا إلي حد كبير علي أساس وطني ، بينما آثار فيروس كورونا لا نحدها حدود ولا تقيدها قيود ، ما يجب أن يكون وليس بكائنا حتي الآن هي رؤية عالمية تقوم علي التعاون في مواجهة الوباء وسيواجه العالم في رأيه ما هو أسوأ من تفشي الفيروس إذا لم يحدث ذلك ، فهل تشاءم كسينجر أكثر مما يستدعيه الظرف الراهن.. لن يبدو الأمر كذلك في رأي أكثر الدول تضرراً من تفشي الوباء.. كيسنجر ختم مقاله بـ "ان التحدي التاريخي الذي يواجه قادة العالم في الوقت الراهن هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، وأن الفشل في هذا التحدي قد يؤدي إلى إشعال العالم".

وها هو منطق كسينجر يتقاطع في بعض جزئياته مع رؤية رئيس الوزراء الإسباني " بيدرو سانتشيز" ؛ حيث يري أكبر قائد دولة أوربية متضررة، من حيث أعداد المصابين أن الأمر يستدعي في أوربا بناء اقتصاد حرب وتدعيم قدرة الأنظمة الاقتصادية علي الصمود، ودعا سانتشيز إلي تدخل نقدي أوربي يشمل تشارك الديون بإصدار ما سميت بسندات كرونا، لمساعدة الدول الأكثر تضرراً وتأثرا بالفيروس علي تمويل جهودها لدرء التداعيات الاقتصادية المدمرة .

تتقاسم إيطاليا الرؤية مع إسبانيا وتطالبان مع الكبار القارة " ألمانيا وفرنسا" بإقرار الآلية الجديدة هذه التي ستمكنهما باعتبارهما أكبر بلدين متضررين من الوباء من تمويل جهودهما عبر أسواق المال تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.. البارز حتي الآن في المواقف الأوروبية إزاء هذه المطالب هو رفض من ألمانيا وهولندا بالدرجة الأولي ، فبرلين تري فيها مجرد محاولة من دول جنوب القارة لاستغلال معدلات فائدة علي القروض المنخفضة التي لا تتمتع دول موازنتها متوازنة مثل ألمانيا.. إنه جدل الأزمة ومحاولات السباق ما بعد الأزمة..

لقد كشفت حقبة كورونا أن العالم ليس متضامنا في أحوج حالاته للتضامن، فلا منظمة الأمم المتحدة، ولا الاتحاد الأوروبي برهن علي وجود عقد مشترك، وقد ضرب الوباء أعتي اقتصادات العالم، وأفضل نظمه الصحية.. ألم تكن الولايات المتحدة الأمريكية علي مدي العقود السبعة الماضية ممسكة بدفة القيادة العالمية.. متأهلة للتدخل في الأزمات الكبرى وتقديم الدعم والعون لحلفائها في أوقات الشدة والمحن.. لكنها اليوم تنكفئ علي نفسها.. مغلقة أجوائها وحدودها.. تاركة حلفاءها يخوضون وحدهم معركة غير متكافئة مع عدو غير تقليدي وغير مرئي.. هذا العدو آثاره بادية للعيان.. لا تتوقف عند الخسائر في الأرواح، بل تهدد بانهيار الاقتصاد وتقويض أسس النظام العالمي كما عرفناه.. فهل تطوي أزمة كورونا صفحة التفرد الأمريكي المطلق في قيادة العالم ؟ وهل تحمل حقاً في ثناياها بذور نظام عالمي جديد تتحول فيه القيادة شرقاً ؟

تحولات كثيرة تحدث في جميع مناحي الحياة تقريبا ، بينما ملايين الناس محاصرين في عزلة اختيارية أو اجبارية خوفا من تفشي العدوي.. ويتساءلون كيف سيكون شكل العالم بعد انحسار الجائحة ؟ ومن سيقودها ؟... تأثير كورونا إذن لن يقف عند آثاره الصحية، بل سيتجاوزها ليعيد التشكيل في الاقتصاد والسياسة بطريقة قد تنتهي بتشكيل نظاماً عالمي جديد لم تظهر ملامحه بعد بشكل واضح..

لكن مجلة فورين بولسي الأمريكية رسمت معالمه الرئيسية من خلال مقالات نشرتها لـ 12 مفكراَ ومختصاً عالمياً.. ويمكن نوضح أبرز ما تضمنته تلك المقالات : مثل مد عادي اكتسح وباء كورونا حياة البشر، وبينما هو كذلك يحصد الأرواح، وينهش الأجساد، فإنه يصيب في الآن نفسه مفاصل الاقتصاد العالمي، ولا يستثني قيم السياسة، ولا الاجتماع، والأمن، وسائر منجزات المجموعة الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.. باختصار تنذر هذه الجائحة الكونية بعواقب هائلة علي النظام الدولي وتوازناته والندوب التي ستخلفها تجعل العالم بعد كورونا مختلفا عما قبلها..

استشرافاً لتلك التحولات المتوقعة سألت مجلة فورين بولسي 12 من كبار المفكرين والباحثين في السياسة والاقتصاد ورغم تباين خلفياتهم الفكرية ، فقد تقاطعت الخلاصات الرئيسية لمعظمهم وأبرزها تعزيز دور الدولة القومية التي ستشتد قبضتها علي نحو يصعب معه تخليها لا حقا عن الإجراءات الاستثنائية المتخذة للسيطرة علي الوباء ، وقد تكون تلك التدابير علي حساب الحريات والحقوق ، كما ستهتز فكرة العولمة بعد اخفاقها في توفير بديل فعال للدولة الوطنية خلال جائحة كورونا، وإن كان ثمة من صيغة لاستمرار تلك العولمة فانتقال محورها من الولايات المتحدة إلي الصين ، وهذا بالنسبة لعدد من المفكرين سيعني تسريع تحول مركز الثقل الدولي من الغرب إلي الشرق بعد أن أظهرت دولاً مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين قدرات أفضل علي إدارة الأزمة من الدول الأوربية والولايات المتحدة.. وثمة من ذهب إلي حد القول بنظام عالمي جديد أقوي مصداقية للتعاون المشترك ، وأكثر قدرة علي التكيف السريع مع الأزمات الطارئة..

لقد أخفقت واشنطن في اختبار القيادة في ضوء ما اُعتبر تخاذلاً منها نحو أوربا والعالم وميزان القوي بعد كورونا لن يقوم علي التفوق العسكري ، وسيتعزز هذا الاحتمال أكثر إذا أُعيد انتخاب ترامب لأن الولايات المتحدة ستكون قد عاشت عزلة 8 سنوات وهي مدة كافية حسب الخبراء لتغيير النماذج علي المستوي العالمي.. اقتصاديا ستقوض جائحة كورونا المبادئ الأساسية للتصنيع العالمي بتقليص سلاسل التوريد متعددة الأطراف والمراحل التي كانت تهيمن علي الإنتاج..

وفي ظل الإنكفاء المتوقع تتقلص الوظائف وترتفع البطالة ما قد يُحدث قلاقل اجتماعية؛ لاسيما في البلدان النامية.. كان من المرجح أن تودي الأزمة إلي إضعاف التكامل الأوروبي بعد فشل الاتحاد في مواجهة الوباء بشكل جماعي.. وإذا كانت تلك السيناريوهات تبدو مجرد احتمالات فإن الوقائع التي يشهدها العالم هذه الأيام تمنحها صدقية أكثر...

فها هي البورصات العالمية تتهاوي كما لم تتهاوي من قبل.. وكذلك أسعار النفط والمعادن بسبب وقف كثير من المصانع في أنشطتها.. وبينما أساطيل الطائرات المدنية رابضة علي الأرض إلي أجل غير مسمي.. تنهار السياحة.. وتتدني التجارة الداخلية والمبادلات البينية والدولية.. فيما تتعزز تدابير الحظر والعزل وإغلاق الحدود وتعطيل حركة السفر عبر العالم..

يبقى الآن انتظار ما بعد الأزمة لتحديد أطر الصراع ومآلاتها بين أصحاب النظام العالمي الحالي وبين من يدفعون نحو نظام جديد قد يكون أكثر عدلا من سلفه..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم