آراء

طه جزّاع: كيسنجر ونساء ماو

يخيل لي أن شيخ الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر، كان سيفضل أن تكون زيارته إلى بكين الخميس الماضي سرية، مثلما كانت رحلته الأولى اليها قبل أكثر من نصف قرن. غير أن العالم تغير تماماً، وما كان يمكن أن يكون سرياً في ذلك الزمان أصبح الآن من المستحيلات في ظل التطور الهائل في وسائل الاتصالات والإعلام وثورة التكنولوجيا والمعلومات، وفي هذا الشأن تكتب هيلاري كلينتون في مذكراتها عن عملها وزيرة للخارجية: « مازحتُ هنري بأنه كان محظوظاً لأن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي لم تكن موجودة عندما قام بأوّل رحلة سرية إلى الصين. تخيّل لو حاول وزير خارجية القيام بذلك اليوم».

ومنذ تلك الرحلة السرية التاريخية التي قام بها وزير الخارجية الأميركي في تموز 1971 والتي مهدت لزيارة نيكسون في العام التالي، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس أميركي إلى الصين بعد سنوات طويلة من التوتر والخلاف والعداء بين البلدين، زار كيسنجر الصين بعدد سنوات عمره المائة، لكن يبقى لزيارته هذه التي تحمل الرقم 100 أهمية خاصة تقترب من أهمية الرحلة السرية الأولى، على الرغم من أنه غير مكلف من واشنطن، ولا يشغل أي منصب سياسي أو دبلوماسي فيها، ولا يمثل إلّا نفسه وحجمه وتاريخه ومكانته في عالم الدبلوماسية العالمي خلال قرنين متتاليين، ذلك أن هذه الرحلة تأتي والعلاقة بين البلدين ليست على ما يرام، وقد تكون أعقد من تلك العلاقة التي فككها قبل أكثر من خمسين عاماً، كما أنه يعرف بحكم علاقاته الطويلة مع الصينيين، وصداقته الحميمة مع رئيس وزرائهم التاريخي شو إن لاي، بأنهم يحترمون الصداقة ولا ينسون الصديق الذي يديم التواصل معهم، وهناك مَثل شعبي صيني يدعوك إلى عدم الامعان في الغياب عن الأصدقاء، فقد يؤدي بهم ذلك إلى نسيانك، وكيسنجر يعرف أكثر من غيره أن الصينيين لم ينسوه أبداً، ولم يخب ظنه فقد استقبلوه وهو «المواطن العادي» في المبنى رقم 5 بدار ضيافة الدولة الذي التقى فيه شو إن لاي خلال زيارته السرية الأولى في إشارة ذات مغزى، وأعدوا له استقبالاً بروتوكولياً، واحتفى به الرئيس الصيني شي جين بينغ، وكأنه مازال وزيراً للخارجية، وذكره بأن الشعب الصيني يثمن الصداقة، ولن ننسى أبداً صديقنا القديم، كما التقى عدداً من المسؤولين الكبار ومنهم وزير الدفاع، مما أثار غيض البيت الأبيض لأن مواطناً عادياً يتمكن من لقاء وزير الدفاع وإجراء اتصال، ولا تستطيع الولايات المتحدة ذلك!.

كان كيسنجر قد التقى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لأول مرة عندما كان ضمن طاقم الرئيس ريتشارد نيكسون الذي زار الصين بعد تلك الرحلة السرية لوزير خارجيته، والتقاه مرة ثانية في شباط من العام 1973 وقد بلغ ماو الثمانين، ويصفه كيسنجر في مذكراته بأنه طاعن في السن وقد « تقدّم في العمر كثيراً ليستطيع السير بثورة جديدة «، لكنه لا يشعر اليوم بأنه تقدّم في العمر كثيراً « 100 عام وبضعة أشهر» ليتمكن من فتح باب جديد يفضي إلى تلطيف الأجواء، وتهيئة السبل التي قد تفضي إلى حوار جديد بين بلده والصين وهو من دون أية مسؤولية أو منصب حكومي. ومن طريف ما يذكره هنري كيسنجر عن لقاءه مع ماو تسي تونغ خلال زيارته للصين في شباط 1973 . وكانت صحة ماو غير جيدة في تلك السنة، ومع ذلك فإنه مثلما فعل مع الرئيس نيكسون قبل عام استدرج كيسنجر إلى « حديث سقراطي مرح «، وقد ذهب للقاء ماو مستقلاً سيارة شون إن لاي القديمة، موديل 1939 « وكلّها مخلّعة «، ثم يصف المكان الذي استقبلهم فيه الزعيم الصيني:» كان يجلس، تجاه نصف دائرة من المقاعد، مغطاة بقماش أسمر اللون، الكتب مبعثرة في كل مكان، في الأرض، أمام ماو، على الطاولات الصغيرة، بين المساند، على الرفوف، إلى جانب الجدران!! «. وبعد حوار ونقاش فاجأه ماو بالقول: « انكم تعلمون ان الصين بلاد فقيرة جداً، ليس لدينا أشياء تعتبر زائدة، سوى النساء»!. اعتقد كيسنجر أن ماو كان يمزح معه، فأجاب بلهجة معينة لا تبدو أنه قد فهم هذا الكلام، فأكمل ماو حديثه: « دعوهّن يطأن أرض بلادكم، فانهم مدعاة للسكينة، وبهذا تخففون حملاً عن كاهلنا «. وهنا قهقه عاليا» !!، ثم قال :» لذلك إذا رغبتم في الحصول على بعضهن، فاننا قادرون على تزويدكم ببعض عشرات الآلاف». وكرر ماو مثل هذا الكلام مرة أخرى، لكن كيسنجر لم يفهمه جيداً، مما اضطره ليستعين بزوجة مساعده ومرافقه في الزيارة ونستون لورد التي أخبرته بأن « الوضع في الصين لم يكن مستقراً كما يبدو، والنساء، ويعني منهن جيانغ كينغ زوجة الرئيس ماو، رئيسة الجناح اليساري، وكن هؤلاء النساء يُثرنَ الاضطراب في الصين».

مضت على هذه الذكريات نصف قرن بالتمام والكمال، توفي ماو بعد هذا اللقاء بثلاثة أعوام عن عمر 83 عاماً، وقبله بتسعة أشهر توفي شو إن لاي ولم يكن قد بلغ الثمانين، وتوفي الرئيس نيكسون عن عمر 81 عاماً، أما زوجة ماو فقد شنقت نفسها في السجن وعمرها 77 عاماً.

 وبقي هنري كيسنجر دبلوماسي القَّرنين بلا منازع.

***

د. طه جزّاع

في المثقف اليوم