آراء

بشير عمري: الثوابت الوطنية والحسابات السياسية في التجربة القُطرية العربية

بشير عمريتعيش التجربة الوطنية في عموم العالم العربية ودونما استثناء، أزمة مركبة ومعقدة تماما كتلك التي تعيشها مجتمعاتها الثقافية من أزمة فكرية تحول دون اندراجها في حركة التاريخ بتطوره وارتقائه، وإذا كانت الأزمة الفكرية هاته قد عبرت عن نفسها في جزئية الثنائية القاتلة الأصالة والمعاصرة كعنوان رئيس مع ما يستتبعها من ثنائيات فرعية، كالدينية والعلمانية، الذكورية والأنثوية، فإنها في المسألة الوطنية قد عبرت عن نفسها بثنائية السلطة والحرية.

لكن ما الذي يحمله مفهوم السلطة كعامل أزمة وقطب صراع دموي أزلي في التجربة الوطنية العربية؟ وما عوامل وأسباب عدم تطورها كمفهوم وممارسة في وعي وواقع التجربة القُطرية العربية لما بعد الاستقلال؟

يصر التاريخ بصارم قوانينه بوصفة مسارات لأيلولة الذات في مدارج الزمن، على أن تغدو الوطنية بحسبانها تراكما في التأمل والعمل الوطني فكرا، وتصر السياسة بحسابتها بكونها نتاجا ذاتيا شلليا أيديولوجيا على أن تظل (الوطنية) شعورا، حالة من التنافر الوظيفي تجعل الصراع قابلا للاشتعال في كل مرحلة يستوجب فيها التغيير أو التحول وفق تطورات الأنساق في عموم موضوعات ومستويات الوعي الجمعي والنخبي بها.

في عالمنا العربي الذي تضرب فيه الشمولية بأطنابها في كل مفاصله، تجمع فيه السياسة بحساباتها المجردة الكل في بوتقتها ويغتم الوجود الوطني ويتعفن داخلها ما يسفر بين المرحلة التاريخية والأخرى على براكين متفجرة دامية تعيد بل وتركس التجربة الوطنية إلى مربع البداية وبذلك تظل هاته التجربة تترنح في حواشي صفرية البداية في غير زمن ومقتضى وعي البداية، وهذا أخطر ما يتهدد هاته الكيانات الوطنية.

فالذين تنازعوا السلطة فيما بينهم بحسابات السياسة والمصالح الذاتية عشية التأسيس الوطني، استولوا على التاريخ الجمعي للأمة وللوطن وقدَّوا منه ما تصوروه النموذج الأمثل للوطنية وأضفوا عليه صفة "الثابت" وبذلك تم حبس واحتباس الوعي الوطني بوصفه منتجا وفق صفته التطورية للمعنى الوطني داخل هذا الوعاء الثابت المغلق للثوابت التي أنتجها العقل السياسي بآليته الحسابية الضيقة وليس بآليات العقلانية الفكرية المتحررة مثلما تنص وتصر عليه خصائص التاريخ.

الشعوب تتطور وتتحضر بوعيها المتحرر على المستويات ما فوق السياسية، وعليه يظل التأسيس القطري الوطني قابلا للانفتاح على النقاش التاريخي والفكري وبالتالي قابلا للتطور على الصُعد المفاهيمية ليتحول ذلك إلى انتاج فعلي في الفكر الوطني، هذا الفكر مع الأسف لا يكاد يوجد أو لا يسمح له بالإنوجاد بسبب مصادرة السياسة للتاريخ واغتنام حربي للوطنية وفق ثوابت صممت ورسمت بمنطق الحسابات السياسية التصارعية الظرفية بين مختلف الجماعات الأيديولوجية والعسكرية والشللية.

من هنا يبرز مأزق الأجيال الموقوفة في توالدها البيولوجي والأيديولوجي معا وتداولها الزمني على ركح التاريخ، عند حدود الزمن دون أن تترك تلامس هذا التاريخ وتعبر عن حضورها وترسم خطوها فيه، تمنع من أن تعبر عن نفسها وفق أشياء عصرها ومقدار ما وعته من سابق أطوار التجربة الوطنية ومما تعلمته من تراكم التجربة الإنسانية عموما، فيستحيل هكذا الخطاب الوطني إلى نسيجا من طلاسم غوغائية كمصدر للنشاز والتنافر الوطني، عندما يمتلئ بترهات اللا منطق واللا معقول من الكلام، كما صار يُتداول منذ ليلة نقض ونفض التجربة التعددية بالجزائر من أن  التزوير الانتخابي هو وسيلة ضرورية للحفاظ على الكيانات الوطنية، وتبارك وتبرر الديكتاتورية بوصفها ضرورة للحيلولة دون انفراط العقد الوطني، وحكم الزعيم أرحم من فوضى الاقتراع، وبالتالي يرتهن الانسان والمواطن العربي بشكل أزلي للسياسة ويظل على هامش التاريخ.

المفجع هنا، هو أن ترى "النخب العربية" مسلمة ومستسلمة لطغوى السياسي على التاريخي في التجربة الوطنية العربية، وتمضي خلفه بمنطق المصلحة الشخصية، غير أبهة بمصير الأمة والوطن، إن هكذا تعتيم متواصل على نور التاريخ في الباحة الوطنية المظلمة لن يكون له من ناتج فعلي غير حصار وافقار دائمين متلازمين للوطن والمواطن، وهو ما يعني في حد ذاته اللا وطنية التي امتازت بها تلك النخب، في مقابل محاولات الشعب في أكثر من محطة تاريخية لكسر هذا الحصار المفروض باسم الثابت الوطني من أجل الانعتاق والسعي للتألق في التاريخ كما تألقت عديد الأمم الأخرى.

 

بشير عمري - كاتب  جزائري

 

في المثقف اليوم