آراء

عبد السلام فاروق: الأزمة السودانية.. المآلات والتوقعات

الوضع فى السودان يسير من سيئ إلى أسوأ، لا أتحدث فقط عما بدأ اليوم وأمس من أحداث مؤسفة يتابعها الناس عن كثب، لكننى أعود لأسترجع بدايات الأزمة منذ حوالى عام ونصف أو أكثر عندما صار السودان بدون حكومة بعد تغييب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذى تولى رئاسة الوزراء لمدة عامين فقط بين 2019 و2021 قبل أن يتم إقصاؤه باستقالة أعلنها فى مطلع 2022. ومنذ ذلك الحين تولى حكم السودان الجيش السودانى بقيادة عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية رئيساً للمجلس السيادى الانتقالى، بالإضافة لنائبه فى رئاسة المجلس محمد حمدان دقلو المشهور بحميدتى قائد قوات التدخل السريع المعروفة بالجنجويد..ومنذ ذلك الحين تدفق السلاح إلى السودان ليصير متوافراً لدى أغلب القوى وكأن الأرض يتم تمهيدها لاحتراب قادم!

الجنجويد ودورهم فى الأزمة

تلك ميليشيات قتالية تم تشكيلها خلال الحرب فى دارفور فى أغسطس من عام 2013 بقيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطنى لمحاربة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق. ورغم الفظائع التى ارتكبتها تلك القوات أثناء حربها الأولى فى إقليم دارفور من حرق وقتل وضرب ونهب واغتصاب ضد كل الأعراف والقوانين إلا أن البشير استبقاهم كقوة إضافية لمواجهة أى تمرد أو قلاقل تحدث هنا أو هناك. وفى أعقاب احتجاجات الشعب السودانى عام 2019 ضد البشير وتنحيته لصالح الجيش السودانى تدخلت ميليشيات الجنجويد لتلعب دوراً فى قمع التظاهرات وفض الاعتصامات وإنهاء حالة العصيان المدنى التى حاول الشعب السودانى القيام بها مما تسبب فيما عرف بمجزرة القيادة العامة والتى قتل خلالها ما يقرب من 100 مدنى على يد قوات الجنجويد.. هكذا لعبت قوات الدعم السريع التابعة لحميدتى أدواراً سيئة داخل وخارج السودان وعلى حدودها.. فشاركت بدوريات مستمرة لمنع تدفق الهجرة من إريتريا والسودان إلى أوروبا عبر ليبيا، كما تم الاستعانة بالجنجويد فى بدايات عمليات عاصفة الحزم ضد ميليشيات الحوثى.

ذلك التنامى الخطير فى حجم ميليشيات الدعم السريع كما وكيفاً ساهم فى إرباك المشهد السياسي فى السودان عقب تنحية البشير وتولي عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء لعدة شهور قبل أن يتقاسم الجيش السلطة مع قوات الجنجويد. وكان من المفترض أن يتم تسليم السلطة خلال الأيام الماضية للقوى المدنية وفق بنود اتفاق إطارى أعلن الجميع موافقتهم عليه. إلا أن الساعات الأخيرة شهدت عدة تحركات من جانب قوات الجنجويد التى انتشرت فى عدة مدن ومناطق حيوية بالسودان تحت دعاوى فرض الاستقرار ومنع الجرائم والانحياز للديمقراطية، بينما فى الحقيقة هى تريد إفساد المشهد السياسي والاستيلاء على السلطة بالقوة. وهو ما دفع الجيش السودانى لاعتبار الجنجويد قوة متمردة ينبغى ردعها. وبدأت الاشتباكات بين الجانبين خلال الساعات الأخيرة بشكل متصاعد .. والسؤال: لماذا تلاعب حميدتى بالجميع وتظاهر بقبول الاتفاق الإطارى ثم قلب لهم ظهر المجن؟!

صراع الأجندات

السودان بلد متسع مكتظ بثروات وخيرات كثيرة مثلت مطمعاً لعدة دول وقوى خارجية. وفى ظل حالة السيولة وعدم الاستقرار السياسي خلال الفترة الانتقالية الحافلة بالأحداث، وخاصة فى ظل تنامى نفوذ الميليشيات واتساع نطاقه، بدأت تلك القوى الطامعة فى استغلال تلك القوى فى استقطاب القوى السياسية المتصارعة لصالحها. هناك عدة دول تلاعبت بالمشهد السياسي وعلى رأسها إثيوبيا ومن ورائها إسرائيل، والهدف هو إبقاء حالة الصراع القائم بين القوى الثلاثة متأججة وملتهبة حتى تحين ساعة الصدام التى تحددها تلك الأيادى العابثة من خلف الكواليس. وها قد حانت الساعة وحدث الصدام لا بين الجنجويد والجيش والقبائل فقط بل بين هؤلاء المحركين من خلف ستار.

المشهد الحالى فى السودان شديد التعقيد والسيولة ويصعب تحديد أبعاده ومآلاته..القوى المدنية مفككة وضعيفة لا قوة لها على أى فعل، والطبيعة القبلية العشائرية للسودان وضعت فى يد كل مجموعة وطائفة وقبيلة سلاحاً خفيفاً أو ثقيلاً. وهناك انقسام وتشرذم فى الولاءات بين حاملى السلاح. فلمن تكون الغلبة؟ وهل يمكن أن تلجأ الأطراف للتهدئة بعد انطلاق الشرارة وتأجج الصراع؟!

سيناريوهات الأحداث

سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى السودان جاء على لسانه القول بأن الوضع فى السودان مرشح للاشتعال فى أية لحظة، وأن القوى الخارجية ومن بينها أمريكا لن تتدخل لحسم الصراع لصالح أى طرف. وأن المتوقع أن تكون الغلبة لجانب الجنجويد ربما لأن مؤشرات القوى ترجح لصالحهم بسبب خبرتهم الواسعة بالقتال الفعلى على الأرض ومعرفتهم التامة بجغرافية المكان وصلاتهم الممتدة برؤوس القبائل، هذا إلى جانب ما اكتسبته تلك القوات فى الفترة الأخيرة من عوامل قوة أهمها تنامى العلاقات الدولية وتحولهم ربما إلى ما يشبه المرتزقة الذين يعملون لا لصالح السودان وإنما لمصالحهم الخاصة ومصالح القوى الخارجية التى تستميلهم.

غير أن الأحداث ربما لا تسير بالضرورة على النحو الذى يتوقعه الأمريكان. من ناحية أن الجيش النظامى يمتلك عناصر قوة قد ترجح قدرته على حسم صراع السلطة لصالحه. ولعل أهم عنصر هنا هو الشرعية الدولية التى يفتقدها الجنجويد لاسيما وهم متهمون بارتكاب مذابح وجرائم ضد الإنسانية فى حرب دارفور وخلال فض المظاهرات. لهذا سوف تقف القوى الإقليمية بالضرورة مع عبد الفتاح البرهان ضد حميدتى الذى بدأ بأفعال الاعتداء والتمرد على الاتفاق الإطارى من أجل دعم استقرار السودان.

لايمكن القول إن الوضع كان مستقراً فاشتعل أو أنه انفجر فجأة، بل إنه كان منذراً بمثل هذا الذى حدث لدرجة أن المراقبين للوضع قالوا : نحن فى انتظار الرصاصة الأولى.. ألا وقد انطلقت الشرارة وتفاقم الصراع وبات الوضع ملتهباً لدرجة أن قنوات الاتصال فقدت إلا من بعض ما يتم تسريبه أو إعلانه من هذا الطرف أو ذاك. مثل هذا الصراع الدامى قد يتحول إلى قتال شوارع إلا إذا تدخل الطيران الحربي. أو قد يتحول إلى حرب أهلية تنتقل عدواها من مدينة لمدينة وفى تلك الحالة سيطول أمد الأزمة ويتسع نطاقها وتزداد معاناة الشعب السودانى الذى يعانى الأمرين بالفعل..

السؤال هنا حول السيناريوهات البعيدة عن التوقعات.. هل يمكن أن يحدث أحد تلك السيناريوهات؟ : أن يستطيع الشعب والقوى المدنية حسم الصراع لصالحهم من خلال انتفاضة شعبية واسعة؟ أو أن تتدخل قوة إقليمية قادرة على حسم الصراع لصالح السودان وإقصاء المخربين؟! أو أن يتم إقناع أطراف الصراع بالعودة من جديد لتغليب المصلحة العامة والجلوس على مائدة المفاوضات لتجنب مآسي الصراع الدموى؟

زمن رواج الشائعات

لاريب أن الإعلام سيكون مشاركاً فى هذه الحرب بعلم أو بجهل لصالح أطراف كل منها يروج لنفسه باعتباره المنتصر الوحيد الذى اكتسح الساحات. وقد شهدت الساعات السابقة حالة من التضارب المفهوم فى التصريحات بين طرفى نزاع يزعمان كليهما بأن الخسران من نصيب الآخر، بينما النزاع لا يزال فى بداياته ولما تنتهى المعركة التى يبدو أنها ستطول وتمتد إلى حين..

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم