آراء

عبد السلام فاروق: الرقصة الأخيرة

بالأمس القريب تواردت أنباء أن صندوق النقد وافق على أن تسدد الأرجنتين والبرازيل فوائد ديونهما باليوان الصينى! ومن قبلها جرى اتفاق بين الدولتين وبين الصين على أن يتم التبادل التجارى بينهم بعملة اليوان. وهو ما سينعش بنك البريكس القائم الآن فى الصين..

وفى إفريقيا هناك إتفاق تم بين كينيا وجيبوتى للتعامل بينهما بالعملة المحلية بدلاً من الدولار، بل إن هناك اتجاه عالمى عام للتخلص من ربقة الدولار، وتنويع سلة العملات فى التبادلات التجارية..ولن يلبث الدولار أن يجد نفسه تحت حصار دولى خانق!

على الناحية الأخرى بدأ حلفاء الغرب التقليديون فى التسرب من قبضته تباعاً متجهين نحو القوى الجديدة الصاعدة وعلى رأسها الصين. وهاهى الحرب الأوكرانية الروسية تميل كفتها لروسيا على حساب الناتو وأمريكا، ما يشير لهزيمة جديدة للمعسكر الغربي..فهل نشهد بواكير عصر سقوط الإمبراطورية الغربية بأكملها؟!

ثقوب فى قبعة العم سام

الليبرالية الجديدة فى أمريكا يبدو أنها تتراجع وتنتكس..وهو ما سيدفع بالاتجاه المحافظ الذى يمثله الاتجاه اليمينى للحزب الجمهورى بكل طوائفه إلى السيطرة التامة على مقاليد الأمور على حساب الاتجاه الليبرالى الذى يمثله الحزب الديمقراطى. ويبدو أن بايدن سيكون آخر رئيس ديمقراطى تشهده أمريكا بعد تآكل شعبيته وشعبية حزبه لأقصى الحدود..

لم يكن خوض الحرب الروسية الأوكرانية أسوأ أخطائه، ولا انتكاسة الدولار وسقوط البنوك والاقتصاد، ولا تفشى ظاهرة الكراهية العالمية للهيمنة الأمريكية وسقوط الأحلاف، ولكن فى الأساس أن الليبرالية الجديدة على عهد بايدن سقطت سقوطاً أخلاقياً كارثياً ينذر بالأسوأ..إذ خرج الرئيس الأمريكي على العالم يدعو ويروج لمجتمع المثليين، ولم تلبث المدارس فى أمريكا وكندا أن اتجهت لترسيخ مبدأ التطبيع مع الانحلال الأخلاقى عند أطفال المدارس بغض النظر عن أديانهم ورفضهم لهذا الانحلال.. كأن الليبرالية تخطو آخر خطواتها نحو حرية مطلقة تفجر فى طريقها كل المبادئ والأعراف والشعائر والعقائد!

الاقتصاد نفسه يعانى فى ظل النيوليبرالية؛ بعد ابتعاده عن الاقتصاد الإنتاجى تحت دعاوى ما يُدعى "سياسات السوق الاجتماعى" المعتمد على ثلاثية التمويل والتأمين والعقارات "Finance ,Insurance and Real Estate" بغرض تحقيق أرباح مالية عالية سريعة على حساب التنمية الحقيقية القائمة على الإنتاج الصناعى والزراعى.

وإذا بحثنا فى عالم اليوم عن بديل للرأسمالية المتوحشة فلن نجد مثالاً حياً على النجاح أقوى من الصين!

البريكس.. الموضة الاقتصادية الجديدة

طوال الوقت هناك هجوم يومى حاد ضد كل صوت يتحدث عن المعجزة التى حققتها الصين اقتصادياً فى العقود الأخيرة.. وأخطر ما فى موجة تسونامى الهجومية تلك أنها تسعى بشتى الطرق لتنفير وذب وإبعاد الجميع ضد الاقتداء أو الاستفادة من النموذج الصينى فى الاقتصاد، باعتباره مناهضاً ومضاداً للنموذج الليبرالى الغربي.

هذا الهجوم الدائم والإصرار على تخويف الشعوب والقادة ضد الاتجاه نحو النموذج الصينى فى الاقتصاد يكشف مدى الهلع لدى دعاة الرأسمالية من انهيار نموذجهم القائم على الاستغلال وتكديس الأموال وتضخيم الثراء الفاحش على حساب الضعفاء والفقراء. وفى المقابل حقق الاقتصاد الصينى، على الأقل بالنسبة لمواطنيه، طفرة فى الاستثمارات الخاصة والفردية، ونمواً هائلاً فى قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وصنع توازناً بارعاً بين تحكم الدولة فى القرار الاقتصادى والمالى وبين الملكية الفردية والاستثمار الخاص، واستطاع انتزاع 800 مليون مواطن صينى من الفقر؛ أى ما يعادل ضعفى سكان أمريكا وكندا معاً! الأدهى أن الصين تُعتبر اليوم هى المنتج الرئيسي على الصعيد العالمى بحيث لو توقفت عن الإنتاج أو فتَرت سيعانى العالم كله جراء هذا الفتور.. هكذا تفوق الاقتصاد الإنتاجى على الاقتصاد الغربي الاستغلالى الربوى.

خمسة من كبريات الدول فى العالم استطاعوا أن يصنعوا الفرق من خلال مجموعة البريكس، تلك الكتلة الاقتصادية الشابة سريعة النمو، والتى تحولت إلى شبح يواجه الرأسمالية الإمبريالية ويرعبها. وهناك نحواً من خمسة دول كبري أخرى تتجه نحو الانضمام إلى تلك الكتلة الحرجة التى سوف تسرع بالدولار والنيوليبرالية إلى الهاوية، ولسوف تقدم بديلاً عملياً للنظم الاقتصادية المعيبة التى ربما يُنظر إليها الآن كموضة قديمة بالية.

أسلحة جديدة فى الميدان!

لعل أقسى ما نال العنجهية الأمريكية من آلام، ما حدث من تدمير منظومة الباتريوت فى حرب أوكرانيا، وما حققه الجيش الروسي من تفوق عسكري على الأرض!

كل يوم تظهر على ساحة القتال الأوروآسيوية أسلحة جديدة ، كأنها ساحة عملية لتسويق السلاح ! فيدفع الألمان بدباباتهم والفرنسيون بطائراتهم والأمريكان بنظمهم الدفاعية، فإذا بالصواريخ الروسية تدمر كل شئ فى طريقها ولا تدع نظاماً جديداً أو قديماً من نظم السلاح الغربي إلا وفتكت به، ثم يظهر لاعب جديد يريد أن يستظهر بقوته الوليدة، وإذا بطائرات البيراقدار التركية المسيرة تبرز وتستطيع تدمير الدبابات الروسية ، لنكتشف أن هناك من حوَّل ساحات الحرب الدموية التى يهلك فى رحاها آلاف البشر عسكريين ومدنيين ليست إلا نوعاً من التجارة الدموية يريد كل طرف فيها أن يسوق لصناعة السلاح لديه ولو كانت ضريبة التسويق الملعون هى الموت!!

على كل حال يوشك هذا الصراع التجارى العسكرى على الانتهاء وقد حققت روسيا أغلب أهدافها، وانهزم الناتو، وأصبح السلاح الروسي على ما تعرض له من نزيف وتلف ودمار هو السلاح المطلوب لدى الجيوش وقادة الحروب، لدرجة أن نرى فرنسا وبريطانيا يسارعان فى محاولة اللحاق بالركب الروسي فى قدرته على تصنيع الصواريخ فرط الصوتية ، بعد أن دخلت الحرب مرحلتها الخطرة .. مرحلة القنابل العنقودية وقنابل اليورانيوم المنضب، تمهيداً لمرحلة أخيرة نرجو ألا تنفلت نحوها الأحداث.. مرحلة هرمجدون والحرب النووية..

تراخى القبضة.. وتفكك الإمبراطورية!

لو عاد بك الزمن إلى أوائل القرن الماضى وقلت لأحدهم أن زمن بريطانيا قد ولَّى، وأن الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ستزول قريباً فربما رماك بالجنون واتهمك بالغباء! والآن ، ورغم أن الذين يبشرون بقرب زوال إمبراطورية أمريكا والغرب بعضهم من الأمريكيين والأوربيين أنفسهم، فإن الناس لا تكاد تصدق أننا على أعتاب هذا العهد..وأن الدولار والمنظمات الدولية والعالم الجديد وكل المصطلحات التى عشنا فى أكنافها دهراً ستندثر وتنطمر وتنقرض ويأتى غيرها على أنقاضها!

نعم ما زالت أمريكا تملك أوراق اللعبة، وتتحكم فى أنظمة ودول بأكملها من خلال القرار الدولى والبنك الفيدرالى والقوة العسكرية وقواعدها التى تربو على 800 قاعدة عسكرية منتشرة فى أنحاء العالم .. لكنك ربما تتعجب إذا علمت حقيقة أمريكا وأوروبا من الداخل، وأن مجتمعات الرفاهية والحرية الآن تنفر من الحروب، وأن الجيش الأمريكى تقلص إلى أقل من 2 مليون جندى بسبب التهرب من الجندية، وأن المثلية والإباحية أكلت طاقة هؤلاء الجنود، وأن حديث الساعة اليوم فى أمريكا هو الفرار من الالتحاق بالجيش، لدرجة أن النظام الأمريكي يفكر فى تطبيق التجنيد الإجبارى على نطاق واسع.

السويد وغيرها من بلدان أوروبا يصرخون اليوم لأنهم وجدوا أن النظم التكنولوجية والتعليم الرقمى أسهم فى تحويل الطلاب إلى عاجزين، لا يستطيعون الكتابة بأيديهم وقد تدنت لديهم مستويات الجاهزية والقدرة على الإنجاز بسبب الرفاهية الزائدة التى تقدمها لهم وسائل التكنولوجيا الحديثة بحيث تدنت ملكاتهم الفنية ومهاراتهم اليدوية بشكل كبير! الحل الوحيد الآن أمامهم العودة للأصول!

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم