آراء

مزهر جبر الساعدي: التشكل الجديد للنظام الدولي

تراجع تام للأيديولوجيات لمصلحة اللعب والمناورة المرنيين في الساحة الدولية

مما لاشك فيه؛ ان البشرية عبر سفرها التاريخي؛ شهدت كما هائلا جدا، من التطورات والاحداث والحروب، والغزوات والاحتلالات بما يسود بالحبر آلاف الكتب. لاحقا بعد عدة قرون، تحديدا في القرنين التاسع عشر، والقرن العشرين، وبالذات في القرن العشرين؛ كان الاساس فيها، اي في هذه التطورات العميقة التي انتجتها او صنعتها الاحداث والحروب، صراع الأيديولوجيات التي رسمت للدول والشعوب ايضا؛ طريقها على الصعد كافة. من الطبيعي قبل عصر الأيديولوجيات كانت الاطماع بالاستيلاء على ارضي الدول او الشعوب التي ليس في قدرتها الدفاع عن نفسها وعن ارضها وعن شعوبها، من قبل الامبراطوريات المتصارعة فيما بينها على توسعة امبراطورياتها على حساب الأخيرين من الشعوب، او على حساب الامبراطوريات الأخرى المحادده لها. ان هذه الأيديولوجيات، سواء الوضعية بشقيها اليساري والقومي او الديني، جميعها لعبت، دورا كبيرا جدا في صناعة الاحداث التاريخية الكبرى، وايضا الحروب والنزاعات، والتي احدثت التحولات التاريخية الكبرى والعميقة، في اكثر من مكان في المعمورة. ان هذه الأيديولوجيات سواء ما كان منها، او ما هي تستند على الفكر اليساري، اي الافكار الماركسية كأداة للتحليل الاقتصادي والسياسي، او الافكار القومية او حتى غيرهما؛ التي تعتمد على الأيديولوجية كبوصلة عمل وخارطة طريق في عملها السياسي والاقتصادي والثقافي؛ هي التي رسمت شكل النظام العالمي الحالي، الذي يشهد موته السريري، بانتظار موته التام في المقبل من الزمن، حتى يفسح او يترك الساحة الدولية؛ لنظام حديث يحل محله. لقد وصل النظام العالمي الى شكله الحالي عبر حريين عالمتين مدمرتين، وبعدهما الحرب الباردة ومن ثم تاليا بعد سنوات؛ عالم القطب الواحد، اي التسييد الأمريكي على الكرة الارضية. هذا النظام الامريكي الذي جلس على كرسي قيادة العالم او النظام العالمي، طبقا للقواعد والمعايير الدولية التي وضعتها الولايات المتحدة، كبديل عن النظام العالمي الذي تعمل وفق معاييره وقواعده، الامم المتحدة ومجلس الامن التابع لها. خلال هذين الحربين العالميتين ومن ثم الحرب الباردة، وقبل عقدين؛ بروز عالم القطب الواحد، الذي فسح المجال واسعا من دون حسيب او رقيب الى التغول الامريكي، اي الي التفرد الامريكي بمصائر العالم لمدة اكثر من عقدين من الزمن الذي انقضى. كانت الامبراطورية الامريكية التي تفردت بمصير دول العالم في ذلك الوقت، قد غزت واحتلت دولتين هما افغانستان والعراق، وتركت في الدولتين الدمار والخراب، وآلاف القتلى، وآلاف اخرى تعاني حتى الساعة من تفشي امراض السرطان، بسبب ما كانت امريكا قد استخدمته من اسلحة محرمة دوليا في احتلال هاتين الدولتين، وبالذات لجهة التحديد الحصري؛ في احتلالها للعراق. لم يتم مساءلتها، لا من المجتمع الدولي ولا من ضحايا الشعبين؛ عن ما خربته ودمرته في حربيها، وهما، وبكل تأكيد حربين عبثيتين، أو انهما حربين اردتا امريكا بهما؛ ان ترسخ تجذر وتوسع هيمنتها على دول وشعوب الكرة الأرضية؛ إنما تداعياتهما ونتائجهما جاءت على القيض تماما، اي التأكل الواسع والعميق من جرف نفوذها وهيمنتها. أما لماذا لم يتم مساءلة الولايات المتحدة عن جرائمها في هذين الحربين من المجتمع الدولي؟ الجواب وبكل بساطة؛ انها دولة عظمى تمتلك ترسانة من السلاح النووي؛ لا احد في امكانه التوجه لها ولسمؤوليها بالسؤال عن ما فعلوا من خراب ودمار وهلاك للبشر والشجر والماء والارض. بالعودة الى الأيديولوجيات التي كانت، سواء الاشتراكية التي تراجعت بصورة جلية جدا خلال العقدين الماضيين، حتى اختفت الى حد ما من الخطابات السياسية والثقافية والأدبية اي جرى تهميشها الى حد كبير جدا، او الرأسمالية بشكلها الامبريالي العتيق، او بموجباتها الاقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية القديمة، التي تم تغييرها كليا وتحويل الخطابات عنها، السياسية والاقتصادية والثقافية والأدبية الى خطابات تتبنى الليبرالية الحداثوية، والتي هي في جوهر خطاباتها تلك؛ هو تسويق للإمبريالية الحداثوية العابرة للحدود والجنسيات. أما الأيديولوجية القومية فقد تراجعت كثيرا هي الأخرى، حتى بات الحديث عنها او خطاباتها ضربا من ضروب الهرطقة. وبرز في المقابل؛ الاسلام السياسي في العقد الأخير او لجهة الواقع المتحرك على الارض خلال العقدين الماضيين، والذي يعاني الآن كثيرا، وانسداد جميع طرق النجاح له كمنظومة حكم في دول الربيع العربي. مما يؤذن بأفوله قريبا، وتراجعه كثيرا عن الفعل المنتج في المشهد السياسي. أن الليبرالية الحديثة التي تريد او يريد المروجون لها؛ ان تتحكم في حركة دول العالم على جميع الصعد. اعتقد او من وجهة نظري المتواضعة، الليبرالية الحداثوية، هي الأخرى سوف تتراجع في المقبل من الزمن، وهو اي هذا التراجع، على اي حال، ليس بعيدا من الآن. ان الليبرالية الحديثة هي بحد ذاتها؛ ايديولوجية مع انها ترفض العمل بالأيديولوجيات في تناقض صارخ على صعيد الطرح الفكري وعلى صعيد الاهداف، والنتائج، وسلم الاوليات. الغرب وفي المقدمة من هذا الغرب، الولايات المتحدة التي تعتبر واقعيا وعمليا وانتاجا هي رأس الحربة في هذه الأيديولوجية الليبرالية الحداثوية المؤطرة بأطر امبريالية، أو ان الاصح والادق، الامبريالية قاعدة انطلاقها، ومحتواها ومضمونها وخطاباتها السياسية والثقافية والاقتصادية ؛ لا يتورعون كثيرا، أو لجهة الدقة الموضوعية؛ الولايات المتحدة الأمريكية، لا تتورع كثيرا او لا تتأخر كثيرا في استخدام القوة سواء القوة الناعمة او الاقتصادية او الغزو والاحتلال او غير هذا من التدخلات؛ في احداث التغييرات في البلد الذي يريدون ان يغيروا او تريد امريكا، ان تغير؛ نظامه السياسي بنظام بديل موالي لها، وتاليا هذا النظام البديل، بحكم الضرورة الحتمية الناتجة عن صناعة قوة عوامل فعل التغيير ومفاعيله؛ يكون تابعا لها. وكي يتم استدامة هذه التبعية لها، اي لأمريكا؛  يتم اعادة صياغة النظام الاقتصادي والتجاري والمالي والثقافي والسياسي، وحتى الأدبي، والأخير بصورة غير مباشرة، بغسيل العقل والدماغ من خلال الاشهار والنشر المترجم، الواسع النطاق؛ لدوريات ثقافية وادبية، قصدية، وذات تأثير فعال على العواطف والنفوس بما تمتلك من قوة عاطفية وعقلية للأحداث والشخوص وبلاغة اللغة؛ في اختيارات منتخبة. (ان هذا لا يعني عدم التفاعل الادبي والثقافي بين شعوب المعمورة، بل ان العكس هو الصحيح تماما؛ إنما الرفض هنا للاستثمار التخادمي بين قوى النفوذ الدولية العظمى ومراكز فعلها ومفاعيلها الثقافية والادبية التي تصنعها وتمولها الشركات الامبريالية الكبرى؛ في التأثير على ثقافة الشعوب المستهدفة، بعزلها عن ارثها الثقافي والحضاري..) ان الولايات المتحدة؛ ترمي او تهدف من وراء ذلك، ان تجعل من هذا البلد ونظامه البديل الجديد، طبقا لنظامها اي النظام الاقتصادي الامريكي والسياسي والثقافي والمالي، وما يتبع كل هذا، أو ينتج عنه من توجهات.. حتى يتم بهذا الطريقة؛ التحكم المستقبلي بمخرجات هذا النظام الجديد الموالي لهم او لها، اي للأمريكيين او لأمريكا لا فرق. ان اعادة تشكيل النظام الدولي، او تبديل النظام الحالي بنظام دولي جديد؛ ما هو الا بنتيجة التطور التاريخي الذي تشهد البشرية؛ اولى او بدايات ارهاصاته، التي سوف لا محال تدفع باتجاه نظام عالمي ليس لأي دولة واحدة لوحدها سلطان عليه. كما ان الأيديولوجيات سوف لن تكون هي من تحدد افاق الشراكات والتحالفات والتعاون بين دول وشعوب كوكب الارض هذا، كما كان يجري في القرن العشرين وحتى الى حد ما العقدين الاوليين من القرن الحالي، بمعنى اكثر دقة وتحديدا؛ سوف يمنح إرادة شعوب الارض فرصة ذهبية في اختيار انظمتها السياسية، كما انه سوف يتيح فرص واسعة امام انظمة الدول حرية الاختيار او اختيار الشراكات او التعاون بينها وبين الدول الأخرى. ان النظم العالمية تقريبا، ربما جميع الانظمة السياسية في دول العالم، وايضا الشعوب على ظهر كوكبنا؛ لم تعد تأخذ في الاعتبار، الأيديولوجية التي يعتمد عليها النظام السياسي في بلد ما في العالم؛ المحددات الفكرية التي من الواجب الأيديولوجي ان تفرض على هذا النظام مساحات الشراكة او التحالف او التعاون مع الدول الأخرى وبالذات الدول العظمى والكبرى. ان هذا التوجه لا ينطبق فقط على دول العالم الثالث بل هو ينطبق تماما حتى على الدول العظمى والكبرى. ان دول العالم بدأت بشكل جلي وواضح ترسم سياساتها وشراكاتها وتحالفاتها على ما تمليه عليها مصالحها، التكتيكية والاستراتيجية، بصرف النظر عن ما تؤمن به من افكار حتى وان تقاطعت تقاطعا صارخا هذه الافكار مع افكار الدولة الأخرى التي تسعى الى بناء شراكات معها. في السنوات الأخيرة؛ صارت الأيديولوجيات ليس لها وجود او اي تأثير في رسم سياسة اغلب الانظمة السياسية في دول العالم، التي تؤمن بأيديولوجية ما اي انها تضعها على رف الاهمال في تعاملها مع الدول العالم وبالذات حين يكون التعامل او الشراكات او التحالفات او التعاون بين دولة من العالم الثالث ودولة عظمى او كبرى، وحتى فيما بين دول العالم الثالث. ان هذا النظام، اقصد اي نظام لدولة ما في العالم الذي يؤمن بتلك الافكار او بهذه الافكار التي يجعل منها بحكم الضرورة والحاجة الملزمة للبقاء على رأس الحكم والسلطة؛ مادة للتثقيف الداخلي ولكسب المريدين والموالين ليس الا، وليس لتحديد شكل العلاقة مع اي دولة اخرى، نظامها مبني على أيديولوجية، تتقاطع كليا لناحية الأيديولوجية التي حددت شكل هذا النظام. لقد قيل قديما؛ لا توجد صداقات دائمة بل مصالح دائمة. هذا امر مفروغ منه ومعروف في كل مراحل السفر التاريخي للبشرية. لكن في الوقت الحاضر، وما فرضته التطورات التاريخية، وما انتجه العقل البشري من ثورة معلوماتية، قاد الى ان لا توجد صداقات او شراكات او تعاون او تحالفات تحددها او ترسم الطريق إليها؛ الأيديولوجيات، بل ان من يحددها هي المصالح في الوقت الحاضر، بمعنى ان الأيديولوجية التي كانت في زمن ما هي من تحدد العلاقات بين الدول وربما حتى شعوب تلك الدول، لم يعد لها وجود في السياسة الدولية الحالية، استجابة للتطورات التاريخية، وتدفق ووصول المعلومة بالثانية الى ابعد ركن من الكرة الارضية؛ الذي لا يمكن لأي دولة مهما بلغت من القوة والقدرة على ايقاف حركته في التطور وانتاج الجديد. هذا من جانب اما من الجانب الثاني، وهذا الجانب لا يقل اهمية من تراجع الأيديولوجيات لصالح البرغماتية واللعب المرن والمناورة في تنظيم العلاقات بين الدول وايضا بين الشعوب؛ هي الثورة المعلوماتية التي انتجت او صنعت او عمقت الحس الانساني المرهف للعدالة في مقابل حجم الظلم الذي تعرضت له وتتعرض حتى الساعة؛ الكثير من الشعوب في اكثر من مكان في الكرة الارضية؛ سواء من أنظمة حكم مستبدة، او من الغزو والاحتلال. نلاحظ في السنوات الأخيرة ان هذه الأنظمة المستبدة، على الرغم من رسوخ سيطرتها على مقاليد الحكم، لكنها بدأت تواجه إرادة الشعوب، التي لم ينجح التغلغل الامريكي في نسيجها الثقافي والسياسي والادبي؛ في حرفها عن طريق مصالحها لصالح المصلحة والنفوذ الأمريكي الذي تريد له امريكا الاستدامة. لذا تستمر إرادة الشعوب بالرفض لأنظمة الاستبداد السائرة في فلك المستغل الامريكي لها ولثرواتها، والمعارضة لطبيعة حكمها؛ مما قاد وسوف يقود اكثر في المقبل من الزمن الى ان تهتز ركائز انظمتها؛ مما يفضي أما ان تقوم انظمة الاستبداد هذه الى التغيير بما يتناسب مع مستلزمات هذا العصر؛ من حرية وديمقراطية حقيقية، واستقلال وسيادة كاملة لا جرح فيها ولا نقص، وهذا هو الأمر البعيد الاحتمال لطبيعة هذه الأنظمة؛ او ان التطور التاريخي للبشرية سوف يتجاوزها كثيرا؛ عندها يصبح انهيارها وسقوطها امرا حتميا؛ بهبة جماهيرية وليس بالانقلابات العسكرية التي لم يعد لها وجود لناحية الفعل في احداث التغيير او بالسيطرة على الحكم، في ظل هذا التغير الكوني العميق والجذري الذي لعبت الآن وسوف تعلب إرادة الأنسان فيه؛ الدور المركزي في صناعة الرأي والاحداث.. بعيدا عن قيود الأيديولوجيات وشروطها ودروبها..

***

مزهر جبر الساعدي

في المثقف اليوم