آراء

محمود محمد علي: الفتنة الطائفية في مصر.. الخنجر المسموم

محمود محمد عليتطل علينا الأحداث الطائفية في مصر بوجهها القبيح بين الحين والآخر، وكلما نغلق ملف حدث طائفيا يخرج لنا حدث آخر يجتذب المناقشات ويجعلنا نتبادل المشاعر السلبية ونتبادل الاتهامات ونتساءل من المستفيد؟.

وهنا أقول إن التعصب هو المادة الخام لكل فتنة، وله ميكانيكية ثابتة عبر كل العصور وكل المجتمعات، فالأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه، ويخطئ من يؤرخ دائما بأن الفتنة الطائفية في مصر بدأت منذ أحداث الخانكة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وإذا كنا نريد أن نفهم حقا عمق ودلالة ما يصيب الوطن من أحداث بين الحين والآخر، تحاول جاهدة أن تشق الصف المصري وتضرب الوحدة الوطنية في مقتل، فعلينا أن نبحث في تاريخنا عن جذور هذه الأحداث ونحللها ونحاول فهمها حتي نتمكن من علاجها، فالتشخيص هو أصل التحكم في الداء.

ومنذ دخول الإنجليز أرض مصر في عام 1882، لم يتأخر البريطانيون - وهم المستعمرون العتاة - ففي زرع الفتنة الطائفية والتوتر الديني في مصر، وقد بدا هذا من خلال التعليم ومناهجه التي تفرق بين المسلمين والمسيحيين، كما حاول الإنجليز بقيادة المعتمد البريطاني لورد كرومر تقسيم مصر إلى أقباط ومسلمين كما نجحوا في الهند، لكنه فشل في المخطط .

وبناء عليه ليس مصادفة أن تنهض الحركة الوطنية في وجه مخططه الهادف لإثارة الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين وهى السياسة التي نقلها من الهند في التفريق بين المسلمين والهندوس.

لم يكن مطروحا على الفكر المصري الحديث عن حقوق المسيحيين، لأن أوضاع الأقباط كانت مطابقة للمسلمين، فعندما دخل الإسلام مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الرومانى وكان ذلك أحد العوامل في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية، فأصبحت اللغة السائدة لدى الجميع مما صنع نوعاً من التصور والوعى والتفكير المشترك.

وقد وقفت الكنيسة المصرية ضد عمليات التبشير الأوروبى, حتى أن البابا كيرلس اشترى مطبعة ليواجه بها منشورات التبشير الذى رآه خطراً على الأرثوذكسية المصرية قبل أن يكون خطراً على الإسلام، كما وقف بطريرك الأقباط مثل مشايخ الإسلام وحاخام اليهود مع الثورة العرابية عام 1882 في صراعها مع الخديوي توفيق.

بل إن محمد على باشا من قبل كان قد أمر موظفيه باستقبال بطريرك الأقباط بشكل رسمي أثناء زيارته للكنائس في أي مدينة مصرية.. لهذا نهض رواد النهضة المصرية في مثل هذا الوقت لمواجهة مخطط كرومر، مثل جهود أحمد لطفى السيد والإمام محمد عبده والشيخ على يوسف.

فمثلا هناك مقولة للشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد تقول »ما المسلمون المصريون إلا أقباطا أسلموا، "وأضاف عليها مصطفى كامل عبارة "وهل يغير المعتقد الدم".. من هنا خرجت مقولة " مصر للمصريين "و" وحدة الهلال والصليب"، كلها لمواجهة مخطط كرومر!

علاوة علي أن مشاعر الطبقة الوسطى المصرية كانت في ذلك الوقت طوال النصف الأول من القرن العشرين على الأقل تتسم بدرجة عالية من الرقى والتحضر مثلما كانت سمات أخرى كذوقها الأدبي والفني بل حتى مواقفها السياسية.

فى ذلك الوقت روى عن مكرم عبيد - السياسي القبطي والخطيب الفذ، والوزير لبعض الوقت - قوله: "إنه قبطي دينا ومسلم وطنا".

ولا أنس أنه أثناء اندلاع صورة 1919 شارك الأقباط مشاركة فعلية وقبلية في جميع أحداثها، حيث يروي الكاتب الكبير مطفي أمين في مذكراته، " أن أعضاء الوفد من الأقباط ظلوا صامدين إلى جوار سعد أكثر من كثير من أعضاء الوفد المسلمين .. وأعضاء الوفد الذين نفاهم الإنجليز إلى شيشل كانوا ستة، أربعة منهم من السلمين هم سعد زغلول، وفتح الله بركات، ومصطفي النحاس، وعاطف بركات، واثنان من الأقباط هما سينوت حنا، ومكرم عبيد . واعضاء الوفد الذين حكم عليهم بالإعدام كانوا سبعو، ثلاثة من المسلمين هم : حمد باسل، ومراد الشريعي، وعلوي الجزار، وأربعة من الأقباط هم : مرقص حنا، وواصف غالي، وجورج خياط، وويصا واصف .. وقد أراد الإنجليز أن يثنوا واثف غالي عن كفاحه الثوري فقالوا له : كيف تضع يدك في يد من قتلوا والدك (المرحوم بطرس غالي – رئيس مجلس الوزراء) فقال لهم : "أفضل أن أضع يدي في يد من قتلوا أبي على أن أضع يدي في يد من قتلوا وطني".

كذلك لن أنشي أنه أنه فى يوم 24 يوليو 1965 قام قداسة البابا كيرلس السادس  بوضع حجر أساس الكاتدرائية الجديدة للأقباط بحضور رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر الذى كانت تربطه به علاقة مودة متميزة وفى ذلك اليوم أمر الرئيس جمال عبد الناصر بصرف 100 ألف جنيه مساهمة من الدولة في البناء, وفى 25 يونيو 1968 قام الرئيس جمال عبد الناصر مع قداسة البابا كيرلس السادس بافتتاحها, وقد حضر الافتتاح الإمبراطور هيلا سلاسى إمبراطور أثيوبيا وممثلي مختلف الكنائس، وقد عبر الجميع عن مشاعر الفرحة والبهجة لهذا الحدث.

ولكن يبدوا أن الأمور تغيرت فيما بعد وخاصة منذ عام 1972، عندما ظهر على السطح فريقين في مصر يعانيان كما يقول المستشار طارق البشري من فقدان الأمن الجماعي، ويزاد لديهما هذا الشعور باطراد، وهما التيار الإسلامي السياسي الداعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، والذي تخاصمه خصاما حادا النزعة التغريبية في المجتمع وتتعامل معه بوصفه طائفة من الطوائف . والفريق الثاني هو جمهور الأقباط الذين يخشون على حقوقهم كمواطنين أن تتأثر بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية .

وهنا بدأت أحداث الفتنة الطائفية تتولد بدءاً من حادث الخانكة عام 1972، ومرورا بحادث الزاوية الحمراء 1981 لنصل إلى حادثة الكشح عام 1999 ثم مشكلة وفاء قسطنطين 2004 ثم اشتباكات الإسكندرية 2006 ومنها إلى حادثة نجع حمادي يناير 2010، فتفجير كنيسة القديسين نهاية 2010، وتبدأ ثورة 25 يناير ليبدأ الاحتقان مع التعديلات الدستورية مارس 2011 لتظهر المرأة وتتهم بأنها مفجرة الفتنة، حيث رأى بعض المراقبين أن نحو 75% من المشاحنات الطائفية خلال الأعوام من 2005 إلى 2011 استخدمت فيها المرأة بسبب تحولها الدينى وهو ما بدأته وفاء قسطنطين، ثم كاميليا شحاتة... بعد ثورة يناير بدأت أحداث أطفيح، ولكن هذه المرة سارت الأحداث بشكل عكسي حيث المتهم هنا رجل مسيحي وامرأة مسلمة، لتتوالى الأحداث، ونصل لقرية ميت بشار وأحداث العمرانية... الخ.

في كل الأحوال نشأت فتنة وانتهت إلى لا شئ، ونحن اليوم لا نعرف ولا نتابع مأ سفرت عنه الأمور في الخانكة، أو الزاوية الحمرا، أو كنيسة مسرة .. الخ. ضاع الحدث، ولكن ترسبت منه أن مسلمين واقباط تضاربوا وتحاربوا، وان هناك مواجهة، وأن هناك " طرفين" .

وهنا أود إلى أقول بأن الأحداث المؤسفة التي وقعت هنا في أوقات متفرقة بين قلة من المسلمين والأقباط والتي سميت خطأ بالفتنة الطائفية، هي في حقيقتها ليست "فتنة " وليست " طائفية"،وإنما هي اعتداءات متفرقة من فئات تنتمي إلى الفكر الديني المتطرف الذي يتخذ من الدين وسيلة للاستيلاء على مقاعد الحكم، وقد توهمت هذه الطائفة المتطرفة أن أيسر سبيل لتحقيق أغراضها السياسية هو إحداث فتنة طائفية بين المسلمين والأقباط .

والسؤال الآن : ما موقف الرئيس أنور السادات من الفتنة الطائفية؟

في اعتقادي أن السادات كان يريد إرضاء الأمريكان لأنه كان يرى أن 99% من أوراق اللعبة في يدها.. فقام بعمل تعديلات دستورية كان من شأنها أن جعل مدة الحكم فترتان.. وقام بتحويل النظام الاقتصادي للدولة من اشتراكية روسية إلى رأسمالية أمريكية.. وقام بعمل الانفتاح.. وكان من بين ما قام به إرضاءً لأمريكا أن قام بإخراج الجماعات الإسلامية من السجون الناصرية.. حتى يقال أن في مصر حرية دينية.. وحتى تقوم هذه الجماعات بإهالة التراب على أي ذكرى جيدة لعبد الناصر فتزول ذكرى عبد الناصر من وجدان الناس ومن ثم يكتسب السادات شرعيته في الحكم.. وكان من بين ما قامت به الجماعات الإسلامية أنها قامت بتكفير فئات كثيرة من المجتمع من بينها المسيحيون ومن الطبيعي أن يرد بعض المسيحيون على هذا الهجوم بتعقل ويرد البعض على الهجوم بهجوم مماثل.. وللمسيحيين الحق فى الحالتين.. فمن يدقق تاريخيا في ظاهرة التكفير أثناء السبعينات وبعدها يكتشف أنها تمت برعاية رسمية، وكان ذلك انقلابا مبكرا في التوجه الفكري والأيديولوجي للنظام السياسي, وتعزيزا للانقلاب السياسي الذى سبقه ضد دولة عبد الناصر في 13 أيار (مايو) 1971 الذى سمى "انقلاب مايو".

وأخذت حوادث الفتنة الطائفية تحدث وتتكرر، ونكاد نقول إنه منذ عام 1972 حدثت مئات الحوادث الطائفية المعلنة وغير المعلنة، الكبيرة والصغيرة، وفى كل مرة تتم معالجة المسألة بنفس الطريقة على طريقة دفن الرؤوس في الرمال دون البحث عن الأسباب الحقيقة ومحاولة علاجها.

وعقب أفول ثورات الربيع العربي وبالذات في أواخر 2013،  أدرك المصريون أن الفتنة الطائفية أخطر وأصعب مئات المرات من الإرهاب فهي تقضى على الأخضر واليابس وشعب مصر العظيم تاريخه حافل بالحب والمودة بين أطيافه المختلفة فلا يمكن أن يستطيع أحد أن يفرق بين المواطنين المصريين على أساس الدين أو اللون أو أي شيء آخر منذ آلاف السنين والمصريون يعيشون على أرض واحدة وتحت سماء واحدة لم يستطع أحد أن يفرق بينهم أو يجعلهم شيعا ومذاهب وحتى الاستعمار عندما احتل مصر عبر العصور لم يستطع أن يشق صف المصريين.

والقيادة المصرية الحالية استطاعت أن تعيد للمصريين قوتهم وتلاحمهم بعد أن نادت فى أكثر من موقف بأن قوة المصريين الحقيقية في وحدتهم، والوحدة قادرة على ردع قوى الشر في الداخل والخارج وهو الأمر الذى يجب أن ننتبه له جميعا خاصة بعد أن رأت هذه القوى أن مصر بدأت تسير على الطريق الصحيح خاصة بعد ظهور العديد من المشروعات إلى النور وبدأت خطوات التنمية الحقيقية تظهر للجميع، فما كان من هذه القوى إلا أن تعبث في البلد وتلعب على وتر الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين لكنها لم ولن تنجح وسوف تفشل كما فشلت من قبل عشرات المرات.

ولهذا يخطئ من يظن أن الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب المصري في خطر، أو أنها يسهل النيل منها عن طريق إحداث الفتن الداخلية واستعداء الأجنبي . إن الوحدة الوطنية هي الصخرة الصلبة التي تحطمت عليها جميع تلك المحاولات، والذين يتوهمون أن في مقدورهم النيل منها، يجهلون تماما طبيعة وتاريخ هذا الشعب العظيم الذي انصهرت في بوتقة واحدة على مر التاريخ، واستوعب الدرس الخالد الذي يؤكد أن اختلاف الدين لا ينال من وحدة الدم والمصير.

بل إن من يطالع المجلد الكبير والذي يعد دراسة توثيقية بعنوان " الإنجليون والعمل القومي" سيجد واجبا عليه الاعتراف بالدور الرائد والحيوي الذي أداه أخوة لنا في الوطن، وذلك في المجال الثقافي، والاجتماعي،والسياسي، مجال الحرب والسلام، مجال الحوار بين الأديان، ميدان غرس الروح الوطنية ونشر مبادئ المحبة والأخوة .

هل يمكن أن ننسي مجهودات البابا شنودة والأنبا غريغوريوس، وأنور عبد الملك، والأب جورج قنواتي، ونبيل فرج، ويوسف مراد، ووليم سليمان قلادة، والأب متي المسكين،وميشيل باخوم، ونسيم مجلي، وفخري قسطندي، وأنجيل بطرس، وفرح أنطون، وفليب خوري، وحنا خباز، وجورجي زيدان، ويلامة موسي، ولويس عوض، وسامي جبرة، وسامي عزيز، وخليل صابات، ومجدي وهبة، ويعقوب صروف، وبول غليونجي، والذي يعد كتابه عن ابن النفيس أفضل ما كتب بالعربية عن هذا الطبيب، وبحيث لا نجد حتي الآن دراسة أكاديمية واحدة عن ابن النفيس تكاد تقترب من هذا الكتاب، لأن الدراسات الأخرى إنما تعتمد على المبالغة والخطابة والإنشاء، والأب متي المسكين، ويوسف سيدهم، والدكتور زكريا إبراهيم، وفوزي متري نجار، وفايز فرح، وغيرهم من مئات الأسماء والشخصيات البارزة التي وضعت بصماتها البارزة على مسار الفكر العالمي وفكرنا العربي الحديث .

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

 

في المثقف اليوم