آراء

عبد الباقي قربوعه: موقف الأنظمة العربية والإسلامية أمام معضلة القرن (فلسطين)

لم يعد (فاقد الشيء لا يعطيه) كما جرت العادة بل صار مُدمّرا له.

الدولة حسب مفهومها الفلسفي هي سيادة قرار وإرادة تنفيذ، ولا شأن لنا في هذا المقال بمكوناتها الميكانيكية لأننا لا نستطيع بناء موقف من جمادها إذا لم تجد من يحركّها، فإذا لم تكن تملك السيادة المقصودة في فلسفة الدولة فأنت محتل أصلا، لأنك تعيش حالة من العجز لتسيير إدارة الدولة سياسيا واجتماعيا، وهو موقف أقبح من الاحتلال نفسه، على الأقل المُحتل يملك سلطة وقوة تنفيذ ولو على حساب مواطنين ليسوا من جنسه ولا هم من عقيدته على أرض ليست أرضه.. فالمحتل قد يغريك بحاجات يومية مُلحة كي لا تثور ضده، بينما إذا تسلّط عليك ابن جلدتك فإنه يقهرك بما تُدين، ويعزلك بما علّمك، ويحرمك مما تكسب، يحتكر الوطن ويسلب قوميتك ودينك فيتحدث بمفرداتهمم ويوظف مصطلحاتهم ليصفك بما يشاء، فإن ثرت عليه قمعك بقوة السلاح بدافع ما تشعر به من وطنية كمبرر، يعني يقتلك دفاعا عن وطن من المفروض مشترك بينكما وربما تُحبه أكثر منه، لكن المحتل يعرف بأنه معتد وأنه تمكن من السطو عليك وعلى وطنك وممتلكاته، فإذا نعتك المحتل بأنك إرهابي مثلا فلا غرابة في ذلك، لكن أن ينعتك ابن جلدك بما لا تحب وبما يروق لأعداء وطنك هذه هي عين الغرابة، وهو أيضا تحصيل الحاصل الكامن في تنسيق كثير من الدول العربية و(الإسلامية) مع دول غربية من بينهم إسرائيل حول اعتبار المقاومة الفلسطينية منظمة إرهابية، لأن المحتل الوافد من الخارج مثله مثل الذي ينقلب على نظام شرعي حتى وإن كان يؤمن بما تؤمن به ويدعي مثل ما تدعيه من وطنية وقومية وعقيدة، فكلاهما مخالف للقوانين والأعراف الدولية، ومن العجيب أن يكون الإرهابي في وطنه أكثر فائدة واحتراما ممن يعتبر نفسه نظاما وهو في الحقيقة منبثق من اللّانظام،  وترتب وجوده عن انقلاب أو تزوير انتخابات، والدليل على ذلك أن أمريكا كلما أرادت الإطاحة بنظام سلّطت عليه المعارضة التي تأكدت من أنها منبوذة ومُنقمعة من طرفه وربما حتى شاركته في قمعه، وبالتالي فهي جاهزة ومشحونة بالحقد والرغبة في الانتقام، بمعني محاصر وهو لا يدري.

إذن النظام الواهي الضعيف هو الذي يضع خيوط اللعبة في يد عدوّه ظنا أنه سيتلقى منه حماية كاملة، على أساس أنه يأتمن جانبه في عدم المساس بمصالحه، وهذا ما يسميه الغرب عبثا بالمصالح المشتركة، وبدافع المنفعة اقتنعت كثير من الأنظمة العربية وغير العربية بهذه الشراكة المؤذية، فأي مصالح يصف فيها شريكك شعبك بالتخلف وحينا بالشعوب النامية، وحينا آخر بدول العالم الثالث، ثم يتدنى التوصيف إلى أن يصفه بالأصولي ومرة بالإرهابي، ومرة أخرى بالتشدّد، إلى أن وصل بهم التوصيف بمناسبة اجتياح غزّه بالوحشية والحيوانية؟ أي مصالح وأن توقّع شراكات تجارية من مواد حيوية لشعبك، وموارد بشرية وطاقات خلّاقة بعقود طويلة الأمد ستكبل بها حركة بلدك قرنا أو قرنين أو ما يمكن أن يزيد عن ذلك لأنها عادة ما تكون مفتوحة؟ أي مصالح وأنت توقّع جزافا على استلام الإعانات المالية وكأنك تتوعدهم ببيع الوطن بما فيه من ثروات وحدود وبشر، وتفعل ذلك باسم شعبٍ قد نهبت حقه الانتخابي ثم طلبت حمايتك من أعدائه، وقد يكون هو من أعانك على الإطاحة بأخيك في الدين والوطنية والدم والعرق والسلالة؟

الشعوب طيبة جدّا وأحيانا نراها بليدة، وحينا آخر يدفعها الخوف على أسرِها إلى العمل والصمت، والقلّة القليلة الحامية إرادتُها إرادة في التغيير لا تملك الأدوات الكافية لذلك، والمؤسسات في شكلها الوظيفي تتكتل ضدها، فالخوف من فقدان الوظيفة سلاح في أيدي الظالمين أيضا، والوضع المعيشي قنبلة موقوتة في أيديهم، ولم يعُد هؤلاء من وراء الشعوب المقهورة ولا البحر من أمامهم كما جرت العادة، بل صارت المشانق من ورائهم والدبابات من أمامهم، لأن البحر لم يُعد مخيفا كما كان في السابق، وهذا هو دأب الحياة النفوذ فيها للأشرار دائما وأبدا، وهذا هو أيضا سر فرار الفقراء والمساكين والمغلوب على أمرهم إلى الله، وسر وقوفهم إلى جانب الأنبياء والرسل، لأن الله يرسلهم كلما تفاقم الظلم والطغيان والعبودية واستفحلت الجريمة، لكن ماذا إذا توقف الله عن إرسال الأنبياء والرسل؟ حتى التاريخ يخبرنا بأن المرسلين الذين يتحدثون بلسان الله لم يسلموا من غطرسة هؤلاء الظلمة، فهل نقول قد غُلّقت الأبواب في وجوه الجياع والعرايا والمرضى والعجزة، وهل نجزم بأنها قد تعسرت عليهم الحلول، إلى أين يفرّون والذين يدعون التفوق الحضاري، ويتصدرون العالم تنيا للعدالة والديمقراطية والحرية ملطخة أيديهم بدماء الأبرياء؟

هل هذا القرن سيكون موعدا تتعطش فيه الشعوب إلى بروز فاتح عظيم، كما جرت العادة في قرون سبقت عندما تفشّى الظلم بين الناس؟ هل من فاتح تزغرد الملائكة في أذنه لينهض بهم، ويحقق لهم العدالة والرفاهية والأمن والاستقرار؟ الله استوفى على الناس الحجّة بتثبيت الدين الحق، وقال ارجعوا إليه كلما اشتدت بكم المصائب والكروب لكن لا أحد رجع إليه، والدول التي تتحكم في العالم لا تؤمن به أصلا، لا يهما إلّا اكتناز الأموال والذهب والفضة، والله أوحي إلى نبيّه بألّا نبي بعده، فأين تفر الشعوب إذا استفحل الظلم وانتشرت العبودية بمسميات اقتصادية وسياسية وقومية وعشائرية؟ وقد تكون حتى دينية عندما يُنمِّط الظلمة الدّين ويمنهجونه خادما لمصالحهم وحاميا لهم ولأتباعهم وعملائهم، حتى الكوارث الطبيعية والصحّية لم يعد الظلمة يكترثون بها كعقاب إلهي، بل صاروا يجدون لها تبريرات علمية ويربطونها بالمناخ والجيولوجيا.

بكل هذه المعطيات الواقعية التي تراها الشعوب وتعيشها في يوميتها، كيف تقوم لأنظمتهم قائمة وهم يسيرون على خطا الغرب الذي لا يُرجع النزاعات إلى الله ولا إلى رسله؟ هنا يمكننا القول بأنه لم يعُد (فاقد الشيء لا يعطيه) كما جرت عليه العادة بل صار مدمّرا وماسخا له، وهذا هو وضع الأنظمة العربية لأنها من البدء ظالمة ومجحفة لشعوبها، وتمارس سلطة عليهم ليست من حقهم، فكيف للظالم أن يجابه ظالما مثله وفي عرف الظلمة المؤازرة والتعاون وابتكار أنماط الظلم.

***

عبد الباقي قربوعه - كاتب جزائري

في المثقف اليوم