آراء

ثامرعباس: عواقب خصاء الدولة.. ترييف السياسة وتطييف الاناسة

ليس صدفة أن يشتق معنى السياسية من كلمة (بوليسي) اليونانية التي تحيل إلى العلاقة العضوية ما بين صيرورة (الدولة) وكينونة (المدينة)، وذلك من منطلق اعتبارها ترمز إلى علم إدارة وتنظيم (المجتمع)، على أسس من الواقعية السياسية والتصورات الحضارية والعلاقات الإنسانية، والانتقال من ثم بالمكونات السوسيولوجية والتنوعات الانثروبولوجية من عالم الطبيعة المطلق حيث الصراعات أبدية إلى عالم التاريخ النسبي حيث التسويات ممكنة، عبر توسط عوالم الجغرافية والحضارة والفكر والثقافة . ذلك لأن ما تفعله هذه الأخيرة – كما يشرح الناقد والمفكر الانكليزي (تيري ايغلتون) – (هو أنها تقطّر إنسانيتنا المشتركة من ذواتنا السياسية المنضوية في نحل وشيع، حيث تسترد الروح من الحواس، وتنتزع الثابت من الرذائل، وتقطف الوحدة من التعدد) .

وحيث تتداخل المعاملات بين الأفراد وتتشابك العلاقات بين الجماعات، تحت إشراف وتوجيه سلطة مركزية واحدة (الدولة)، ذلك الكيان المؤسسي المنوط به تحمل مسؤولية إدارة الشأن السياسي العام، وتقنين عمليات حراك عناصره وتفاعل قيمها وتواصل مكوناته، بما يضمن تحقيق العدالة وبلوغ المساواة بين الجميع، بالاعتماد على ما تتوفر عليه من قوة مادية قامعة وهيبة اعتبارية رادعة، لتسوية المنازعات الداخلية ودرء الأخطار الخارجية . وهذا يعني إن إمكانية إدارة وتنظيم عناصر الشأن الاجتماعي العام لا يمكن أن تكون ناجعة وفعالة، إلاّ من خلال فرض السيطرة وبسط النفوذ وإحلال السيادة على مجال حيوي (إقليم جغرافي) محدد الأبعاد ومشخص المعالم، بحيث يصبح خاضع لإشراف سلطتها ومتابعة مؤسساتها، فضلا"عن إمكانية ضبط التصرفات وردع التجاوزات التي لابد من حدوثها بين الأفراد والجماعات، على خلفية اختلاف المصالح وتباين الإرادات . وهذا ما يتيح فرص تعزيز مظاهر الاستقرار الداخلي وضمان مقومات الأمن الخارجي، بعد أن تبلغ الروابط البينية درجة معقولة من التماسك ومستوى مقبول من التجانس، بحيث تتحقق وحدة المشاعر الاجتماعية، وتتجذر أواصر الانتماء الوطني . وعلى ذلك  فقد لاحظ الأكاديمي والباحث اللبناني الدكتور (غسان سلامة) إن هناك (علاقة حميمة بين مدى الولاء لكيان سياسي جديد ومدى تطابق هذا الكيان مع تطلعات المجتمع، أو على الأقل، مع تطلعات الفئات المؤثرة سياسيا"فيه، لشكل وحدود الكيان المقترح) .

وبرغم إن دولة العراقية لما بعد الاستقلال كانت قد خلعت على كيانها طابع المعاصرة الشكلية وتزينت بعلائم الحداثة المصطنعة، إلاّ أنها من حيث الجوهر لم تلبث أن بقيت أسيرة لطابعها السلطاني وطبيعتها الاستبدادية، التي ورثتها عن تاريخها السياسي المثقل بالصراعات والمثخن الحروب والمكتنز الفتن، ما بين الفرق الدينية والجماعات العنصرية والتكتلات القبلية، حين كانت تميل لصالح هذا الطرف دون ذاك ودعم هذه الفئة على حساب تلك، مما استتبع لاحقا"أن تعاني انحسار شرعيتها السياسية، وإضعاف مشروعيتها القانونية، وفقدان هيبتها الاعتبارية، وبالتالي استفحال ظاهرة انزياح الولاء من الدولة الوطنية إلى الجماعات الفرعية، ومن المؤسسات الحكومية إلى التكتلات القبلية .

واللافت للنظر في هذا المجال إن سوسيولوجيا المدينة العربية عموما"والعراقية خصوصا"، استمرت طيلة آماد تكونها ومراحل نموها تعاني ظاهرة استفحال المدّ البدوي وطغيان القيم الريفية، ليس فقط عبر تشوه أشكال عمرانها وفوضوية تنظيم فضاءاتها فحسب، بل وكذلك من خلال تحلل أعرافها إفساد قيمها وامتهان رموزها وانمساخ هويتها . هذا بالإضافة إلى أنها (ظاهرة المدّ البدوي / الريفي) كانت من أقوى العوامل وأبرز الأسباب التي أفضت إلى حصول الانقسامات الاجتماعية، والتوترات الطائفية، والاستقطابات الجهوية، وأظهرت من ثم عجز تلك المدينة عن التحول إلى بوتقة حضارية لصهر مختلف مكونات المجتمع الانثروبولوجية والسوسيولوجية، وكشفت بالتالي مدى إخفاقها في دمج تلك المكونات في وحدة وطنية واضحة الهوية ومعروفة الانتماء .

ولهذا فقد استمرت فاعلة ومؤثرة قيم الاثرة بالعصبيات والاستئثار بالنعرات بين تلك الجماعات المتذررة، بصرف النظر عن تغيير الأنظمة وتوالي الحكومات . وليس (أدل على ذلك – كما يقول الأكاديمي والمفكر البحريني (محمد جابر الأنصاري) – من انبعاث رواسب الماضي – التي طالما تهربنا منها باعتبارها مجرد رواسب – عوامل فعالة في مصيرنا السياسي، وحياتنا السياسية اليومية من انتماءات وانحيازات قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية ومحلية وجهوية) .

وهكذا تكون المدينة بطابعها الريفي وطباعها الرعوية قد أفسدت قيم السياسة وشوهت أعرافها، إذ تحولت من وسيلة حضارية لتنظيم المشترك الاجتماعي على وفق رؤية من الواقعية والعقلانية والمشروعية الدستورية، إلى أداة شيطانية وآلة جهنمية لتفجير الخلافات وتسعير الانقسامات الموجودة بين العصبيات والمذهبيات . وحيت تتريف السياسة وتحرف تقاليدها وتجرف قيمها، تغدو مظاهر تطييف المكونات الاجتماعية مسألة واقعة وحاصل تحصيل ليس إلاّ . إذ بمجرد ما أن تشرع السياسة بالاعتماد على فكرة القوة بدلا"من قوة الفكرة، والارتكاز على حق القوة بدلا"من قوة الحق، لإدارة الشأن العام وتنظيم أمور المجتمع، حينذاك تبدأ الجماعات الأولية بالتشظي صوب أصولها البدائية والانسلاخ نحو ثقافاتها الفرعية، كرد فعل معاكس ومعادل لتخلي السياسة عن وظيفتها وانحرافها عن ماهيتها .

وهنا تصبح (الثقافة) ترف نظري لا أهمية له، ويتحول (المثقف) إلى فائض اجتماعي لا ضرورة له، ذلك لأن مصالح القوى الفاعلة في المجمع المتبربر، لا تحتاج إلى مبررات أخلاقية أو مسوغات منطقية لكي يكتمل نصاب شرعيتها وتبلغ الشأو إلي تريده، عبر استثمار المعارف واستغلال المهارات التي يتوفر عليها المثقف . إذ إن وسائل مجربة من مثل الطغيان السياسي والقوة الغاشمة والقمع الفكري والترويع النفسي، قمينة بتحقيق ذلك وأكثر، وذلك بصرف النظر عما إذا كانت تلك المصالح مشروعة الأهداف أم لا، والوسائل نبيلة الغايات أم لا، متوافقة مع طموحات الغالبية العظمى من مكونات المجتمع أم لا .

 وبضوء هذه المعطيات النكوصية تكون (الثقافة) قد فشلت ويكون (المثقف)، تبعا"لذلك، قد أخفق . لا في تجسير الفجوة التي سعى – دون جدوى - إلى ردمها الباحث المصري الدكتور (سعد الدين إبراهيم) بين سلطة المثقف وسلطة الدولة، وإنما بين السياسة بما هي فن الممكن الاجتماعي، وبين الثقافة بما هي إبداع فكري ونتاج حضاري ؛ لآنسنة العلاقات وعقلنة الخطابات وشرعنة السلطات ومدينة المؤسسات . من منطلق إن الثقافة – كما يصفها (ايغلتون) السابق ذكره (ترياقا "مضادا" للسياسة، فتلطف تلك النظرة الضيقة المتعصبة من خلال سعيها وراء التوازن وابتعادها بالعقل عن التلوث بكل ما هو متحيّز، أو متعصب، أو بعيد عن الاتزان) .

 

ثامرعباس 

 

 

في المثقف اليوم