آراء

محمود محمد علي: أنجيلا ميركل.. هل آن الأوان للمغادرة؟

محمود محمد عليلن أنسي أنجيلا ميركل تلك المرأة الحديدية والتي جاءت قادمة من ألمانيا الشرقية وهي تحمل لقب عالمة أبحاث ألمانيا الشرقية، تحمل شهادة دكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، ثم دخلت ميركل السياسة في أعقاب ثورات 1989، وذلك بعد تحطيم جدار برلين وتوحيد ألمانيا، في بداية التسعينات من القرن الماضي، تحولت، خلال ستة عشر عاماً من الحكم، إلى أيقونة سياسية ألمانية، طال تأثيرها الساحة الدولية.

يقول مثل شعبي إسباني: «المصارع الجيد يغادر الحلبة قبل أن تنطحه الثيران». ربما لذات السبب، قررت السيدة ميركل بمحض إرادتها، وفي أوج مجدها السياسي، العمل بتلك الحكمة الإسبانية.

وقبل أشهر، أعلنت ميركل استقالتها من رئاسة حزبها، وأنها ستعتزل السياسة نهائيا بعد نهاية الفترة التشريعية الحالية في 2021، لكن الوقت لم يمنحها الفرصة لاستكمال ولايتها دون قلاقل، وتتابعت المشاكل السياسية تارة والصحية تارة على المستشارة.

وتحظى ميركل المعروفة بحبها للموسيقى الكلاسيكية ومواظبتها على حضور حفلات الأوبرا بحب واحترام الجاليات العربية في ألمانيا، وأطلق عليها السوريون "ماما ميركل" بسبب قرارها فتح الأبواب أمام مليون لاجئ لدخول بلادها في 2015، معظمهم من سوريا والعراق، وتحملها تكلفة سياسية ألقت بظلال على شعبيتها في سبيل هذا القرار.

وقبل اعتلائها كرسي المستشارية عام 2005 عُرفَ عن الناخبين الألمان، في الانتخابات النيابية، عزوفهم عن الإدلاء بأصواتهم لأشخاص، وحرصهم على التصويت لأحزاب. طبيعة النظام السياسي الألماني، ونظامه الانتخابي القائم على مبدأ التمثيل التناسبي (Proportional Representation)  حتّم عدم انفراد حزب بالسلطة، بجعل الحكم ائتلافياً. وبعد وصولها إلى قيادة ألمانيا، تغيّر الحال. وصارت شخصية المستشارة أنجيلا ميركل الحصان الرابح، من قاد المحافظين الألمان، ممثلين في الحزب الديمقراطي المسيحي إلى السلطة أربع مرات متتالية.

السيدة القادمة من ألمانيا الشرقية، بعد تحطيم جدار برلين وتوحيد ألمانيا، في بداية التسعينات من القرن الماضي، تحولت، خلال ستة عشر عاماً من الحكم، إلى أيقونة سياسية ألمانية، طال تأثيرها الساحة الدولية. يقول مثل شعبي إسباني: «المصارع الجيد يغادر الحلبة قبل أن تنطحه الثيران». ربما لذات السبب، قررت السيدة ميركل بمحض إرادتها، وفي أوج مجدها السياسي، العمل بتلك الحكمة الإسبانية.

وفي آخر كلمة تلقيها إلى الشعب بمناسبة حلول عام جديد، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن عام 2020 كان الأصعب على الإطلاق خلال قيادتها ألمانيا على مدى 15 عاما، لكن بدء التطعيم للوقاية من مرض كوفيد-19 جعل عام 2021 يبشر بالأمل.

وفي تعبير نادر عن مشاعرها، نددت ميركل بحركة احتجاج معارضة لإغلاق المؤسسات وإجراءات العزل العام، وقالت إنها ستتلقى اللقاح عندما يكون متاحاً على نطاق واسع.

وقالت: "دعوني أقل لكم شيئا شخصيا في الختام: بعد تسعة أشهر ستجرى انتخابات برلمانية ولن أترشح مرة أخرى... ومن ثم فإن اليوم في جميع الحالات سيكون آخر مرة ألقي عليكم فيها كلمة بمناسبة العام الجديد".

وأضافت "أظن أنني لا أبالغ عندما أقول: لم يحدث قط على مدى الخمسة عشر عاما الماضية أن كان العام المنصرم بهذا القدر من الثقل. ولم يحدث قط، رغم كل المخاوف وبعض الشكوك، أن كان تطلعنا إلى العام الجديد بهذا القدر من الأمل".

وقادت ميركل (66 عاما) ألمانيا والاتحاد الأوروبي خلال أزمات منها الأزمة المالية في عام 2008 وأزمة الديون اليونانية في العام التالي وأزمة المهاجرين قبل خمسة أعوام.

وسيكون لرسالتها صدى لدى غالبية الناس في بلد يعاني من زيادة في الإصابات والوفيات بفيروس كورونا وحيث تؤيد الغالبية إجراءات الإغلاق وتوزيع اللقاح باعتبارهما أفضل سلاحين في مواجهة الفيروس.

وميركل فيزيائية كانت إدارتها للجائحة موجهة بالمشورة العلمية. وقد حظيت بإشادة لسيطرتها على الموجة الأولى، لكن ذلك تحول إلى انتقاد وسط إحساس بفشلها في التعامل مع الموجة الثانية.

وتجري ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، انتخابات في سبتمبر/ أيلول 2021. وستسلم ميركل، المتوقع أن يفوز حزبها المحافظ بمعظم مقاعد البرلمان، القيادة على الأرجح لواحد من ثلاثة رجال يتنافسون على قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.

وإذا امتدت عملية بناء التحالف الحاكم بعد الانتخابات حتى ديسمبر/ كانون الأول فستبقى ميركل هي المستشارة في حكومة مؤقتة في عام 2022 إلى أن يتم تشكيل حكومة جديدة.

والجدير بالذكر والمقارنة أن السيدتين تاتشر وميركل لم تدرسا علم السياسة أو الفلسفة أو القانون أو الاقتصاد، مثل أغلبية السياسيين، بل درستا العلوم التطبيقية. السيدة تاتشر درست الكيمياء في جامعة أكسفورد. لكنها ندمت فيما بعد على ذلك، حين اعترفت مرّة بأنها تمنّت لو درست القانون، حتى تتهيأ بشكل أفضل للعمل في السياسة، التي شغفت بها مبكراً. لكن السيدة ميركل تميزت بمواصلة دراستها العليا إلى حين حصولها على شهادة الدكتوراه في كيمياء الكم (Quantum Chemistry). الاثنتان جاءتا من خلفية اجتماعية تكاد تكون متشابهة، ومحافظتان، حظيتا بثقة الناخبين في بلديهما. السيدة تاتشر قادت المحافظين إلى ثلاث نجاحات انتخابية هائلة، وجلست في مقعد القيادة لمدة أحد عشر عاماً من دون منافس، وصارت علماً على مرحلة مهمة في التاريخ البريطاني المعاصر، ما زالت آثارها ملحوظة حتى اليوم. وميركل قادت الديمقراطيين المسيحيين إلى الفوز بأربعة انتخابات، وسيطرت على مقاليد الساحة السياسية الألمانية، من دون منافس، لمدة ستة عشر عاماً. وأتوقع أن تظل تأثيرات مرحلة السيدة ميركل قائمة لفترة زمنية طويلة مستقبلاً. ما يفرقهما اختلاف في الجوهر والأسلوب: تاتشر امرأة حديدية لا تلين ولا تتراجع، ودرامية، بينما السيدة ميركل متسقة ومتواضعة. آمنت تاتشر بالحرية الاقتصادية للفرد، وصرّحت علناً بعدم وجود مجتمع، وتخلصت من الممتلكات العامة ببيعها للقطاع الخاص، وشنت حرباً ضروساً ضد الجامعات، وحرمتها من نسبة كبيرة من التمويل المخصص للبحوث. ولذلك، وعلى عكس العادة المتّبعة مع رؤساء الحكومات البريطانيين، رفضت الجامعات البريطانية في عام 1985 منحها شهادة الدكتوراه الفخرية. في حين أن ميركل ترأست دولة كانت تنفق ثلث ميزانيتها على التعليم، وبعينين راعيتين للفقراء وحريصتين على توفير احتياجاتهم، وتمكنت من تحويل ألمانيا إلى قوة اقتصادية هائلة عالمياً. السيدة تاتشر دُفعت خارج السلطة، ولدى سقوطها من القمة، تنفست أوروبا الصعداء ارتياحاً. السيدة ميركل غادرت المسرح طواعيةً، وبخر.

ولم يكن إعلان المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل تخليها عن قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي مفاجئاً. التراجع الكبير الذي مُني به هذا الحزب في انتخابات ولاية هيسن، حيث فقد 11 نقطة دفعةً واحدة، جعل موقفها أكثر ضعفاً. لكن التراجع الذي سبقه في الانتخابات البرلمانية العامة (على المستوى الفيدرالي) في سبتمبر 2017، كان نقطة التحول التي جعلت خروج ميركل من الساحة السياسية عموماً، وليس تخليها عن قيادة حزبها فقط، مسألة وقت. فرغم احتفاظ حزبها بالمركز الأول، كانت نتيجة هذه الانتخابات هي الأسوأ بالنسبة إليه منذ عام 1949. وعندما حدث التراجع في أول انتخابات محلية خاضها حزبها، بعد تلك الانتخابات، أصبح عليها أن تجيب عن سؤال ظل مطروحاً منذ أواخر العام الماضي، وهو: هل تنسحب تدريجياً، أم تتخلى عن قيادة حزبها أولاً، أم تنتظر اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العامة 2021؟ كان عليها أن تجيب بسرعة، لأن المؤتمر العام لحزبها سيُعقد في 7 و8 ديسمبر المقبل في هامبورج. وأجابت بالفعل عندما أعلنت أنها ستتخلى عن قيادة الحزب أولاً، وبالتالي لن تسعى إلى تجديد انتخابها في هذا المؤتمر، لكنها ستحتفظ برئاسة الحكومة حتى عام 2021.

ليس سهلاً تقييم قرار ميركل، من زاوية مدى قدرتها على الاحتفاظ برئاسة الحكومة حال انتخاب رئيس للحزب يختلف مع توجهاتها. لكن مؤدى قرارها هو تجنب خوض انتخابات داخلية باتت صعبة داخل حزبها. والأرجح أنها توقعت أن يزداد موقفها ضعفاً إذا فازت في انتخابات الحزب بصعوبة، أو بفرق طفيف، ناهيك عن أن تخسرها. لذلك فضلت تجنب خوض هذه الانتخابات والتخلي عن قيادة الحزب بإرادتها.

لكن هل فكرت ميركل في تداعيات انتخاب رئيس جديد يختلف مع توجهاتها على نحو قد يؤثر سلبياً على أدائها في رئاسة الحكومة؟ يصعب تصور أنها لم تفكر في ذلك. لكن ربما وجدت أنها تستطيع احتواء آثار مثل هذا التطور حال حدوثه اعتماداً على مكانتها السياسية في أوروبا، وليس في ألمانيا فقط.

غير أن استمرار ميركل في رئاسة الحكومة الألمانية حتى 2021 لم يعد أكيداً، لأنه سيتوقف على نتيجة الانتخابات الداخلية في ثمانية مؤتمرات حزبية وصولاً للمؤتمر العام الشهر المقبل، وتوجهات الفائز بزعامة الحزب. ورغم أنها لم تعلن انحيازها لأي من الطامحين لخلافتها، فهي تأمل أن تفوز الأمين العام للحزب إنجريت كارينباور التي تتبنى توجهاتها وخطها السياسي.

لذلك توصف في ألمانيا بأنها " ميني ميركل"، لكن التنافس في هذه الانتخابات قوي، وقد بدأ فور إعلان ميركل تخليها عن قيادة الحزب، لأن الوقت الباقي حتى موعد إجرائها قصير للغاية. فرصة كارينباور التي يتيح فوزها استمرار ميركل في رئاسة الحكومة من دون منغصات من داخل حزبها، ليست قليلة، رغم أن شخصيتها تبدو باهتة. ميركل نفسها كانت أميناً عاماً للحزب، مثل كارينباور الآن، بين نوفمبر 1998 وأبريل 2000، أي أن وجودها في هذا الموقع فتح لها الطريق إلى القيادة.

لكن منافس كارينباور الأول، فريدريش ميرتيز، يملك فرصة كبيرة هو أيضاً. ورغم أن لديه ثأراً مع ميركل التي أزاحته عن طريقها للصعود إلى قيادة الحزب، ثم انتزعت منه رئاسة كتلته البرلمانية عام 2002، فهو يبدو حريصاً على ألاَّ يخسرها مؤقتاً، إذ أثنى عليها عند إعلان ترشحه.

لذلك في الانتخابات البرلمانية القادمة ، لن يكون اسمها ضمن قائمة أسماء المتنافسين. وقد لا يكون مهماً اسم مَن سيجلس بعدها على كرسي المستشارية في السنوات الأربع القادمة، ومن أي الأحزاب، لكن هل سيتمكن من ملء كرسي المستشارية بجدارة كما كانت تفعل هي، وهل سينجح في الحفاظ على ما أنجزته لألمانيا، والمراكمة عليه؟ وقد يكون السؤال الأهمّ: هل سنكون شهوداً على مرحلة سياسية جديدة في ألمانيا، مثل تلك التي حدثت في بريطانيا بعد خروج السيدة مارغريت تاتشر من المسرح؟

ويتنافس ثلاثة مرشحين على المنصب، هم المعتدلان أرمين لاشيت، الذي يرأس منطقة شمال الراين وستفاليا، والخبير في السياسة الخارجية نوربرت روتغن، إضافة إلى الليبرالي فريدريش ميرتس، خصم ميركل التاريخي والداعي إلى نهج أكثر يمينية.

وأسفرت نتائج التصويت عن حصول أرمين لاشيت على نسبة 77،5 بالمئة، وفق ما أفاد مشاركون، بينما حصل زودر على 22,5 بالمئة.

وقال متحدث باسم الحزب المسيحى الديمقراطى إن 31 من أعضاء المجلس دعموا لاشيت وصوت تسعة لصالح منافسه ماركوس زودر رئيس الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري. وامتنع ستة أعضاء عن التصويت.

يشار أن المنافسة كانت قد اشتدت بين لاشيت رئيس وزراء ولاية شمال الرين ويستفاليا على دعم قيادة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي ضد ماركوس زود الذي رفض الانسحاب، مشيراً إلى أنه يتمتع بشعبية أكبر بين الألمان إضافة إلى دعم نواب التحالف المسيحي له .

يذكر أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سوف تنتهى ولايتها في سبتمبر القادم وسيتم إجراء انتخابات برلمانية واختيار مستشار جديد لألمانيا وسيتم خروج ميركل من السلطة بعد 16 عاماً من الحكم .

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

........

الهوامش

1- جمعة بوكليب: أنجيلا ميركل... أوان المغادرة.. مقال منشور بالعربية بتاريخ السبت 23 ربيع الأول 1443 هـ - 30 أكتوبر 2021.

2- بول كيربي: الانتخابات الألمانية: فوز الحزب الاشتراكي الديمقراطي على حزب ميركل بفارق ضئيل.. مقال منشور بتاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 2021.

3- متى تنتهي حقبة المستشارة أنغيلا ميركل؟ | سياسة واقتصاد – DW بتاريخ Apr 24, 2019.

4- حسام حسن: أنجيلا ميركل.. هل تنتهي حقبة المرأة الحديدية في 2020؟.. مقال منشور بالعين الإخبارية بتاريخ  الأحد 2019/12/22 10:56 ص بتوقيت أبوظبي.

5- وحيد عبد المجيد: هل تبقى ميركل حتى 2021؟.. مقال منشور بجريدة الاتحاد بتاريخ السبت 23 ربيع الأول 1443 هـ - 30 أكتوبر 2021.

 

 

في المثقف اليوم