آراء

سد النهضة والأبعاد الحقيقية للنزاع الأثيوبي المصري (1)

محمود محمد عليفي عام 1680 م من القرن السابع عشر هدد الملك الأثيوبي الحبشي " تكلا هايمانوت" الحاكم المصري بسلاح المياه عندما قال: " إن النيل سيكون كافياً لمعاقبتك، فحيث أن الله قد وضع في أيدينا ينبوعه وبحيرته ونماءه، ومن ثم يمكننا أن نستخدمه في إيذائكم".

قصدت أن أستهل هذا المقال بتلك الكلمة لأبين أن أزمة سد النهضة التي تتعرض لها مصر خلال السنوات الماضية ليست وليدة ثورة 25 يناير، وإنما لها أبعاد تاريخية وسياسية .

تاريخياً : كانت سياسة محمد على وأسرته هى النفاذ إلى عمق إفريقيا، وبوجه خاص إلى منطقتي حوض النيل والقرن الأفريقي، وذلك بعد إهمال طويل؛ حيث تحولت الطبيعة الاستعمارية الأوروبية في العالم وفي أفريقيا في تلك الأثناء من المرحلة التجارية، التي كان الأوروبيون يكتفون خلالها بإقامة مراكز تجارية على شواطئ البلدان، إلى المرحلة الصناعية التي كانت تتطلب الاستيلاء على الموارد الطبيعية والمواد الخام اللازمة للصناعة، على نحو دفع القوى الأوروبية للمزيد من التوغل في عمق القارة الأفريقية.

ثم تابع الخديوي إسماعيل ( 1863-1879م) سياسة محمد على، بالنفاذ إلى عمق سواحل البحر الأحمر، والاستيلاء على مينائى "مصوع وسواكن" من الدولة العثمانية، ثم النفاذ إلى منطقة "بوجوس"، فى محاولة للوصول إلى عمق الأراضى الأثيوبية والسيطرة عليها.. كما سعى إسماعيل للحصول أيضًا على ميناء "زيلع" على الساحل الصومالي من الباب العالي، مقابل دفع 15.000 جنيه سنويًّا إلى الأستانة، وكان الاستيلاء على زيلع أمرًا في غاية الأهمية لإسماعيل، لأنه يضع كل الساحل الأفريقي للبحر الأحمر تحت السيادة المصرية... في إطار تلك السياسة التوسعية سعى الخديوي كذلك للسيطرة على إقليم "بوجوس" التابع للحبشة الذي تحول إلى قاعدة للاعتداء والسلب والنهب على المناطق التابعة للسيادة المصرية حوله... أثار التوسع المصري في ذلك الحين مخاوف حكام الحبشة، وتدهورت العلاقات بين البلدين، خصوصًا بعد حدث الاستيلاء على إقليم بوجوس، الذي اعتبرته الحبشة اعتداءً على أملاكها.

وهكذا اتسمت العلاقات المصرية الإثيوبية بطابع الحساسية القومية والدينية منذ زمن بعيد، وأصبح الصراع على مياه النيل، هو نقطة التفجر الدائمة لهذه الحساسيات والتعقيدات التاريخية، وقد كانت أثيوبيا في ذلك الوقت تسمي "برج مياه أفريقيا"، وكانت لها القدرة علي التحكم في شرايين المياه التي تصل إلي السودان ومصر، وحتي منتصف القرن الماضي كانت دولة منعزلة، ضحية، تعيسة لتجارب القوي العظمي، مشغولة بمشاكلها الضخمة؛ كالتمرد، والحرب الأهلية، والتفكك، والمجاعة، والفرقة وما يشبه الدمار، وكانت حبيسة داخل أراضيها الجبلية، منعزلة، بعيدة، تنظر نحو الداخل، إلي أن استطاعت أن تستعيد أشلاءها كدولة تهدد دول المصب، خصوصاً عندما اتصلت بإسرائيل للمرة الأولي بالنظام الماركسي لـ" منجستوهايلاماريام"، وظلت محتفظة بتوازنها لكسب أية فرص لتلحق الضرر بمصر إذا كان ذلك سيحقق مصالحها (وذلك كما قال جون بولوك وعادل درويش في كتابهما حروب المياه الصراعات القادمة في الشرق الأوسط).

ينظر الإثيوبيون لنهر الآباى Abay أو النيل الأزرق علي أنه يمثل شعاراً ورمزاً للوطنية. فارتباط إثيوبيا بالآباى ارتباط روحى عميق، ويعتبرونه «الأب الأعظم للأنهار»، وينظرون إليه كقوة تدميرية طبيعية ذات قدرات للتنمية الاقتصادية نظراً لانحداره الكبير من منبعه فى بحيرة "تانا" على ارتفاع 1820 متراً فوق مستوى سطح البحر، إلى أن يصل إلى مدينة أسوان عند منسوب 200 متر فقط فوق مستوى سطح البحر.. ويعتبر الإثيوبيون أن شعب الجاش الإثيوبى Cush أو الأحباش من السود، الذين يعتبرون أنفسهم من سلالة جاش ابن هام بن نوح ومنه جاء نسل الحبشيون والإثيوبيون، أن النيل هو مهد الجنس الأسود فى أفريقيا، ومصدر الدماء الإثيوبية، والأم بالنسبة للأحباش وذلك حسب قول د. نادر نور الدين محمد في مقاله الطابع السياسي غلب الطابع العلمي فتعثر مشروع سد النهضة".

ويرجع نفوذ أثيوبيا علي النيل، في أنها تسيطر علي 11 نهراً تنبع من التلال الأثيوبية، وتعبر حدودها إلي كل من الصومال والسودان، وتبلغ مساحة حوض النيل الأزرق داخل إثيوبيا نحو 200 ألف كيلومتر مربع، ويصل متوسط تدفقاته المائية السنوية نحو 49 مليار م3 وينضم إليه قبل عبوره للحدود الإثيوبية إلى السودان نهرا «الرهد والتندر» بتدفقات 4 إلى 5 مليارات م3 سنويا وتسير معه إلى الأراضي السودانية. وبهذه الكميات فإن النيل الأزرق يعتبر الرافد الأكبر والشريان الرئيسى لنهر النيل حيث يساهم بنحو 59 – 64% من إجمالي مياه نهر النيل، فى حين يساهم نهرا عطبرة والسوباط معا بنسبة 22% وينبعان أيضا من إثيوبيا، وأخيراً يساهم النيل الأبيض القادم من دول منابع البحيرات الاستوائية العظمى الستة بنحو 15% فقط.

لذلك فطنت الدول الاستعمارية - خاصة إنجلترا وفرنسا منذ قدومها للقارة الأفريقية أن من يريد أن يسيطر ويضر بمصر، فعليه أن يسيطر على النيل الأزرق شريان الحياة فى مصر الصحراوية، والتى يعيش شعبها على ضفتى النهر فى مساحة لا تزيد على 7% فقط من إجمالي أراضيها.. فكرت فى هذا الأمر إنجلترا وفرنسا أثناء العدوان الثلاثى على مصر، سواء بمنع مياه النيل الأزرق أو الأبيض عن مصر، كما كان الأمر مصدراً للتهديد من الأمريكان والعديد من القيادات فى إثيوبيا.

واستطاعت أثيوبيا بفضل إسرائيل أن تسخر مياه أنهارها في توليد كميات هائلة من القوي الكهربائية، والتي سوف تعوضها عن نقص الأشجار. وكل ما تحتاج إليه أثيوبيا الآن، وهو الأموال والخبرة، وحتي نجد إسرائيل تقدم الأموال والخبرة وبمقابل؛ وكان المطلب الذي طلبته إسرائيل في مقابل ذلك، هو السماح للفلاشا (يهود أثيوبيا) بالهجرة إلي إسرائيل ؛ والمطلب الثاني، هو أن تأخذ أثيوبيا بمشورة إسرائيل في الوقت والمكان والكيفية التي تنشئ بها سدودها. والشئ الذي لم تعلنه إسرائيل لأثيوبيا صراحة، هو أنه من خلال مساعدتها لها في تطوير البلاد، فإنها تنتهز الفرصة أيضا لممارسة الضغط علي مصر بصفة خاصة، وعلي العرب والسودان بصفة عامة .

تنبهت مصر لذلك فبادرت في عام 1959، إلي التوقيع مع السودان، الذي حصل على استقلاله في 1956، اتفاقاً ينظم اقتسام المياه، تحصل مصر بموجبه على 55.5 مليار متر مكعب، بينما يحصل السودان على 18,5 مليار، كون العشرة مليارات الباقية من ماء النهر تضيع بالتبخر. ورغم مطالبات دول حوض النيل الأخرى، بقيت الأمور على ما هي عليه، وبقيت مصر مهيمنة على النيل.

عندما جاء الرئيس جمال عبد الناصر إلي سدة حكم البلاد في مصر، طالبت حركة تحرير إريتريا الاستقلال عن إثيوبيا، فقرر عبد الناصر التريث، ولم يقدم أى نوع من المساعدات العسكرية لثوار إريتريا، بل كان موقف مصر فى تلك الفترة هو احترام وتأييد قرار الأمم المتحدة الصادر فى ديسمبر 1950 والخاص بضم إريتريا إلى إثيوبيا فى اتحاد فيدرالى، ولأن عبد الناصر كان يعى جيدا أهمية القارة السمراء، لذلك كانت من أهم دوائر السياسة الخارجية المصرية آنذاك، فكانت العلاقات المصرية الإثيوبية فى أوج قمتها فى عهد عبد الناصر والإمبراطور الإثيوبي هيلا سلاسى، حيث كانت ترتبط بينهما علاقة قوية، حيث كان عبد الناصر يدرك أهمية منابع مياه النيل لمصر.

وعن طريق الأدوات الدبلوماسية والمساعدات والتركيز على الجانب الدينى تعامل عبد الناصر مع إثيوبيا، حيث كانت الكنيسة الإثيوبية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصرية؛ بل وكانت الكنيسة الأم في مصر ترسل القساوسة من مصر للعمل في الكنائس الإثيوبية وكان للبابا السابق كيرلس علاقات شخصية بالإمبراطور هيلاسلاسي، وكثيراً ما كان الرئيس جمال عبد الناصر يوظفها في خدمة المصالح المشتركة وكانت تتم دعوة الإمبراطور هيلاسلاسي في افتتاح الكنائس في مصر وكان البابا أيضاً يفتتح الكنائس في إثيوبيا.

وقد عبر عبد الناصر عن علاقات الود القائمة بين مصر والحبشة، بحيث لا يكون مثله بين الأخوين الشقيقين، وهو يقول فى مقدمة كتاب "أضواء على الحبشة": "نحن بلدان متجاوران فى قارة ضرب عليها الاستعمار نطاقه لتكون له دون أهلها كالبقرة الحلوب، ونحن شريكان فى هذا النهر الخالد الذى يفيض الخير والبركة على شاطئيه من هضبة الحبشة إلى المقرن من أرض السودان إلى المصب فى البحر المتوسط، فكل ذرة من ذرات ذلك الماء المتدفق فى مجراه بين المنبع والمصب تتناجى همساً بأماني مشتركة تلتقى عندها عواطف المصريين والسودانيين والأحباش جميعاً.

واختتم الزعيم الراحل عبد الناصر قائلاً: "إننا اليوم وقد صارت أمورنا بأيدينا، فقد وجب علينا أن نلقى أضواء على الحبشة.. وأن نوثق علاقات الإخاء والمودة بيننا وبين الشعب الذى تربطنا به أوثق الصلات منذ أبعد أعماق التاريخ".

بعد الإطاحة بهيلاسلاسي في بلاده بدأت تتراجع قوة العلاقات المصرية الإثيوبية إلى أن وصلت إلى مرحلة العلاقات الرسمية الشكلية، وكانت من نتيجة ذلك أن استقلت الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة الأم في مصر والتي ظلت منذ دخول المسيحية إلى إثيوبيا تابعة للكنيسة المصرية حتى عدة سنوات مضت وأصبح لها باباً إثيوبي خاص بها وانفصلت قيادتها عن مصر.

عندما أقبل جمال عبد الناصر علي بناء السد العالي أسند مهمة بناء السد إلي الاتحاد السوفيتي وذلك في عام 1958م، مما أحدث خلافاً وشقاقاً كبيراً بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، الأمر الذي صاحبه غضب أثيوبي عام اتفق مع الغضب الأمريكي، ونتيجة ذلك قدمت أمريكا عرضا لإثيوبيا لإجراء دراسة شاملة لنهر الآباى، تشمل الحصر المائي والاستغلال الاقتصادي وتوليد الكهرباء واستخدام مياه النهر فى الري بدلا من الزراعة المطرية، وذلك على طول النهر بدءً من منبعه فى بحيرة تانا وروافده العديدة وصولا إلى الحدود السودانية.

وهنا طالبت أثيوبيا من الولايات المتحدة باستقدام مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي للمشاركة فى مشروع إقامة سدود علي النيل الأزرق، وذلك تحت عنوان: تعاون الولايات المتحدة- إثيوبيا لدراسة حوض النيل الأزرق. تم الاتفاق على أن يتقاسم الشريكان تكاليف البرنامج وقد أنفقت إثيوبيا خلال هذه الدراسة 42 مليون « بر» إثيوبى أى ما يعادل 21 مليون دولار وقتها.

استغرقت الدراسة المكثفة لحوض نهر الآباى خمس سنوات، ونشرت نتائجها في 17 مجلداً من القطع الكبير. وقد افترض الباحثون الأمريكيون من أمثال جون واتربري، الذي يعمل حاليا أستاذا في جامعة برنستون، أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تتطابق سنوات الدراسة الخمس مع فترة التوتر المتزايد بين واشنطن والقاهرة. فالرئيس جمال عبد الناصر قد دخل في علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع الاتحاد السوفيتي، وورط القواط المسلحة المصرية في الحرب الأهلية في شمال اليمن، في الجانب المقابل للمكلة العربية السعودية، التي سرعان ما أصبحت بعد ذلك تتبع أمريكا .

وقد اتخذت دراسة مكتب الاستصلاح كتحذير متخف وتذكرة لمصر من إمكانية تعرضها للهجوم الجغرافي السياسي، فالسد العالي لا يستطيع أن يقدم الكثير لحماية مصر ضد أية سياسة محددة من جانب أثيوبيا، لتحويل كميات كبيرة من النيل الأزرق، والمصريون الذين يعرفون بوجود الدراسة الأمريكية، يأخذونها بلا أدني شك كتذكرة لإمكانية تعرض بلادهم للعدوان، وكدلالة جديدة للتآمر الإمبريالي الغربي ضد دور مصر المعادي للاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط.

وأوصي مكتب الاستصلاح بوجوب إنشاء 26 سداً وخزاناً، لتوفير المياه لاحتياجات الري وتوليد القوي الكهربائية في أثيوبيا، وقدرت الدراسة أنه في حالة تنفيذ المشروعات الـ 26، فإن المتطلبات السنوية من المياه للري وفواقد التخزين، سوف تقلل من تصرف النيل الأزرق عند الحدود السودانية بحوالي 5.4 مليار متر مكعب.

كما قدمت الدراسة مقترحا بإنشاء أربعة سدود أخري على مجرى النهر بسعة مائية إجمالية تبلغ 55 مليار متر مكعب. هذه السدود طبقاً لسعتها المائية المقترحة، وهى السد الحدودى، والذى أصبح سد النهضة على الحدود السودانية بسعة 11.1 مليار متر مكعب ويولد 1400 ميجا وات، وسد كارادوبى بسعة 14.2 مليار م3 ويولد 1600 ميجا وات، ثم سد مندايا بسعة 15.9 مليار م3 ويولد 1620 ميجاوات وأخيرا سد مابيل 13.6 مليار م3 ويولد 1200 ميجاوات. هذه السعات تريد إثيوبيا تغييرها حالياً والوصول بإجمالي سعاتها التخزينية إلى 200 مليار متر مكعب تخزنها من نهر صغير كما سبق لا تتجاوز تدفقات مياهه السنوية 49 مليار متر مكعب وتعيش عليه دولتان أخريان، وهما السودان ومصر ومقام عليه ثلاثة سدود فى السودان، وسد ضخم فى مصر كدولة مصب، ولا يمكن علميا لهذا النهر الصغير، أن يملأ هذه السعات الضخمة فى إثيوبيا، ثم يكون قادراً على ملء السد العالى فى مصر ومن قبله سدود سنار والروصيرس وميروى فى السودان... وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم