آراء

متآمرون

حاتم السرويكلنا يذكر تلك المرحلة التي كنا ننعم فيها بالهدوء والبساطة، ولم يكن الإعلام يقدم لنا فيها إلا كل ما هو مفيد، وبرامجه كانت موزعة بين الأفلام والمسلسلات وبرامج السلوكيات الاجتماعية والمنوعات الغنائية، بالإضافة إلى البرنامج الصباحي الذي كنا نشاهده أيام الجمعة والسبت لأن الكبار كانوا يذهبون لأشغالهم، والأطفال يذهبون إلى مدارسهم، ولهذا كان هذا البرنامج الصباحي عادةً من نصيب ربات البيوت، وأذكر جيدًا أن قريبًا لي أصيب بنوبةٍ من الضحك عندما شاهد أحد مسؤولي التلفزيون على الهواء يبدي فرحته لأن نسبة مشاهدة البرنامج الصباحي يوم الجمعة هي الأعلى، فما ذكره الدكتور المحترم هو من تحصيل الحاصل لكنه أظهر المفاجأة والسعادة ثم شكر المذيعين وحمدهم بما لم يفعلوا!.

وكانت هناك رقابة محترمة في منتهى الخبرة والجدية والنشاط، واحتملوني واحتملوا حالة النوستالجيا أو الحنين والتذكر في هذه المقالة؛ فأنا أقارن بين الآن وزمان ولابد من الفلاش باك حتى نكون على بينة من الأمر، ولا زلت أشكر للرقابة منعها لأحد الدعاة الجدد منذ ما يقارب العشرين عامًا من الظهور على قنوات التلفزيون الرسمي والسبب كما جاء في التقرير (ضعف المعرفة العلمية وهزال الثقافة الدينية) وحتى الآن يخرج هذا المدعي على القنوات الفضائية ويحاول أن يستلفت الأنظار بأية وسيلة، لأن الدين بالنسبة له مع كل أسف (أكل عيش) وأكل العيش هذا يستوجب كثرة المشاهدات والمتابعين ولو بخلق حالة من الجدل والإثارة والتي تخلق بدورها نوعًا من التجاذب والاستقطاب ثم السب والقذف ثم الاختلاف والتناحر، وكل هذا لأن الشيخ الذي هو ليس شيخًا يريد أن يحصد أكبر كمية من المشاهدات على شاشة القناة الفضائية التي يظهر فيها وقناة اليوتيوب التي صنعها أو صُنِعَت له، ويريد مئات أو قل آلاف التعليقات على صفحته بالفيس بوك، أما الدين فهو عنده وعند غيره من الفاسدين يتيم ليس له من يحوطه ويرعاه ويحامي عنه، لكن الشيخ أو من يزعم أنه شيخ عليه أن يعرف وأن يكون على يقين جازم بخسارة من يشتري الدنيا بالدين، وربما تابت راقصة وجه لها سهام نقده ذات يوم فكانت أحسن عند الله منه، وربما انتكس هو فصار أسوأ من فتيات البورنو، ولو تبصر في أمره لوجد نفسه أسوأ منهن فعلًا، ألم يسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".

ثم انتهت أيام التلفزيون الرسمي ودخل (الدش) كل البيوت، ودخلت معه الفوضى المهنية في الإعلام، والطفرة المتوحشة في الإعلان، وبات لزامًا على كل مذيع حتى ينال أكبر عدد من المشاهدات وبالتالي تنهال عليه الإعلانات أن يحول حلقات برنامجه مستعينًا بفريق إعداده إلى ساحات جدال شرس بغير نهاية واضحة ولا معلومة جديدة، وأصبح الناس حيارى مشوشين، لا يعرفون شيئًا بعد أن كانوا يعرفون القليل، فالتلفزيون ولله الحمد أصابهم بالشك والتخبط والتخلف، وتعودنا أن نرى الشاب أو حتى الكهل وهو يقول الشيء ونقيضه في لحظة واحدة ويطرح السؤال ثم يرد على نفسه، ويفكر كما لو كان فيلسوفًا، ثم يكلم نفسه بصوتٍ مرتفع ثم يكره ذاته ويكفر بحياته ثم يخرج من هذا كله بمشاهدة مقطع جنسي فاضح، ولهذا أطالب بمحاكمة مذيعي التوك شو بتهمة التآمر على أعصاب المشاهدين وقلب نظام الدنيا.

لقد أصبحت الفرجة في هذا العصر والأوان من أكبر دواعي الاكتئاب والقلق والوسواس القهري، ولا زلنا حتى الآن نتمتع ببقية عقل نسير على هديها فاتركوها لنا يا أولاد الأفاعي، ثم أجيبوني عن هذا التساؤل الذي أطرحه ويطرحه غيري: ما فائدة أن يعرف الموظف والبقال والبائع السَّرِّيح والعاشق الجريح والساكن في علب الصفيح والطبيب النجيب والمهندس اللبيب والضابط المهيب، ما أهمية أن يعرف كل هؤلاء تفاصيل المعركة الجوفاء بين الأشاعرة والحنابلة، وبين الصوفية والسلفية، وبين الاشتراكية والليبرالية، وبين الفول والطعمية؟؟.

إنه الضراط الإعلامي الذي تهل علينا روائحه كل يوم وكل ليلة، رائحة بشعة تسمم حياتنا، ونحن في زمان لابد فيه من الصحة حتى نستطيع العمل فلا نهلك جوعًا، وهؤلاء يسرقون منا الصحة مع سبق الإصرار والترصد ويجلبون معهم الصداع والإسهال وضغط الدم العصبي، قل لي أيها القارئ الكريم، هل استفدت شيئًا على مستوى المعارف العامة والسلوك الاجتماعي والثقافة الأدبية والمعلومات الصحية؟ هل تشاهد تمثيلية مسلية فيها الأداء الفني المتميز كما كان عند الممثلين القدامى؟ هل سمعت أغنية شعرت معها بالانسجام ويا سلام يا سلام؟ هل نفعتك موعظة دينية فزاد معها نصيبك من الروحانيات؟.

فقط رأيت صراع الديوك بين الكتاب والصحفيين ورؤساء الأحزاب بل وشيوخ الدين، والمذيع يبتسم في مكر وينفخ في النار، وطوبة على طوبة خلوا العاركة منصوبة كما نقول في مصر، ثم أين المفر وكيف يكون المخرج؟.

عزيزي القارئ كن على يقين أن الكاتب الذي يطرح المشكلة ثم لا يرصد لها الحلول، هو أكبر فاشل في دنيا الناس، ولأنني لا أحب الفشل ولا أحب لك الحيرة فسوف أخبرك عن الحل والمخرج، وهو في يديك، ويتلخص في الآتي: إذا كنت تحب أسرتك، أو إذا كنت تحب نفسك فلا تشاهد التلفاز إلا قليلا ولا تلهث خلف مقاطع الفيديو في اليوتيوب، وإذا استحكم الفراغ فدونك خير جليس، أعني الكتاب، وهذه المقالة دعوة جادة إلى القراءة، وأيضًا لماذا لا تجرب الاستماع إلى الراديو؟ اقرأ واستمع واستمتع واضحك على الإعلام الفارغ والعب الرياضة وزر أحبابك ونم في هدوء وصحتك بالدنيا، أليس كذلك؟ بلى هو كذلك.

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم