آراء

المواجهة الأمريكية الصينية

علي الدباغإعتمد الرئيس دونالد ترامب سياسة متشددة تجاه الصين وتصعيدية تعكس القلق الأمريكي من تنامي القوة الصينية خصوصا الإقتصادية منها والتي تقفز بطفرات تفوق الإقتصاد الأمريكي وموقعه العالمي المهيمن والذي يعاني من أزمات غير محدودة، ويتسبب بإنعكاسات على كل الإقتصادات العالمية و أصبح الدولار الأمريكي يقود كل التراجعات العالمية ويتسبب بها.القلق الأمريكي الذي يعكس قلق كل المؤسسات الرسمية والنخب الأمريكية كان يعبر عنه ترامب بصورة صادقة لكنه كان على الطريقة الترامبية.

ما تفعله الصين في دول العالم الثالث لم تتمكن لا الولايات المتحدة ولا كل دول أوروبا من تقديمه، حيث تقدم حزمة من الإغراءات والقروض والمنح المالية الميسرة لتنمية إقتصاداتها والأهم من ذلك ربط هذه الدول بإحكام بإقتصاد الصين عبر مشروع القرن الحادي والعشرين الصيني والذي يسمى الحزام والطريق والذي يعتبر أكبر مشروع إقتصادي في العالم يربط الصين وموانئها ومدنها الصناعية بشبكة من الخطوط البحرية والطرق السريعة وخطوط السككك الحديدية المتطورة، الحزام الذي يربط غرب الصين بوسط آسيا ليرتبط بشبكة الطرق الأوربية ليصل الى روتردام ليلتقي بطريق الحرير البحري عبر بحر الصين الجنوبي عبر ستة مسارات تشكل شبكة تربط المنتج الصيني بكل آسيا وأفريقيا وأوربا كهدف استراتيجي تسعى له الصين للهيمنة على السوق العالمية. 

مبادرة البناء المشترك للحزام الاقتصادي البري لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين والتي تعرف اختصاراً بـ "مبادرة الحزام والطريق" والتي طرحها الرئيس الصيني شــي جيــن بينــج عام 2013 أثناء زيارته لكازاخستان والتي تمثل مع دول وسط آسيا تجمعات بشرية هائلة وأسواق واعدة وبوابة خلفية للعملاق الصيني، نالت المبادرة اهتماماً عالياً من قبل المجتمع الدولي وتجاوباً ايجابياً من قبل العديد من الدول (حيث يغطي المشروع حوالي 60 % من سكان العالم) التي وصلت الى 170 دولة ومنظمة اقليمية ودولية، وبالاعتماد على بنك الاستثمار الاسيوي للبنية التحتية برأسمال يتعدى 120 مليار دولار وذلك بربط الدول المحتاجة بقروض طويلة الأجل بما يسمى بفخ الديون الذي سيربط تلك الدول بالصين والتي ستتمكن من إحكام سيطرتها على إنشاء تلك المرافق وإدارتها عبر شركاتها المؤهلة.

2288 خارطة العالم

الحزام والطريق البري والبحري

تجارب أمريكا الفاشلة في الصومال وأفغانستان والعراق أغرقتها في سلسلة من التداعيات ولم تترك لها أثراً طيباً لدى شعوب تلك الدول لأن ما قدمته الولايات المتحدة إقتصر على التدخل العسكري (على أهميته)، حيث خسرت أمريكا مثلا في العراق بحدود 5000 قتيل وأكثر من 30,000 معلول حرب وأرقام فلكية من الدولارات ولم يتمكن رئيسها في آخر زيارة أن يزور العراق إلا متخفياً تحت جنح الظلام ولعدة ساعات وأعلن عن الزيارة بعد مغادرته للعراق.

الخطر الكبير والإستراتيجي من الصين على الولايات المتحدة - التي لا تزال في أوج قوتها- هو في قدرة الصين التي تجاوزت تقليد المنتج الى إبتكارات أذهلت العالم في تطورها، ومع إجتياح جائحة كوفيد 19 لكل دول العالم والأثر المدمر الذي تركته، تبقى الصين البلد الوحيد بالعالم الذي حقق نموا بلغ 6.5% في الربع الأخير من العام الماضي وإستطاعت الصين الذي خرج منها الفيروس للعالم أن تتعامل مع وباء كورونا والتقنيات التي إستخدمتها واللقاح الذي أنتجته قصص نجاح لم يتمكن أحد في العالم من محاكاته، بينما توقع صندوق النقد الدولي أن لا تتجاوز نسبة النمو في الصين نسبة 1.9%.

بلغ الناتج القومي للصين للعام الماضي 15.42 ترليون دولار ليكون متوسط دخل الفرد فيه 10,000 دولار، وما يثير الدهشة فإن الصادرات لشهر ديسمبر الماضي إرتفعت بنسبة 18.1% مقارنة بنفس الشهر من عام 2019 وفقا لمكتب الإحصاءات الصيني، هذه الزيادة خلقت أزمة توفر الحاويات نهاية العام الماضي مما ضاعفت رسوم الشحن من الصين.

هذا النمو الذي يؤهل الصين لتتربع عملتها اليوان مع الدولار والذي سيكون عملة التبادل التجاري العالمي وليفك إرتباطه بالدولار مما يجعل الصين تنافس الولايات المتحدة في التبادلات المالية العالمية.

القلق الأمريكي المتصاعد من الصين لم يعد منحصرا في شرق آسيا بل في افريقيا وأمريكا اللاتينية ووسط آسيا وممرات الملاحة الدولية التي تحاول الصين أن تمتلك فيها واجهات بحرية عملاقة مثل ميناء غوادر الباكستاني وجيبوتي كمنافذ للدخول لتجمعات بشرية إستهلاكية، ومع أهمية جوادر الجيوسياسية والمهمة فقد أغرت الصين باكستان بمشاريع تصل الى 12 مليار دولار لبناء مطارات وموانئ ومشاريع طاقة تربطها براً بمدينة كاشغر وبحرا بممر الملاحة العالمي، فبينما لم تحصل باكستان كحليف لأمريكا من فرصة تطوير بناها التحتية المختلفة، فإن الصين تقدمت بعروض لا يمكن للباكستانيين رفضها، بالمقابل ستحصل الصين على فرصة إدارة جوادر وتجارتها لمدة 40 عاما.

بينما تعتبر جيبوتي قلب مشروع الحزام والطريق كما تصفها الصحافة الصينية ولم تكتف الصين بمشروع تجاري معها بل إنها أنشات في 2017 أول وجود عسكري للصين على بعد 12 كم من قادة ليمونيه الأمريكية.

ما أحاول أن أشير اليه هو على الرغم من أهمية جوادر وجيبوتي الفائقة جيوسياسيا في خطوط الملاحة الدولية لكنهما لم تحظيا بأي إهتمام غربي أو أمريكي غير التواجد العسكري المفروض، دون أن يرافق ذلك تنمية يحتاجها سكان المنطقة لتعطي أماناً مجتمعيا للتواجد الأجنبي، بينما الصين جلبت لجيبوتي قطاراً فائق السرعة يربطها بأديس أبابا وتنشأ منطقة تجارية حرة وجلبت مياه شرب بأنابيب من أثيوبيا وبناء مطار، بقيمة تتجاوز 5 مليار دولار والأغرب من ذلك إن الشكاوى من هذا التمدد لا تأتي من القارة السمراء بل من الغرب الذي لم يسهم بتنمية هذه القارة غير إستغلال موادها الخام وإبقائها تحت خط الفقر.

من غير المتوقع أن تشارك دول الإتحاد الأوربي قلق أمريكا من تنامي الظاهرة الصينية، (وهذا ما يفسر سياسة الرئيس بايدن الجديدة التي يحاول فيها تغيير هذا التوجه الأوربي)، فألمانيا التي تقود إقتصاد الإتحاد لها شراكات واسعة مع الصينيين وزودتها بتقنيات صناعية كبيرة وكثير من صناعاتها لها فروع في الصين في قطاع الألكترونيات والسيارات والقطارات فائقة السرعة، وكذلك إيطاليا التي تصدر للصين معدات صناعية متطورة و تشارك في مبادرة الحزام والطريق.

مبادرة الحزام والطريق والتمدد الصيني الذكي والمخطط بعناية يواجه مقاومة مستميتة من أمريكا والتي تفرض على حلفائها مشاركتها في خنق تمدد الصين ويمكن لهذه المقاومة أن تبطأ وتيرة المشروع الصيني لكنها لن تستطيع وأده حيث تمتلك الصين بدائل لأي ممانعة كما رأينا في تعثر مخططها مع سريلانكا في ميناء هامبانتوتا الذي إستعاضت عنه بتركيز جهدها في جوادر، وهناك مؤشرات قوية على إن اليوان سيتزاحم مع الدولار ويأخذ موقعه كمنافس مواز للعملة الأمريكية، والذي بدأ التداول فيه في السوق العالمية.

هذا الصعود السريع لقوة الصين يسبب أزمة كبيرة للولايات المتحدة وبينما تحاول الأخيرة كبح هذا الصعود عبر إجراءات أحادية لم تثبت جدواها في إفتعال حرب تجارية هائلة ومحاولات لإثارة موضوع الحريات وموضوع قومية الإيغور المسلمين في غرب الصين الذين تزداد معاناتهم من سوء معاملة الحكومة المركزية لهم كلما حاولت الولايات المتحدة أن تستخدم بعض منهم لإثارة الوضع في شينغيانغ . 

 

 د. علي الدباغ

 

 

 

في المثقف اليوم