آراء

كيف أجبرت كورونا دول العالم من تغيير الأولويات في لحظة؟

محمود محمد علي"ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلي حال" .. مقوله تنطبق الآن علي فيروس كورونا الذي وجد العالم نفسه فجأة منشغلا بموضوع فيروس كورونا، وسخرت الدول وزعماؤها وحكوماتها عظيم اهتماماتهم وكامل إمكاناتهم لمجابهة هذا الفيروس اللعين؛ حيث تخوض جميع دول العالم اليوم حرباً شرسة ضد فيروس كورونا المستجد حتي ذهب البعض إلي القول إلي أنها الحرب العالمية الثالثة لكن بدون أسلحة نارية لا سيما أن الخسائر البشرية والاقتصادية فيها لا تقل عن الخسائر التي وقعت في الحرب العالمية الأولي والثانية، ففي ظل تركيز القوي الكبرى علي مكافحة الوباء تثور تساؤلات حول مدي تأثر أبرز النزعات في العالم ولا سيما في الشرق الأوسط من سوريا وليبيا إلي اليمن وافغانستان، وبهذا الأمر إذ يرجح المراقبون أن هذه الصراعات ستشهد مزيدا من التصعيد الذي تضطلع به الجماعات المتطرفة تحديدا في هذه  المناطق في شن هجمات إرهابية مستغلة انشغال العالم عن متابعتها في محاربة الفيروس الذي بات يهدد البشرية بأكملها.

ومع انشغال أغلب جيوش المنطقة في مكافحة تفشي الفيروس في بلادها أشارت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية إلي أن الحرب في سوريا قد تراجعت حدتها بعد تفشي الفيروس وظهور عشرات الحالات في تركيا، مضيفة أنه سيتعين علي الجيش التركي الذي يقود صراعاً عسكرياً ضد نظام قوات الأسد في محافظتي حلب وإدلب، المشاركة في مكافحة الفيروس في الداخل بما قد يخفف من حدة الصراع، حتي إيران التي دأبت علي استعراض قوتها من خلال مقاطع فيديو دعائية من خلال صواريخ جديدة أو معدات عسكرية أو مناورات جديدة كل شهر تقريباً باتت  الأن منشغلة في مكافحة الفيروس الذي تفشي بشكل كبير في مختلف مدنها وتطلب مشاركة الجيش في مكافحته .. أما في ليبيا فقد اعلن المشير خليفة حفتر عن ترحيبه بهدنة إنسانية مع حكومة الوفاق الليبية للتفرغ من مواجهة تفشي الفيروس، وبذلك يكون فيروس كورونا قد أجبر طرفي النزاع علي  إلقاء السلاح  ومواجهته وتحقيق ما قد فشلت فيه سبع أمم  دولية ومحلية .

وإزاء هذا الوضع الجديد وتحول البوصلة من الاهتمام بالقضايا الساخنة كالإرهاب والخطر الإيراني وتغير المناخ، أصبح محاربة فيروس كورونا أولويات قصوي، إذ دعا  الأمين العام للأمم المتحدة " أنطونيو  غوتيريش" إلي وقف فوري لإطلاق النار في  جميع أنحاء العالم بهدف حماية من يواجهون خطر التعرض لخسائر مدمرة بسبب الفيروس وهو  المر الذي لقي ترحيبا من مدير عام منظمة  الصحة العالمية " تيدروس أدهانوم"  أيضاً إلي توحيد العالم في مواجهة عدو واحد  مشترك وهو الكورونا  ...

كورونا الآن يكاد يدق طبول الحرب العالمية الثالثة، فمنذ مطلع العام الجاري أعلنت دول العالم الحرب، ولكن هذه المرة كانت علي الفيروس التاجي، حرب حشدت لها العالم  كل ما يملك من موارد حتي لجأ في النهاية للجيوش، ليصبح  كورونا عدو  البشرية الجديد الذي تحاول هزيمته، فالصين مثلا في بداية انتشار الفيروس أرسلت أكثر من 10  ألاف جندي إلي مقاطعة هووبي، وكرست خطوط إمداد الجيش لمواجهة تفشي الفيروس، وفي الولايات المتحدة الأمريكية فقد فعل الرئيس ترامب قانون الإنتاج ادلفاعي، وأمر باستدعاء قوات الاحتياط والمؤهلين للخدمة بالجيش، وفي النمسا تم  استدعاء 3 ألاف فرد من وحدات الاحتياط بالجيش، وهي تمثل خطوة كانت الأولي في تاريخ  البلاد الحديث لمواجهة الفيروس وتعقيم الماكن الحيوية، وفي فرنسا أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن عملية عسكرية لمساعدة نظام الرعاية الصحية وسحبت باريس قواتها من العراق  للمساعدة، وفي الأردن أعلنت الملك عبد الله في 17 مارس عن نشر قوات الجيش علي مداخل ومخارج  البلاد وفعلت  قانون " الدفاع " الذي يتيح للحكومة فرض حظر التجوال، وفي إيطاليا كان للجيش في إيطاليا مهمة مختلفة تمثلت فينقل جثث ضحايا كورونا .

سبحان الله من يصدق أن العالم الآن الذي أصبح قرية صغيرة مُحتفلًا بالعولمة ونجاحها في ربط الجميع وثقافاتهم وأخبارهم عبر الإنترنت أعجزه فيروس كورونا... سبحان الله من يصدق أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تبنت الحروب بالوكالة في العالم تسببت في ثورات الربيع العربي وإنهيار الكثير من القيم في مجتمعاتنا العربية، كما أنها الفاعل الرئيسي في الترويج للشائعات والأكاذيب التي من شأنها هدّم دول وأنظمة سياسية أعجزها فيروس كورونا... سبحان الله من يصدق أن العالم يسيطر عليه الهلّع والفزع بسبب كرونا الذي ضرب الروح المعنوية والحرب النفسية لدول مثل إيطاليا وأسبانيا وألمانيا وفرنسا.. الخ... سبحان الله كورونا المستجد لم يفرق  بين إنسان وغيره، لم يفرق بين مؤمن وملحد، بين إبراهيمى ووثني، ضرب الجميع وتمكن من كل الخلق، ولم يقف عند حدود معبد بوذى أو كنيس يهودى أو دير مسيحى أو مسجد إسلامى، الجميع أصابهم المرض ولم يخطئهم.. سبحان الله من يصدق أن  كورونا أشرس من الحروب والمعارك على أرض الواقع ضاربًا الجميع دون تفرقة بين عرقّ أو لون أو ديانة بين مُصاب وضحية وافتها المنية إما لأسباب ضعف الجهاز المناعي أو الإصابة بأمراض مُزمنة لا يُمكن لصاحبها احتماله معها وذلك كما قالت شيريهان المنيرى الإعلام في زمن "كورونا"..  سبحان الله من يصدق أن فيروس كورونا المستجد لا توجد علاجات جديدة له حتي الآن وأن الحديث عن التوصل لعلاج له ما هو إلا اجتهادات من شركات الأدوية، التي قطعا تبحث عن جنى مكاسب مادية وتسويقية، بل سياسية، فالشركة التي ستنجح في تصنيع الدواء ستعطى قوة هائلة للدولة التي تنتمى لها، سواء كانت فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو أي دولة في العالم، إلا أن ما يثار الآن عن العلاج ببعض أدوية الملاريا أو الأنفلونزا ما هو إلا اجتهادات، لا يمكن تعميمها أو تطبيقها بشكل قاطع في كل الحالات، فالأدوية الآمنة تحتاج إلى فترات اختبار ومتابعة وذلك كما قال محمد أحمد طنطاوي علاج كورونا وخطورة الحديث عنه.

ومثلما فعل فيروس كورونا المستجد في أغلب مجالات الحياة، خلق فيروس كورونا حالة من الشتات في عالم كرة القدم، أصابت الساحرة المستديرة المتسعة لكل أنواع المتعة والسعادة، قبل أن تتحول إلى نفق ضيق يسعى الجميع إلى الخروج منه بأقل الخسائر على كل الأصعدة... وضع كرة القدم في العالم بات متأرجحا بين الرغبة القوية في استعادة النشاط باعتباره مصدر رزق ونوعا من أنواع الاقتصاد وأحد أهم مصادر الدخل القومى لكثير من البلدان، وبين الرعب والخوف من أن يصل كورونا إلى أي فرد في المنظومة في ظل عدم السيطرة على الفيروس في أغلب دول العالم.. وذلك كما قال كمال محمود في مقاله كورونا وشتات كرة القدم!

إن كورونا فيروس ليس له علاج حتى الآن، وهذا لا يعود لتخلف العلم أو تراجع مستويات البحث، بل أساسه أن العالم يبحث فى اتجاه العلاج الآمن المختبر المجرب الفعال، فلا يمكن أن يتم تقديم علاج لا نعرف نتائجه أو أعراضه الجانبية وتأثيره على الصحة العامة وعلاقته بالأمراض المزمنة المختلفة، وهذا ما يجعل اختبار علاج أو دواء لفيروس كورونا أمر معقد ويحتاج إلى تجربة وبحث وذلك كما قال محمد أحمد طنطاوي علاج كورونا وخطورة الحديث عنه.

لقد أصاب الفيروس منطقتنا العربية، لكن بدل من أن نواجهه بالعلم، واجهناه بأفكار الماضى، وظل البعض يعيش أساطير الأولين ويتباهى بحماية الله له دون غيره من البشر، ودون أن يعطى هو نفسه سببًا لذلك التفريق الإلهى، ويتمسك بأفكار عصور الخرافات والأساطير، ويرفض العلم.

واضح أن حالة الفزع التى يسببها انتشار فيروس كورونا، فى العالم، ليس خوفا ورعبا من الموت فقط، وإنما لاح فى الأفق الرعب من شبح الإفلاس، فبجانب اكتظاظ المستشفيات بالمشتبه بهم المصابين بالفيروس فى مختلف الدول، فإن هناك حالة رعب تسيطر على الأغنياء من أصحاب الأعمال والمصانع والشركات والتجار الكبار، من إغلاق عدد كبير من مصانعهم وتوقف استثماراته فى مختلف دول العالم، بجانب توقف حركة السفر والطيران، مما عرض على سبيل المثال أصحاب الشركات التكنولوجية لخسائر فادحة.

نعم، تمر كل دول الوطن العربي بضائقة حالية لم تصل حتي الآن بفضل الله لحد الأزمة التي نالت من دولاً كثيرة تمتلك من الإمكانات ما لا نملكه.. ولكن : لم تنساقون خلف الشائعات التي لا أول لها من آخر، والتي جاءت لمنتظريها علي طبق من فضة يطلقونها كيفما شاءوا لإثارة الرعب والهلع وافتعال الأزمات التي لم يحن وقتها بعد؟... لم تثقلون كاهل الدولة بأعباء غير مطلوبة بالوقت الحالي، كنقص السلع وارتفاع الأسعار، فضلاً عن إمكانية انتشار العدوي نتيجة الاختلاط والتزاحم علي متاجر السلع، لتفسدون بأيديكم ما تبذله من مجهودات كبيرة تشترك بها كافة الأجهزة علي رأسها الجيش... هل نتعظ من اعترافات المواطنين بدولة كإيطاليا بأنهم من تسببوا بتفشي الوباء بأيديهم نتيجة استهتارهم وعدم التزامهم بالتعليمات الوقائية في بداية الأمر، حتي وصل بهم الحال إلي العزل بالمنازل وحظر التجوال التام، ما لا نتحمله نحن بمصر حفظها الله !.. بني وطني: رفقًاً بأنفسكم .. فلا نعلم ما تحمله الأيام القادمة من أحداث، يتحتم علينا جميعاً التصدي لها بتعقل وحكمة كي لا نفقد قدرتنا علي تحمل ما هو أصعب، ونتحسب جيداً للقادم مادياً ومعنويا وصحياً إلي أن يرفع الله بفضله عنا البلاء ويكشف عنا الهم والكرب. وذلك كما قال دينا شرف الدين في مقاله بعنوان هل نعشق افتراض البلاء؟... وللحديث عن كورونا بقية في قادم الأيام..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم