آراء

رشيد الخيّون: الذكاء الاصطناعي.. أصله وادي عَبْقر!

كان لـ«الذَّكاء الاصطناعيّ» القدح المعلى في منتدى الإعلام العربي بدبي(26- 27 سبتمبر 2023)، به تكون المدن ذَكية، كلّ شيء يتحرك باللَّمس، المطارات لا تعرف الطّوابير، والطَّائرات والسّيارات تسير وتقف ذاتياً، أدخل في الفنون: التَّمثيل والرَّسم والنَّحت. مما أثار أسئلة في المنتدى، عبرت عن قلق الإنسان، حتى البعض نسى أنّ الرّوبوتات صناعة الذّكاء الطّبيعيّ، فإذا شاع «الاصطناعيّ» يُقابله «الطّبيعيّ».

حاول الإنسان قديماً محاكاة الطّبيعيّة، فجرت محاولات للطيران تقليداً للطيور(محاولتا الجوهريّ صاحب الصِّحاح وعباس التّكارني)، وفكرَ أصحاب العقول برؤية الأشياء عبر الأجسام الصّلبة، بأنَّ اللهَ يخلق شعاعاً يخترق الحيطان، ومَن قال: «لَوْ أَشَاءُ لَصَنَعْتُ رَحًى تَطْحَنُ بِالرِّيحِ»(البلاذُري، أنساب الأشراف)، نُسبت لصانع الرُّحِيِّ في صدر الإسلام، وها هي الرَّياح توُلد الطّاقة، وإن نسيت فلا أنسى تمثيل المعتزلة(القرن العاشر الميلادي) «التُّفاحة» في سقوط الأجسام(النّيسابوريّ، مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين)، فسميتها «تفاحة المعتزلة». إنَّها خيالات ذكية تحولت إلى وقائع. هل يتمكن العقل الاصطناعي التّخيل والإبداع دون الإنسان، صاحب الفِكر والرَّوية؟!

وهل يمكن أنّ يوصف الرّوبوت بالعبقريّ؟ وقد أحال القدماء كلّ خارقة إلى الجن، فحددوا لهذا الذّكاء مكاناً، وهو وادي عَبْقر، نسبوا فن عمران المدن، وجزيل فن الشّعر إلى سكانه الجن. فقال النّابغة الذّبيانيّ(قبل الإسلام): «إلَا سُليمانَ إذ قالَ الإلهُ لهُ/ قُمْ في البَريَّة فأحدُدها عنِ الفنَدِ/ وخيّسِ الجنّ إنِّي قدْ أَذنتُ لهم/ يبنونَ تدْمُرَ بالصُّفّاحِ والعمدِ»(المرزوقيّ، شرح ديوان الحَماسة).

فقديماً عُبر عن الانبهار بالعمران والفنون بخوارق الجن، مع أنَّ المعتزلة، وهم الأقرب للاعتراف بالعقل، وما يفيضه مِن ذكاء طبيعيّ، جاء في تفكيرهم المنطقيّ: «من بركة المعتزلة أنّ صبيانهم لا يخافون الجن» (التَّنوخيّ، نشوار المحاضرة)، وذلك عندما حاول اللُّصوص استغلال ما أشيع عن «الجن» لتغطية لصوصيتهم، فكشفهم المنطق المعتزلي العلميّ. تعبيراً عن الانبهار بحدة الذّكاء اخترع «عبقر» عربياً، وليس ليَّ إطلاع عما إذا كانت بقية الأمم جعلت لحذاقة العقل مصدراً خرافياً، أو جماعةً خارقةً كالجن. قيل: عَبْقَر جبل (معجم البلدان)، وقرية (لسان العرب)، ومنطقة «ثيابها في غاية الحُسُن»، واسم لامرأةٍ (القاموس المحيط)، واسم أرض (ما أتفق لفظه وأفترق مسماه). لكنّ القدماء جميعاً، مع اختلافهم، اتفقوا على أنّ عَبقرَ منزلٌ للجن، ومصدرٌ للحذاقة والعبقريَّة!

هذا، واختلف في البلاد التي تضم المكان الأسطوري، بالتأكيد إنَّ مكاناً يوصف بمصدرٍ للعبقرية تحاول كل البلدان الادعاء به. لكن، ما هو معروف أن جنس الجن لا بلاد له. هذا، ومازال العامة يصفون الحاذق بالجني أو الشَّيطان، لا بالعبقري! حاول ياقوت الحموي (ت: 626هج) التقريب بين الأسطورة والواقع عن عَبْقَر، فقال: «ولعلَّ هذا بلد كان قديماً وخُرب. كان يُنسب إليه الوشي (البُسط الملونة)، ولما لم يعرفوه نسبوه إلى الجن»(معجم البلدان). ظل عَبْقَر وهماً جغرافياً، يقطنه شياطين الشّعراء المطبوعين، ويُنسب إليه كل حاذقٍ في مجاله.

ومثلما يُفسر عَبْقَر لغة «السّحاب تلألأ»، يُترجم العبقري: تلألأ ذكاءً. تقدم العقل، ولا يحتاج إلى «جغرافيا الوهم»، كي تبرر بدائعه بما وراء العقل نفسه، فعُبر عنه بالذّكاء الاصطناعيّ، انسجاماً مع قفزات التّكنولوجيا، بعد أنْ أخذت قصة «عَبقر» دهراً مِن تاريخنا وحيزاً مِن تفكيرنا، يوم كان الفرد مؤسسةً، أما اليوم فالعبقريّة غدت مراكز ومؤسسات، تزحف عليها «الرّوبوتات»، التي احتلت مكانة «الجن»، والمدينة الذَّكيَّة دور وادي عَبْقر، فمِن تركته لقب «العَبقريّ»، ولولا شعاعه الباقي ما صار الرّوبوت عبقريَّاً، لكن ليس المقصود: «ليت السّماءَ الأرضُ ليت مدارها/ للعبقريّ به مكان شهابِ/ يوما له ويُقال ذاك شعاعه/ لا محضُ أخبارٍ ومحضُ كتابِ»(الجواهري، الرُصافي 1959)، فالعبقريّة للإنسان لا صنيعته «الرّوبوت».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم