آراء

محمود محمد علي: أزمة جورج قرداحي.. مناورة سياسية

محمود محمد عليمنذ اندلاع الأزمة بين المملكة العربية والسعودية والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من المعقول أن تصريحات وزير الإعلام اللبناني "جورج قرداحي" قبل أن يصبح وزيراً للإعلام يمكن أن تؤدى إلى أزمة بهذا الحجم بين البلدين يمكن أن تؤدي إلى أزمة من شأنها أن تحمل آثاراً كارثية على سواء من خلال المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ولكى نفهم الأسباب الحقيقية للموقف السعودى المتشدد تجاه لبنان فلا تشغل نفسك بتصريحات "جورج قرداحي"، لأن الموقف السعودي لا علاقة له لا بقرداحي ولا بتصريحاته ولو لم تكن هناك تصريحات قرداحي لبحثت المملكة العربية السعودية عن سبب آخر لمعاقبة الحكومة اللبنانية والقوى اللبنانية السياسية الأخرى .

الأسباب الحقيقية موجودة في أربع مدن ليس من بينها بيروت، وأقرب مدينة من هذه المدن الأربعة على بعد ألف كيلو متر تقريبا من بيروت، وهي العاصمة العراقية بغداد، أما المدن ألخرى فهي طهران ومأرب اليمنية والعاصمة الأمريكية واشنطن.. القضة باختصار أن هناك مفاوضات صعبة وربما متعثرة بين السعودية وإيران في العاصمة العراقية بدات في إبريل الماضي، وفي هذه المفاوضات الصعبة يسعي كل من الطرفين: السعودية وإيران لتعزيز أوراقهما التفاوضية، فاختارت إيران التصعيد العسكرى في مارب، واختارت السعودية الرد في بيروت، كيف ؟ .. ولماذا؟ .. وهذا يقتضي أن نفهم القصة من البداية !!

والقصة هنا هي قصة الأزمة والمعروفة بأزمة " جورج قرداحي".. الأزمة بين السعودية ولبنان تبدو ظاهريا وأنها قد نتجت عن تصريحات " جورج قرداحي"، وقد كان الإعلامي المعروف " جورج قرداحي" قد أصبح وزيرا للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي الحالية، والتي تشكلت في شهر سبتمبر الماضي، وقبلها بنحو شهرا حل الإعلامي " جورج قرداحي " على برنامج  والمعروف ببرلمان الشعب على قناة الجزيرة، وهو برنامج افتراضي حيث يلعب فيه شباب دور البرلمانيين ويلعب فيه الضيف دور المسؤول، والبرلمانيون يستجوبون المسؤول .. لا الشباب برلمانيين ولا " جورج قرداحي" مسؤوا .. برنامج افتراضي لطيف ومسلي .. الشباب سألوا " جورج قرداحي" أسئلة كثيرة، ومن يتابع الحلقة إن أراد فتقديري أن " جورج قرداحي أراد أن يرضي الجميع، لكنه تورط في السؤال الخاص بالحوثيين .. هل لنه لم يكن مستعدا للسؤال؟ .. اعتقد أنه لم يكن مستعدا للسؤال .. لكن سواء إن لم يكن مستعدا أو أنه عن قصد أراد أن يعبر عن وجهة نظره بوضوح، فقد أساء للمملكة العربية السعودية، وذلك لأنه وصف حرب اليمن بأنها حرب بلا طائل، وما لا تستطيع المملكة العربية السعودية وحلفائها تحقيقة في سبع سنوات، فمن الغير المنطقي أن تتوقع أن تحققه في السنوات المقبلة، واعتبر قرداحي أن الحوثين في حالة دفاع عن النفس أمام عدوان خارجي، أي أن السعودية وحلفائها يعتدون على اليمن على الحوثيين .

وبطبيعة الحال فإن هذه التصريحات لا يمكن أن ترضي المملكة العربية السعودية على الإطلاق، لكن "جورج قرداحي" سارع بالتفسير والرد، وقال: ما قلته في هذا البرنامج، كان مسجلا قبل أن أصبح وزيرا، أي أنه كان يعبر عن آراءه الشخصية، بل أراد قرداحي أن يبعد أكثر من ذلك ويعبر عن حبه للسعودية وللأمارات العربية باعتبارهما وطنا ثانيا له، وقال: أما وقد اصبحت وزيرا، فأنا أعبر عن الموقف الرسمي للحكومة اللبنانية، وهذا الموقف الغرض منه هو دعم السعودية وحلفائها في اليمن علي حربهما على الحوثيين، واعتبار الحوثيين تمثل قوي انقلابية، وأن حرب السعودية في اليمن هي حرب شرعية ومشروعة .

وفي كل الحوال فإن هذا التفسير لم يرضي الحكومة السعودية التي صعبت الأمور أكثر وأكثر، فقامت باستدعاء سفيرها من بيروت، وقامت بطرد السفير اللبناني من السعودية، واعقبت هذين القرارين بمنع الصادرات الللبنانية إلى المملكة العربية السعودية، وتجاوب مع المملكة كل من اكلويت والإمارات والبحرين، واتخذوا نفس الحطوات التي اتخذتها المملكة تقريبا، وهو الأمر الذي وضع حكومة نجيب ميقاتي في مأزق، وذلك لأن ميقاتي أمام واحد من إختيارين، وهو إما أن يقيل " جورج قرداحي "، أو أن يبقي عليه !! .. إن أقاله فهذا يعني تقريبا إنهيار الحكومة اللبنانية !!.. علاوة علي أن جورج قرداحي ينتمي إلى تيار " المردة"، هو حزب سياسي لبناني يرأسها حاليا الوزير السابق سليمان طوني فرنجيّة الذي قادت عائلته تقليديا التنظيم، وهو أيضا واحد من الأحزاب المارونية في لبنان .. ولبنان مقسمة إلى مجموعة من القوي الرئيسية: المسيحيين الموارنة، وباقي الطوائف المسيحية الأحري، والموارنة هم أكبر طائفة مسيحية في لبنان، إضافة إلى الشيعة والسنة ..  وكل كتلة من هؤلاء من هذه الكتل الطائفية الثلاثة توجد طائفة أخرى من الأحزاب، وتيار المردة يعد حزب مسيحي ماروني من ألحزاب المسيحية الأخري وهو متحالف مع حزب الله، ومن ثم فوجود " جورج قرداحي " معناه أنه يمثل تلط اطلائفة المسيحية بتحالف مع حزب الله، وهذا ما يعني في أنه لو أُجبر على الاستقالة فربما يؤدي ذلك إلى سقوط حكومة ميقاتي بلا شك، وذلك أسوة بما حدث في 2011 عندما قرر أيضا حكومة حزب الله أو وزراء حزب الله والمتحالفون معه الإنسحاب من حكومة سعد الحريري احتجاجا على المحكمة الدولية للتحقيق في اغتيال " رفيق الحريري" عام 2005 ومن ثم سقطت حكومة الحريري .. وإذا قرر ميقاتي الإبقاء على جورج قرداحى سوف يعني ذلك غضبا سعوديا خليجيا يساوي شلل للاقتصاد اللبناني، حيث لينان تتفنس اقتصاديا من مجموعة من المصادر الخارجية وعلى رأشها الخليج وتحديدا السعودية، الأمر الذي يعني أيضا سقوط حكومة ميقاتي .

طبعا من الممكن أن يتقدم " جورج قرداحي " باستقالته ويتم نزع فتيل الأزمة مؤقتا، لكن سوف تظل الخلافات الجذرية بين السعودية من ناحية، وبين حكومة ميقاتي والقوي السياسية اللبنانية كما هى، الأمر الذي يأخذنا إلى  السؤال الذي كنا قد طرحناه في أول المقال وهو: هل تصريحات جورج قرداحي تستحق كل هذه التبعات ؟

والإجابة كما بينا وهو أن الموقف السعودي لا علاقة له بتصريحات قرداحي، والذي يقول ذلك هو وزير الخارجية السعودي وهو الأمير فيصل بن فرحان"، وهذا الأمير في تصريحات متكررة منها تصريحات قناة CNBC في 31 أكتوبر الماضي قال أنه لا يعتقد أن ما يجري بين السعودية ولبنان يمكن أن يوصف بأنه أزمة، ونحن توصلنا إلى خلاصة بان التعامل مع لبنان وحكومته الحالية لم يعد مثمرا أو مفيدا .. وأضاف مع سيطرة حزب الله على المشهد السياسي ومع ما نراه من امتناع مستمر من هذه الحكومة والقداة السياسيين اللبنانيين عامة امتنعهم عن تطبيق الاصلاحات الضرورية أي دفع لبنان باتجاه تغيير حقيقي، فقد قررنا أن التواصل لم يعد مثمرا ولا مفيدا وفي مصلحتنا ..  (ومن المعروف أن مفهوم الإصلاحات الضرورية يعني محاصرة الضاري لحزب الله في لبنان وبلبنان من وجهة نظر السعودية على الأقل) .. كما قال الوزير: مع استمرار سيطرة حزب الله على المشهد السياسي، ومع ما نراه من امتناع مستمر من هذه الحكومة والقادة السياسيين اللبنانيين عامة عن تطبيق الإصلاحات الضرورية، والإجراءات الضرورية لدفع لبنان باتجاه تغيير حقيقي، قررنا أن التوصل لم يعد مثمرا أو مفيدا، ولم يعد في مصلحتنا " ... وعما إذا كان تصريح قرداحي عن ان الحرب في اليمن بلا جدوى هو أيضا ما خلصت إليه السعودية وتحاول الخروج من اليمن، قال الأمير فيصل بن فرحان إن " تصريحات الوزير عرض لواقع، واقع أن المشهد السياسي في لبنان ما زال يسيطر عليه حزب الله، وهو جماعة إرهابية، وبالمناسبة تقوم بتسليح ودعم وتدريب مليشات الحوثيين " .. واضاف وزير الخاريجة السعودي: " بالنسبة لنا، الأمر أكبر من تصريحات وزير واحد، إنه مؤشر على الحالة التي وصلت إليها الدولة الللبنانية " .. الخلاصة هو أن السعوديين عاضبون ليس من تصريحات قرداحي بل إن تصريحاته كانت مجرد شرارة، ولكن غاضبون بسبب نفوذ حزب الله ومن وراءه إيران .. لكن إذا كان السبب هو حزب الله وإيران فيمكننا أن نطرح هذا السؤال: ما هو الجديد ؟ .. إن حزب الله هو القوة الأكبر سياسيا وعسكريا في لبنان منذ سنوات طويلة، وعلاقة حزب الله بإيران معروفة للقاصي والداني منذ تأسيسه في لبنان عام 1982 لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولولا الدعم الإيراني لحزب الله منذ ذلك الوقت ما بقي حزب الله للآن ..

إن الجديد كما يري الأستاذ سيد جبيل يمكن فهمه من خلال مجريات الأحداث في بغداد ن حيث تجري مفاوضات بين إيران والسعودية والتي كانت قد بدأت في إبريل الماضي واستمرت لأربعة جولات، وهذه المفاوضات إما أنها صعبة جدا، أو أنها متعثرة، وذلك بسبب الخلاف بين الإيرانيين والسعوديين (حيث حاول السعوديون أن يمدهم إلى الإيرانيين لعدة أسباب من أبرزها التغير الكبير في الإدارة الأمريكية والسياسات الأمريكية في المنطقة، فأردت السعودية أن تعالج مشاكلها الخاحرية بالتفاوض مع المصدر الأساسي لتلك المشاكل، وهي إيران، وقد قبلت إيران ذلك لتخفيف الضغوط الإقتصادية الواقعة علي عاتقها، لكن هناك اختلاف على آلية الوصول لتلك الأهداف، حيث إن أهم شئ ترغب فيه السعودبة من التفاوض هو تهدئة الجبهة اليمينية، فالسعوديون يدركون أن الحوثيين ليس إلا مخلب قط صنعه الإيرانيين للسعوديين وبالتالي لا بد من التهدئة والضغط على الحوثيين للدخول في التفاوض.. الإيرانيون مستعدون لتحقيق هذا الهدف ولكن ليس الآن، لأن من صملحة الإيرانية أن يتأخروا قليلا على الأقل لعدة شهور حتى ينتهى الحوثيون بدعمهم من إتمام السيطرة على محافظة مأرب .. ومن المعروف أن الحرب في اليمن بدأت في 15 مارس 2015 وكان توقع السعوديون أن هذه الحرب سوف تُحسب خلال أسابيع وعدة شهور، إلا أنها استطالت لسبع سنوات ولا يدبو أن لا نهاية لها تلوح في الأفق، وخلال تلك السنوات نجح للأسف الحوثيون في السيطرة تقريبا على كامل الشمالية، وتبقي فقط محافطة مارب، وهذه المحافطة تمثل آخر معقل رئيسي لحومة الرئيس هادي، وهي الحكومة الشرعية التي تدعمها السعودية، ولذلك فهي بالغة الأهمية إلى الحد الذي يدفع عدد من العسكريين والسياسيين والمراقبين لاعتبارها نقطة حسم يمكن أن تنهي نهاية أو مصير تلك الحرب الطويلة، وذلك لأنه تمكن الحوثيين السيطرة علي مأرب فهذا سيترتب عليه مجموعة من النتائج لكل الأطراف، حيث إنه بالنسبة للحوثين فهذا يجعلهم يسيطرون بالكامل على اليمن الشمالية تقريبا وبالتالي سوف يصبحون بلا أي مافس لهم في اليمن الشمالية، وبالنسبة لكامل اليمن فسنكون أمام " يمن منفصل" بشكل عملي تماما، ؛ أي يمن شمالي يحكمه الحوثييين، ويمن جنوبي يحكمه المجلس الانتقالي الراغب في الانفصال بحنوب اليمن عن شماله ..

ونعود إلي السؤال الذي بدأناه ولا بد أن ننهيه .. وهو ما الآثار المترتبة المترتبة علي المملكة العربية السعودية إذا نجح الحوثيون الانتصار في معركة مارب سوف يسيطرون على كامل اليمن الشمالية ؟ .. وهذا أحد سيناريوهات أحلاهما بالغ المرارة للمملكة العربية السعودية .. والسيناريو الأيجابي والأقل ضررا وهو أن الحوثيين إذا سيطروا علي محافطة مأرب سوف يقبلون بمفاوضات مع السعودية على مستقبل العلاقة بين البلدين، لكن في هذه الحالة سوف يتفاوض الحوثيون ومن ورائهم إيران من موقع القوة، وبالتالي يستطيعوا أن يملوا شروطهم، وهذا أمر صعب جدا تقبله المملكة العربية السعودية، لأنها هذا معناه أنها ستسمح لإيران بالتمدد علي كامل حدودها الشرقية ...

هذا هو السيناريو الجيد، أما السيناريو السيئ، وهو أن يسيطر الحوثيون علي محافظة ما{ب، وهذا لن يتم في نظر المملكة وبالتالي السيطرة علي كل اليمن الشمالية وخليج عدن وبحر العرب والطرق المؤدية إلى باب المندب والبحر الأحمر ولا يكتفوا بذلك ولكن يواصلون استفزازتهم للسعودية ... وهنا نجد أن إيران من وقت آخر تلمح بأنه إذا استطالت الحرب فقد لا يكتفي الحوثيون بالسيطرة علي اليمن الشمالية فقط ولكن يمكن أن يعيدو النظر في اتفاق الطائف الذي تم توقيعه بين البلدين بعد انتصار السعوديون على اليمن عام 1934 وأدى إلى سيطرة المملكة العربية السعودية علي ثلاثة مناطق كانت محل نزاع مع اليمن وهي: ونجران، عسير، وجيزان، الأمر الذي يمثل تهديد لوحدة السعودية ومنازعة السعودية في حدودها الجنوبية .. لا شك أنها نتائج خطيرة، وهنا نجد أن السعودية لن تتنظر أن يصل الحوثيون لمرادهم بالسيطرة علي محافظة مأرب، ومن ثم تكون المفاوصات التي كانت تتمناها السعودية منإيران لم تعد مجدية ..

وهنا نستنتج من كل ما سبق بأن المفاوضات التي جرت بين السعودية وإيران في بغداد ستشهد نوع الفتور أو التعثر، وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية السعودي عندما قال بأن المفاوضات والمباحثات التي كانت بيننا وبين الإيرانيين دافئة، إلا أنها لم تحقق شيئا يذكر، وكذلك عبر عنها وزير خارجية إيران حين قال: المفاوضات مع السعوديين تسير ببطء شديد.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع

1- سيد جبيل: المهمة الأخيرة لإيران في اليمن تشعل العلاقات السعودية اللبنانية.. يوتيوب..

2-  صواريخ أمريكية للسعودية.. هل تغير معادلة الحرب مع الحوثيين؟.. روسيا اليوم.. يوتيوب..

3- هل تتحول أزمة لبنان مع السعودية لقطيعة شاملة؟ .. روسيا اليوم.. يوتيوب..

 

 

في المثقف اليوم