آراء

قاسم حسين صالح: أطباء العراق بين ضعف الدولة وقوة العشيرة

توطئة: يحظى الطبيب في كل دول العالم بالاحترام والتقدير، لأنه هو المصدر الرئيس للوصول الى مجتمع سليم صحيا، ولأن كل فرد في المجتمع يحتاج الطبيب ليجعله يعيش حياته مستمتعا بصحته.. بل أن الأطباء يعتبرون جزءا من السياسة العامة لدفع الحكومات من أجل توفير سياسات الرعاية الصحية لأفراد المجتمع.. وأن لهم دورا حتى في تقليل الفجوة الصحية بين الأغنياء والفقراء.

ويتميز الطبيب العراقي بتصدره مكانة مرموقة في دول المنطقة، لأنه بني على أساس علمي رصين يعود الى عام 1927 يوم تأسست الكلية الطبية الملكية العراقية التي سُميت لاحقاً كلية الطب في جامعة بغداد، بجهود نخبة من الأطباء الدارسين والعائدين من كلية الطب في إسطنبول بينهم كبار معروفون: سامي شوكت، هاشم الوتري، فائق شاكر، وصائب شوكت.. مع اطباء إنجليز برئاسة هاري سندرسن. ولهذا حظي الأطباء العراقيون بمكانة محترمة في داخل العراق ودول الخليج ودول العالم .. في مقدمتها بريطانيا التي لو قرر الأطباء العراقيون فيها العودة الآن الى العراق لأختلت الخدمات الطبية فيها.والمخجل، أن هذه المكانة المحترمة التي تمتع بها الطبيب العراقي من عام 1927.. اطيح بها الآن .. فمن كان السبب: الدولة؟ الطبيب نفسه؟ المريض؟ ام العشيرة؟

توثيق ما حصل

مع ان الأعتداء على الأطباء العراقيين موثق ب(فديوهات) وصار حديث الأعلام والشارع، فاننا نستزيد هنا بما وثقته وكالات وجهات مختصة من ان الاطباء العراقيين تعرضوا في السنوات العشرين الاخيرة الى حوادث اعتداءات مستمرة استهدفت العشرات منهم داخل المستشفيات، وتعرّض كثيرين منهم الى ضرب مبرح من قبل افراد عشيرة المريض . وتوثق شفق نيوز في تقريرها 6 / 8/ 2021 (ان 85% من الاطباء يتعرضون يوميا الى الاساءة اللفظية والبعض يتعرضون للضرب).

ولقد استطلعنا الرأي بخصوص هذه الظاهرة المخجلة والخطيرة وغير المسبوقة، فكانت النتائج ان 37% عزوا السبب الى خطأ غير مقصود يرتكبه الطبيب، فيما رأى اكثر من 60% ان السبب يعود الى قوة العشيرة وضعف الدولة.

شيوع الرذيلة.. سبب!

ان اوجع وافجع ما حصل للشعب العراقي حدث بعد تشكيل اول حكومة دستورية عام 2006 والحكومات التي تلتها، لأنها اشاعت ما كان يعد خزيا (الفساد) الى شطارة وانتهاز فرصة، وكان هو السبب في تهرؤ الأخلاق وانتهاك القيم الذي ادى الى انتشار كل الرذائل في المجتمع، بما فيها الطائفية والتعصب العشائري .. في مفارقة ان خيمة النظام الديمقراطي جمعت الدولة و العشيرة معا، وما دروا ان العشيرة تبتلع الدولة في النظام القائم على الطائفية والمحاصصة.

وبدءا من تلك السنة(2006) ازداد استهدف الأطباء.فوفقا لوكالة الرأي في ( 4/7/2006) ثم قتل 224 طبيبا وجرح 150 آخرين ونزوح اكثر من الف طبيب خارج العراق. واستمر الحال الى الآن .. تؤكده وسائل اعلام عراقية وعربية بينها الجزيرة بتقريرها في (25/2/2023) الذي استهلته بقولها:

(شهد العراق خلال الفترة القليلة الماضية العديد من عمليات الاستهداف لعدد من الكفاءات العلمية المعروفة بين اغتيال أو خطف..). ووثقت روايتها بان (مدينة بعقوبة شهدت عملية اغتيال طالت طبيبا معروفا متخصصا بجراحة القلب يدعى أحمد المدفعي)، وأن نقابة اطباء العراق أبدت (قلقها على وضع الأطباء في المحافظة، في حين قررت نقابة صيادلة ديالى تعليق العمل في الصيدليات إلى إشعار آخر، منددة بهذا العمل الذي وصفته بـ"الإجرامي" الذي بات يستهدف الكوادر الطبية والكفاءات).

شيوخ العشائر

شغلني سلوك شيوخ العشائر فرحت ابحث في تاريخهم عن علاقتهم بالحاكم تحديدا، فوجدت انهم كانوا يقفون مع الأقوى. ففي التقرير الذي أعدته دائرة الاستخبارات البريطانية في العراق عن مشايخ ولاية بغداد سنة 1917، يذكر مترجمه الدكتور عبد الجليل الطاهر أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنكليز، وأنهم كانوا يحصلون منهم على الرشوات، وأن الإنكليز استعملوا أساليب الإغراء وتلويث الضمائر واستطاعوا شراء ذمم بعض شيوخ العشائر.

وكان الحكم الملكي هو العصر الذهبي لشيوخ العشائر، اذ صاروا فيه أصحاب ثراء فاحش وجاه عظيم واعتبار اجتماعي كبير وسلطة يستعان بها في إدارة البلاد وضرب المعارضة السياسية. وكان دورهم في البرلمان مثار سخرية الناس وإطلاق النكات عليهم، من قبيل التصويت داخل البرلمان على قرار برفع الأيدي، وكان أحدهم نائما في المجلس ولما أيقظوه رفع يده وقال"موافج.. يعني موافق" دون أن يعرف ما هي القصة!

وفي زمن النظام الدكتاتوري، عمد صدام إلى تشكيل ما أطلق عليه (شيوخ أم المعارك).. اشترى ذممهم بدفع هدايا مالية ومسدسات وامتيازات أخرى، لقاء قيامهم بالسيطرة على أفراد عشائرهم وأن يكونوا عيونا للسلطة في مناطقهم، واستجاب عدد منهم طمعا بـ(التكريم) أو دفعا لشرّ طاغية لا يرحم. ومثل هذا حدث أيضا في النظام الديمقراطي، إذ التقى رئيس مجلس الوزراء الأسبق (نوري المالكي) بعدد من الشيوخ بقصد كسب أصوات أتباعهم في الانتخابات وتأييدهم لشخصه حصلوا فيها على (مسدسات) تبدو في ظاهرها تكريما فيما هي في حقيقتها شراء موقف. وفي (20 نوفمبر 2019) التقى رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي عددا من شيوخ العشائر ليستعين بهم في قمع انتفاضة اكتوبر/ تشرين. وهذا حال كل الحكومات العراقية.. إنها تستميل إليها شيوخ العشائر حين تشعر بخطر يتهددها، وإنها تجزل العطاء لمن يتعاون معها، وإن عددا من الشيوخ يستجيبون لذلك حتى لو كانوا يعلمون أن الحكومة على باطل.

ومع ان قادة الأحزاب والكتل السياسية يستخدمون نفس نصيحة (المس بيل) لأسيادها، بكسب رؤساء العشائر بالرشا و(المسدسات)، فانهم (رؤساء العشائر) وجدوا انفسهم بعد 2006 انهم اقوى من الدولة الذين يستجدى قادتها ودهم، فوضعوا الدولة في جيوبهم وداسوا على القانون باقدامهم، وياويل الطبيب الما عنده عشيرة قوية اذا مات مريض ادخلوه غرفة الأنعاش وهو معه.. فهو اما مهان او مقتول او دافع لتعويض (يكسر الرقبه).واذا كان الطبيب من عشيرة، والمريض (المتضرر) من عشيرة اخرى، فان عشيرة المريض (تنفض كوامه) على عشيرة الطبيب تطلب فصلا (نسوان!) و تعويضا (ملايين)!.

ما المطلوب؟

أمران: الأول، تفعيل القانون يحدد بالصريح بان اي اعتداء على طبيب يعتبر جريمة يعاقب عليها بالحبس او الغرامة او بكليهما. ويوضح لأهل المريض المتضرر بأنهم اذا كانوا يرون ان الطبيب ارتكب فعلا خطئا، وان كان غير مقصود.. فان عليهم تقديم دعوة لأجراء التحقيق يصل الى تحديد ما اذا كان ما حصل خطئا او تقصيرا من الطبيب أم مضاعفات طبية.

والثاني، عقد مؤتمر لكبار شيوخ العشائر يتوصل فيها الى اصدار وثيقة شرف تمنع الاعتداء على اي طبيب او اخذ تعويض منه، واعتماد القانون بوصفه القاضي الذي يحكم بالعدل.

بهذين الأجرائين .. تعاد للدولة هيبتها وللقانون سيادته وللأطباء كرامتهم وشعورهم بالأمن والحد من هجرتهم.

بقي ان نقول ان كلامنا نرجو ان لا يفهم بصيغة التعميم على شيوخ العشائر، فهناك عدد كبير منهم ادانوا هذه الظاهرة المخجلة، وهناك عدد آخر اقاموا خيما بساحة التحرير مع شباب انتفاضة تشرين، وآخرون شاركوا في تظاهرات شعبية وهزجوا مع المتظاهرين ( نواب الشعب كلهم حراميه).. وعلى هؤلاء الشيوخ الأجلاء يكون رهاننا في القضاء على ظاهرة مخجلة وغير مسبوقة في تاريخ الطب في العراق، تعيد للدولة هيبتها وللقانون سيادته وللطبيب مكانته التي كان يتمتع بها عبر مائة سنة.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم