آراء

الإخوان المسلمون والخنزير الأحمر

محمود محمد عليذهب معظم المؤرخين إلي أن جورج كينان (المنظر الأمريكي للحرب الباردة) كان يري أن إرضاء السوفييت المطلق يضر بالمصالح الأمريكية، والدخول معهم في صراع مفتوح هو أيضاً أمر قد لا تحمد عقباه، والنتيجة هي أنه يجب أن نخلق مساراً ثالثاً لا هو بالسلم ولا هو بالحرب التقليدية.. مسارا يعتمد على الاقتصاد والتغلغل داخل الحركة الشيوعية العالمية وإعطاء صور إيجابية للديمقراطيات الرأسمالية.

كما دعا كينان من ناحية أخرى للتغلغل داخل الحركة الشيوعية، معتبراً أن المشكلة ليست مع الفكر الشيوعي بقدر ماهي مع السوفييت، كما تبنى الطرح الذي يقول إن العقيدة الاشتراكية يمكن التأثير عليها باستقطاب شخصيات فاعلة ومدارس تكون أقرب للغرب وأبعد عن الشيوعية العدائية الراديكالية، بهدف الوقيعة بين الكرملين والحركات الإصلاحية المتعددة.

ومن هنا قامت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي إيزنهاور في وضع استراتيجية أخرى لمواجهة المد الشيوعي، وهي الاعتماد على الإسلام السياسي؛ وبالأخص الإخوان المسلمين والوهابيين؛ حيث يمكن تعبئتها بشكل مناهض للشيوعية، والسؤال الآن: هل كان سعيد رمضان والإخوان المسلمين واليمين الإسلامي حلفاء مفيدين في الكفاح أثناء الحرب الباردة ضد الشيوعية؟ وهل تستطيع تلك الجماعة مواجهة الكتلة الماركسية القومية خاصة إذا حظيت بتأييد من العائلة المالكة السعودية؟ وهل تستطيع الدعاية الأمريكية التي تركز على القيم الدينية الأمريكية في مواجهة الاتحاد السوفيتي الملحدة ، أن تجذب جماهير المسلمين إلي المعسكر الأمريكي أو علي الأقل بعيدا عن موسكو؟

يذكر ” روبرت دريفوس ” مؤلف كتاب ” لعبة الشيطان : دور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الإسلامي” أن علاقة الولايات المتحدة بالإخوان المسلمين ليست وليدة الحدث ، بل تمتد لعقود طويلة خلت. ففي أواخر 1953م ، حين برز سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا كمسؤول سياسي وخارجي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكان لقاء رمضان مع الرئيس “دوايت أيزنهاور” ، في البيت الأبيض نقطة انطلاقة لرمضان كمسؤول عسكري ايديولوجي للجماعة ، والذي قال :” إن عنف الجماعة نابع من إعادة تشكيل المنطقة العربية وفق المواصفات الإسلامية السلفية، وقد كانت الولايات المتحدة تنظر رمضان على أنه حليف محتمل لها بحربها ضد الشيوعية

وقد كان مؤتمر جامعة برنستون للثقافة الإسلامية الذي تم دعوة سعيد رمضان للمشاركة به، مؤتمرا أمريكيا يهدف إلي التعرف علي قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وقد كان السفير المصري هو من يقوم بهذا الدول، وبعد ذلك أصبح رمضان حليفا للسعودية بعد وفاة حسن البنا إلي جانب ارتباطه مع مخابرات عدد من الدول الغربية.

كان مؤتمر برنستون، ولقاء آيزنهاور وسعيد رمضان في منتصف القرن الماضي بداية لحقبة من الزواج العرفي بين الولايات المتحدة والإسلام السياسي، والملكيات العربية والإسلامية ممثلة في شاه إيران، وملوك السعودية ، والأردن، والمغرب، فانطلقت جميع الأجهزة الأمريكية تعمل في كل مكان، وكل اتجاه لتعزيز استراتيجية الكفاح الإسلامي ضد الشيوعية.

فما إن نجح الانقلاب الأمريكي ضد الدكتور محمد مصدق في إيران، وأعيد الشاه إلي السلطة، حتي كان نواب صفوي زعيم منظمة ” فدائيان إسلام” التي خانت مصدق، وقد أصبح رجل واشنطن الثاني بعد الشاه نفسه، واستقدم صفوي نفسه لزيارة مصر في عام 1954، والتقي بزعماء الإخوان، وهناك رأي- يرجحه البعض- يقول إن زيارة الزعيم الإيراني ساهمت في دفع الإخوان لمحاولة اغتيال الرئيس المصري " جمال عبد الناصر" المعروف باسم حادث المنشية عام 1954.

وفي ذلك الوقت صدر كتابان مريبان في القاهرة ، قيل إنهما صادران من السفارة السوفيتية ، ليتبين فيما بعد أن المخابرات الأمريكية هي التي أصدرتهما، وكان الأول بعنوان ” محمد لم يوجد قط”، والثاني ، بعنوان ” أضرار الصوم في رمضان” ، وفي هذه الحرب الدعائية أطلق الأمريكيون ما سمي باسم برنامج ” الخنزير الأحمر” ، حيث تظهر شخصية سينمائية كرتونية في صورة خنزير يرتدي شعار ” النجم الأحمر الشيوعي”، ويحاول افتراس رجل اسمه ” الدين” ، ليلقي الخنزير مصرعه في النهاية علي يد ” الدين. كما جربت المخابرات الأمريكية وسائل خلاقة إبداعية رغم أنها لم تكتمل للتواصل مع الحركة الإسلامية. بعض تلك الوسائل وردت في كتاب ” لعبة الأمم” الساخر الذي كتبه “مايلز كوبلاند” عميل المخابرات الأمريكية الذي خدم في الخمسينات كضابط اتصال مع عبد الناصر وقضي سنوات عديدة في أروقة السياسة العربية.

تقاعد كوبلاند في وقت مبكر من المخابرات لكنه حافظ علي اتصالات وثيقة مع عدد من الذين يعملون في نفس المجال من السابقين وممن كانوا في الخدمة خاصة كيرميت وارتشي روزفلت حفيدا تيدي روزفلت. واستغل كوبلاند سحره ونفوذه ليدعي فهما عميقا بالعالم العربي ليعود من جديد. وقد أشار إلي أنه في نفس الفترة التي تم فيها إطلاق برنامج الخنزير الأحمر فإن السي أي أيه أطلقت مشروع بيلي جراهام المسلم وفي عام 1951 استعار دين اتشيسون وزير الخارجية كيرميت روزفلت من المخابرات حديثة النشأة ليرأس لجنة عالية المستوي من المتخصصين بعضهم من الخارجية والبعض من وزارة الدفاع والبعض مستشارين من الشركات والجامعات (وليس فيهم من هو من المخابرات إلا روزفلت ذاته) وكان هدف اللجنة هو دراسة العالم العربي كما قال كوبلاند وتم إطلاق عملية بيلي جراهام المسلم التي تهدف إلي تعبئة المشاعر الإسلامية، خلال اجتماع اللجنة. وقال كوبلاند إن أحدهم روج لفكرة تعبئة المشاعر الدينية في حركة كبيرة باسم ” بيلي جراهام المسلم” ضد الشيوعية وذهب إلي حد اختيار رجل عراقي يتمتع بنوع من القدسية أو التبجيل للقيام بجولة في الدول العربية .

ولم يتم الكشف عن شخصية الرجل العراقي . لكن كوبلاند اعتبر العملية بالكامل تجربة للتعلم. وقال أن المشروع لم يضر وعلمت إدارته اللجنة المعنية الكثير من الأفكار الخاطئة في تخطيطهم الأصلي وهي دروس استفادوا منها عندما وضع مستشاروالملك فيصل أمام مشروع مماثل علي أن يكون فيصل ذاته الرجل المبارك.

وكان ” برنارد لويس” (عميد المستشرقين الأمريكيين المشهور باحتقاره للمسلمين وثقافتهم)، أول من بشر بأن أرض الإسلام لن تكون تربة خصبة للشيوعية، وانه يجب علي أمريكا أن لا تتوقع ديمقراطية علمانية في العالم الإسلامي، ولكن يجب أن تساند مستبداً مستنيراً ، لأن العالم الإسلامي لن يقبل طغياناً علي طريقة أمريكا اللاتينية، أو الطغيان الأوربي القديم.

كما كان برنارد لويس هو الذي ابتدع تعبير صدام الحضارات ، وتعتبر مقالته في عام 1953 بعنوان ” الشيوعية والإسلام” مثالاً مهما علي التفكير السائد آنذاك بشأن معركة الايديولوجيا، أشار برنارد لويس إلي أنه يبدو أن جماهير العالم الإسلامي تعتزم إقامة مجموعة من الحكومات الشمولية، وأن هذا ليس بالأمر السيئ إذا كان هدف الغرب معارضة انتشار الشيوعية.

وقال لويس إذا اضطر المسلمون أن يختاروا بين التخلي عن تقاليدهم لصالح الشيوعية أو الديمقراطية البرلمانية فسوف نكون وقعنا في ” حيص بيص” . وكتب يقول: ” من المفيد لكل من الإسلام والغرب ألا يقتصر الخيار علي هذين البديلين البسيطين لأن هناك إمكانية أمام المسلمين لاستعادة تقاليدهم السابقة ، ربما في شكل معدل ، أو تطوير شكل من أشكال الحكومة والذي رغم ما قد يكون عليه من شمولية أو أوتوقراطية إلا أنه سيكون بعيد كل البعد عن الطغيان والظلم في الدكتاتورية الأوربية.

وبعد اعتماد احتمال الأنظمة الإسلامية راح برنارد لويس يؤكد علي أن الإسلام لن يكون في النهاية تربة خصبة للأفكار الماركسية. وكتب لويس ” الشيوعية ليست ولا يمكن أن تكون ديانة ، بينما الإسلام ، بالنسبة للجماهير العريضة المؤمنة، لا يزال الديانة وهذا هو قلب المقاومة الإسلامية للأفكار الشيوعية . ورغم أن تفكير المسلمين في الحرية ضعيف جداً قد لا يتواصل فإن إيمانهم بالله قد يكون قوياً بالدرجة الكافية. إن الشعوب الإسلامية ما تزال قوية الإيمان دينياً بأعمق وأبسط ما في الكلمة من معني. الإسلام كديانة ليس أقل عداء للشيوعية من المسيحية ، والواقع كما قلت من قبل ، قد يكون أشد عداء، لكن الإسلام ضعيف كقوة تؤثر في حياة وافكار من يعتنقونه. المسلمون الورعون، وغالبيتهم من الورعين، لن يتسامحوا مع أفكار ملحدة، أو أفكار تنتهك تقاليدهم الدينية ومبادئهم الأخلاقية.

إن الثورة الإسلامية  في مواجهة انعدام الأخلاق والانتهازية المتواجدة بينهم وعند بعض قادة الغرب قد تفيد الشيوعيين مؤقتاً لأنهم يظهرون بمظهر من ينكرون الذات ويخلصون للمثاليات، لكن الأمور لن تنتهي علي هذا النحو حيث سينقلب المسلمون ضد الشيوعية عندما يرون الواقع الذي تخفيه الدعاية. لنأمل ألا يستغرق المسلمون وقتاً طويلا حتي يكتشفوا ذلك.

ومنذ ذلك الحين بدأ المخططون البريطانيون والأمريكيون قي التفكير في بناء تحالفات ونظام للدفاع ضد الاتحاد السوفيتي عبر حدوده الجنوبية ، أقحموا الإسلام في الموضوع، واعتبروا رابطة الدول العربية التي قامت بإيعاذ بريطاني مثلا ضعيفة لأنها لم تشتمل علي تركيا وإيران وباكستان، وعندئذ طرح اقتراح لتحويل جامعة الدول العربية إلي رابطة لعالم إسلامي لتشمل علي الأقل إحدى دول الشمالية وفشلت الفكرة وركزت السياسات التالية بدرجة أقل علي الإسلام وبشكل أكبر علي النفوذ الأنجلو أمريكي . وخلال فترة حكم ترومان وأيزنهاور استمرت الولايات المتحدة تنفذ سياسات وتقوم بجهود لتعبئة العالم الإسلامي في الحرب الباردة واستغلال الإسلام كسلاح ضد النفوذ السوفيتي.

وأرجو أن يتضح للقارئ الكريم ، كيف بنت الولايات المتحدة علاقاتهم مع الإخوان المسلمين كحليف لها، خلال الحرب الباردة في صراعها مع الشيوعية بالأساس، ولتقويض فكرة القومية العربية والناصرية التي جمعت بين الاثنتين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم