آراء

أبو بكر خليفة: التبعية وتبعاتها ومخلفاتها أساس أزماتنا

إن التبعية هي ظاهرة مركبة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضاريا، بدأ ترسيخها بالاستعمار المباشر وتوطدت بتواصل الهيمنة عبرالاستعمار غير المباشر بتجلياته المتعددة، إنها استقلال ناقص على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية، وذلك على الرغم من تحقق الإستقلال الرسمي قبل حقب وعقود، حيث يشعر التابع بتفوق التابع له، وينتابه إحساس بالعجز عن مجاراة المتفوق عليه، هي نتاج وحصاد حملات  غزوات عسكرية أعقبها إحتلال ثم إستعمار، وترافق ذلك مع غزو فكري ثم إحتلال ثم إستعمار ثقافي، وحتى بعد أن توارى الجنود والأدوات العسكرية والإستعمار الفعلي، بقيت الأفكار الغازية بأدواتها الثقافية المدججة بالإيديولوجيا، مع محاولات الابقاء على طبقة سياسية تدين بالولاء للمستعمر المغادر لتعزيز التبعية، حتى أنتجت الحقب الإستعمارية المتعاقبة نموذج التفوق الغربي الرأسمالي الليبرالي الامبريالي، والذي يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية:

1- ترسيخ التفوق العسكري.

2- تعزيز الهيمنة الحضارية والثقافية.

3- تجذير التفوق الاقتصادي .

حيث يتم التحكم في صناعة السلاح وتسويقه، والتحكم الصارم في أسرار هذه الصناعة، وتسويقه عبر تهيئة بؤر التوتر لترويجه وتجريبه، وكذلك تأسيس الأحلاف العسكرية بهدف الحماية والإحتواء والردع، ولإحكام الهيمنة على مناطق النفوذ ومحاولة التمدد كلما أمكن ذلك.

أيضاً يعتبر تعزيز الهيمنة الثقافية، عن طريق التسويق عبر كل الوسائط والوسائل الإعلامية الحديثة ركيزة إستراتيجية، لإعلاء شأن الثقافة الرأسمالية، وتبخيس كل ثقافة الحضارات الأخرى،  والتركيز على أن الثقافة والمنظور الرأسمالي الليبرالي في السياسة والاقتصاد والثقافة، هو نهاية التاريخ وافضل ماأنتجه الفكر البشري من حلول لكل المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية.

كذلك فإن الهدف الأكبر هو تجذير التفوق الاقتصادي لانه يعزز الهيمنة الغربية الرأسمالية المطلقة، عبر كل الأدوات الممكنة بدءا من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، والاتفاقيات الاقتصادية غير المتكافئة مع الدولة النامية، وتحديد معايير التنمية والتحديث وفق المنظور الغربي الرأسمالي الذي لايراعي خصوصية البلدان والدول وخلفياتها الثقافيةوالحضارية.

ولتحقيق وتجسيد كل هذه الأهداف دأبت قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي الإمبريالي منذ حقب وعقود على المضي قدماً في الخطوات التالية :

أولا/ محاربة كل القوى المناوئة ومحاولة إرباك وعرقلة كل الكيانات الاقتصادية الناشئة، وبشكل أساسي محاولة إيقاف المارد الصيني بكل الوسائل الممكنة، عن طريق خلق الأزمات، وشيطنة هذا الكيان الصيني، حتى أن كورونا هذا الوباء الكوني الفتاك، هناك من يرى بأنه إحدى المحاولات القذرة من طرف قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي، لوصم الصين بالتآمر عن طريق إتهمامها بإطلاق هذا الفيروس والذي حصد أرواح مئات الآلاف من البشر.

ثانياً/ إختراق كل الحركات الثورية، بل ومحاولة التدخل في صنع الثورات وتهيئة قادة الثورات بمواصفات معينة، ولم تخلو أغلب الحركات الاحتجاجية والثورية من تغلغل قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي، فتدخلاتهم تكاد تشمل كل ثورات العالم الثالث بغرض إحتواء عواصف التغيير للتحكم في مساراتها ومآلاتها ؛والعالم العربي ليس إستثناءا باعتباره ينضوي تحت مظلة العالم الثالث والنامي،هذه الثورات التي ترتب عليها الإستقلال الهش لأغلب دول العالم الثالث، وصولا إلى شبهة تورطه وتدخله في مايسمى بثورات "الربيع العربي" بموجتيه الاولى والثانية، لأن الغرب الرأسمالي الليبرالي والإمبريالي ليست له مصلحة في وصول حكومات ديمقراطية حرة ومستقلة ومنتخبة في دول العالم الثالث، ولابد من الابقاء على التبعية عبر الشركات متعددة الجنسيات، والدور المطلوب كذلك من سفراء الدول الكبرى لإدارة أمور الحكم والقوة في الدول التابعة، والتحكم في السياقات السياسية فيها، وما نلاحظه في دولة مثل ليبيا لهو خير شاهد ودليل.

ثالثاً/ السعي الدؤوب للسيطرة على اقتصاديات الدول التابعة، ومنعها من إحداث نقلة نوعية تتيح لها الاستقلال الاقتصادي الحقيقي، عن طريق محاولة الهيمنة بطرق مختلفة على المقدرات الاقتصادية للدول التابعة، خصوصاً عبر محاولات تطويق المؤسسات السيادية والمصارف المركزية والمؤسسات الوطنية المشرفة على إدارة الموارد الاستراتيجية كالنفط، والسعي نحو جرها إلى خطط صندوق النقد الدولي والذي هو أحد أدوات الهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

رابعاً/ محاولة فرض رؤية التفوق الحضاري والثقافي على دول العالم بحضاراته المختلفة وحضارات الدول التابعة خصوصاً، وإظهارها بمظهر الحضارات المتخلفة والعاجزة عن ملاحقة تطور وتقدم الحضارة الرأسمالية الغربية، والترويج بأن علة تخلفها وعجزها عن إدراك التقدم والتنمية إنما تكمن فيها، كل ذلك يتم عبر كل الوسائط والوسائل المتعددة منذ عقود وحتى اليوم، عبر مراكز البحث والفلاسفة والمفكرين التابعين لدول الغرب الرأسمالي، مثل أطروحة صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي لصامويل هنتنغتون والتي تشيطن الحضارات الأخرى، وتصف الإسلام مثلا بأن حدوده دموية، ونهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما والتي ينظر فيها للانتصار النهائي لقيم الديمقراطية الليبرالية.. وكذلك العمل على تدمير  العقائد المتماسكة كالدين الإسلامي،والتي يرى كثير من مفكري الغرب أنها تهدد عرش هيمنة الحضارة الغربية على المدى البعيد،  لذلك هم مستمرون منذ أمد بعيد في طريق السعي إلى إختراقها ومحاولة تمزيقها فرقا وأحزابا.

فأين نحن من كل مايحاك لنا؟ لاشك أنه لا حل لنا إلا المقاومة، فكرياً: عن طريق تشبثنا بحضارتنا وثقافتنا وابراز مكامن قوتها، وليس بمسخها عبر محاولة التمثل والمجاراة للحضارة الغربية الرأسمالية المسيطرة، واقتصادياً: عبر محاول تأسيس كيانات إقتصادية على أسس علمية نجمع فيها نقط قوة دولنا الاقتصادية، ونضع إستراتيجيات عميقة للتنمية الحقيقية والقضاء على التخلف. ودينيا: عبر محاولة تنقية ديننا من عوامل التفرقة والتشرذم، وفضح وتعرية الخطط المشبوهة القديمة والحديثة لشيطنة عقيدتنا، واستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك.

***

د.أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي

 

في المثقف اليوم