آراء

عبد السلام فاروق: دراما المسرح الشرق أوسطى!

مشاهد تراجيدية تراها كل طلعة نهار تنقلب فيها الوقائع وتتحول المأساة لما يشبه الكابوس..

30 ألف طن متفجرات خلال شهر واحد ألقتها إسرائيل على رؤوس المدنيين فى غزة فى أسوأ مشهد إبادة عرقية فى الألفية الجديدة..ليسقط على إثر وابل القنابل أكثر من عشرة آلاف شهيد أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء!!

كل هذا والعالم يضع على عينيه عصابة، ويحشو أذنيه بالقطن، ويغلق فمه بكلتا يديه..بينما الولايات المتحدة الأمريكية لا تكتفى بمجرد التشجيع والدعم غير المشروط لإسرائيل والتغطية على جرائمها، بل تمدها بمدد لا ينقطع من السلاح والعتاد والذخيرة والدولارات بلا حساب ولا رقابة ولا وازع من ضمير..

لكن المشاهد ليست كلها على هوى أمريكا أو إسرائيل..

على الهامش وفى الكواليس هناك مشاهد أخرى قد تغير كل شئ، وقد تأتى نهاية المعركة لينسدل الستار على مشهد أخير لم يتوقعه أحد!

جحيم على الأرض

كأننا فى قلب أحد أفلام الأكشن الهوليودية، نرى فيه دبابات تنفجر وجرافات تحترق وقذائف مصورة بمشاهد حية من قلب معركة مستمرة منذ مناوشات الاقتحام البرى الأولى لغزة وحتى اليوم..

مقاتل فلسطينى يصعد على ظهر جرافة تكلفت مليون دولار ثم يحرقها بولاعة ثمنها أقل من دولار! وآخر يقترب من دبابة متطورة ليزرع على ظهرها عبوة متفجرة سرعان ما تخترق جسمها المصفح المنيع وتجبر الناجين منها على الفرار..مراسل لقناة أجنبية مرافق لفرقة إسرائيلية فى اقتحامات شمال غرب القطاع يخرج على العالم ببث حى وقد انتابه الهلع وهو يري فرقة الجنود وقد تحولوا جميعهم أمامه لأشلاء! ثم على الناحية الأخرى رجال يخرجون من قلب أنقاض المبانى فى غزة بعد الغارات الإسرائيلية يصيحون: "وكأنه يوم القيامة!"..وعلى أطراف العالم يراقب الأجانب فى ذهول واندهاش: كيف أن غزة يتم قصفها بأمطار القنابل شهراً  كاملاً ثم لا يزيد الناجون عن قولة: الحمد لله!!

البيت الأبيض حوصر بكتائب المتظاهرين ينددون بما تقترفه أمريكا فى حق غزة وأهلها..لدرجة أن عمال الموانئ تجمعوا على إحدى السفن المحملة بالسلاح لإسرائيل يبغون منع السفينة من الإقلاع! ومحطة النقل جراند سنترال فى نيويورك يتم إغلاقها بأيدى متظاهرين قرروا وقف العمل بها حتى إشعار آخر! وملايين المتظاهرين فى عواصم أوروبا وآسيا وأمريكا خرجوا بأعداد مهولة تزداد يومياً حتى أن بعضها كسر أرقاماً قياسية لما سبق من ثورات العِقد الحالى!!

مفارقات وتناقضات

بعد كل ما حدث ويحدث من ظلم عظيم ومجازر فى حق الفلسطينيين خرج وزير ما يسمي ب" التراث الإسرائيلي" فى هياج يطالب بمحو غزة بالقنابل النووية على غرار ما حدث فى هيروشيما ونجازاكى..كأن إسرائيل بكل ما تملكه من جيش ودعم أوروبى وأمريكى قد عدمت الحلول واستنفدت الوسائل كلها ولم يبقَ أمامها سبيل إلا إبادة الشعب الفلسطينى كله بالنووى. فما السبب الحقيقي وراء الهياج الإسرائيلى؟

إنهم مضغوطون منهزمون حائرون لا يعرفون كيفية التصرف مع مقاومة فلسطينية جبارة تقاتل قتال المستميت وتذيقهم ألواناً من العناء والعنت كل يوم..بحيث لا تمر ليلة إلا ويتم تدمير عدد من الآليات والدبابات، وقتل عدد من الجنود والضباط حتى وصل عدد القتلى من جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 400 قتيل. نتنياهو بات مكروهاً من المستوطنين اليهود ومن الأمريكان بل وممن حوله من المسئولين الذين تفشت فيهم "موضة" الاستقالات ،وبعضها تم على الهواء مباشرةً! المظاهرات فى الشارع الإسرائيلي امتدت حتى بيت نتنياهو نفسه، والمطالبات بتحرير الأسرى تقض مضاجع القادة الإسرائيليين، والأيام تمر بطيئة ثقيلة دون إحراز أى تقدم على الأرض، فلا تم اقتحام غزة ولا اكتشاف الأنفاق ولا إضعاف المقاومة ولا تحرير الأسرى..بينما الاقتصاد الإسرائيلي ينزف بغزارة، والهجرة العكسية من إسرائيل تجاوزت ربع مليون هارب!

هكذا تبدلت الصورة داخل إسرائيل..فالمستوطنين باتوا ضيوفاً على المخيمات والفنادق، وقائمة الانتظار فى رحلات الطيران لخارج إسرائيل محجوزة لعام كامل قادم، والعمالة تقلصت للنصف، والسياحة توقفت، ووسائل النقل شحت وأصابها الشلل، وصفارات الإنذار باتت تدوى فى كل مكان وفى أى وقت، بحيث تبدد الأمان وعم القلق والتوتر والهلع.

تلك مفارقة كبري.. أن ترى البيوت المهدمة التى سويت بالأرض فى غزة يعمها الرضا والطمأنينة فتصدح شكراً وحمداً للرحمن، بينما يسود الخوف أرجاء إسرائيل..وكلهم قلق مما سيحدث إذا طال أمد الحرب..والمفارقة الأكبر أن المقاومة هى المنتصرة على كل الجبهات رغم الحصار الخانق من البحر والبر والجو، وأن التعاطف العالمى المتزايد معها يثبت هذا الانتصار ويشجعه ويدعمه..

مآلات التورط الأمريكى

أمريكا باتت طرفاً فى معادلة الحرب، وهى تهدد إيران وتحذرها من خوضها؛ ولهذا سارعت بنشر حاملات الطائرات والغواصات النووية على السواحل..والواقع أن أمريكا تورطت فى حرب لا تريدها..

الحزب الديمقراطى انحدرت شعبيته إلى أقصى حد، وتعليقات الكثيرين تحتوى على كثير من السباب الغاضب لدرجة القول أنهم "سينتخبون حذاءهم بدلاً من بايدن!"..يحدث هذا فى الوقت الذى تتفرغ فيه الساحة لروسيا والصين أمام أطماعهما فى أوكرانيا وتايوان..والغضب الشعبي العالمى يفور بثورات عارمة تهتف ضد إسرائيل وأمريكا معاً..بينما تتعرض القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا لضربات وتهديدات يومية من فصائل وميليشيات مسلحة مختلفة الانتماءات، بما ينذر بتوسيع رقعة الحرب وفتح جبهات متعددة ضد إسرائيل ومعها أمريكا.

وفى غياب الوجهة والمغزى من الحرب الشعواء لإسرائيل ضد قطاع غزة بدأ الأمريكيون يشعرون بمدى الحمق والغباء والخسارة من استمرارهم فى حرب لن تنفعهم فى شئ، لكنها ستضرهم فى أشياء..والاتجاه السائد فى أروقة القرار الأمريكى الآن توجه الإسرائيليين نحو ضرورة تحقيق أية نتائج سريعة على الأرض، وتحرير الأسرى ثم التعجيل بالتهدئة والهدنة ..لكن الرياح لا تسير بما تشتهى السفن..لأن إسرائيل تبدو كالكلب المسعور أو كالثور الهائج لا يريد شيئاً إلا مزيداً من سفك دماء الأبرياء.

إسرائيل ذاهبة..وفلسطين باقية

مهما كانت نتائج الحرب الحالية ، فإن إسرائيل لم تعد كما كانت بالأمس القريب.. جيشها مهزوم، واقتصادها مأزوم، وجنودها محبطون، وقادتها فى خلاف دائم، وشعبها فى انقسام واضح..وهناك قناعة لدى الكثيرين منهم أنهم يشهدون نهاية العِقد الثامن المنذر بزوال إسرائيل وعودة الفلسطينيين إلى أراضيهم المسلوبة وديارهم المنهوبة.

الشعوب العربية من حول إسرائيل تبدو هادئة هدوء المطمئن إلى المآلات..فإسرائيل حتماً إلى زوال.. وفلسطين باقية، ومهما استشهد من أبطالها يأتى من أصلابهم من يستكمل مسيرة الصمود، حتى يأتى وقت يرونه بعيداً ونراه قريباً تُسترد فيه الحقوق ويعود الأقصى مقصداً لمحبيه من الجهات الأربعة..

لقد رأينا كيف أن الغضب العارم حول العالم يزداد مع كل غارة تدك فيها إسرائيل مدرسة أو مستشفى أو مبنى سكنى يروح ضحيتها مئات الأبرياء من الأطفال والنساء والكهول..وها هى الدول تطرد سفراء إسرائيل وتستدعى سفراءها منها وتقطع علاقاتها الدبلوماسية مع كيان محتل غاصب لا يحترم قانوناً دولياً ولا وازعاً إنسانياً.. ولن يطول الوقت حتى نجد كل داعمى إسرائيل ينفضّون من حولها تباعاً حتى أمريكا ذاتها، عندما يكتشفون أن مصالحهم تنهار وتتضرر فى كل مرة يدعمون فيها الظالم ضد المظلوم، ويقاتلون إلى جوار المتجبر لسحق الأبرياء.. وحينها سيأتى الدور على إسرائيل لتذوق من نفس الكأس التى أذاقتها للشعب الفلسطينى الصامد، وتعود الأرض لأهلها والأقصى لقاصديه.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم