آراء

يحيى علوان: الإنسان الحُرُ موقفٌ وكلمة.. يا هابرماس!!

"طوفانُ الأقصى" وبدءُ تصدُّع الجبهة الصهيونية

تَكَسَّر الجليد...!

دمُ غزَّة كسَّرَ جليدَ الصمت الرسمي العالمي!

فها هي واشنطن وتل أبيب، برلين ولندن وسواها من الداعمين للإحتلالِ  تتَجرَّعُ، وإنْ على دُفُ

عاتٍ، كأسَ السم..!

فحركاتُ الدعم والتضامن الشعبي مع فلسطين تتسعُ في كلِّ العواصم والبلدان بشكلٍ مضطردٍ فتُحرِجُ الغربَ الإستعماريَّ المنافِقَ.. وحتى المُمَالئين، المتطامنين الذين لا يجرأون حتى على رؤية آفاق النضال التحرُّري للشعب الفلسطيني، وتُحرجُ كذلك كلَّ الذينَ تشرنقوا بالصمتِ الصاخب والمُخجِلِ، متخاذلينَ  إمتثالاً للراعي الأمريكي!

................

لقد أَخجَلتْ المجازر والفظائع الصهيونية، في فلسطين وغزة اليوم، بشكلٍ أخص، والتي تناهز جرائم الفاشية والنازية، أقولُ أخجلتْ كلَّ ما حَفِظه التأريخ من إرثٍ دامٍ مروعٍ على مرٍّ العصور!!

فإذا كانت دولةُ الإحتلال، التي قامت ولا تزال على الخرافة، تَكذِبُ في السابقِ، وما زالت اليومَ، تُلَفِّقُ الذرائعَ للتعميةِ على جرائمها بحق الفلسطينيين، فقد أَسقطتْ، هذه الدولة اللقيطة، اليومَ القناعَ عن وجهها الحقيقيِّ العنصري القبيح. وبذلك تكشفُ، جهاراً- قولاً وفعلاً – عن حقيقتها، كونَها كيانٌ إستعماريٌ إستيطانيٌ إحلاليٌ، شكلاً ومضموناً.. فأنَّ الشعب الفلسطيني اليومَ ليس وحيداً في نضاله ضد الكيان الغاصب، بل يقفُ معه كل شرفاء العالم، الذينَ ما إنفكّوا يدعمون نضاله العادلَ في شتّى المدنِ والعواصم، حتى الغربية! فها هي إسكتلنده وبلجيكا وإسبانيا يخرجونَ على "الإجماع" الرسمي للناتو وراعيه في واشنطن الموالي والداعم الأرأس للنظام العنصري في تل أبيب!

ذلك أنَّ نضالَنا ضد الإحتلال الصهيوني وجرائمه في التطهير العرقي والإبادة الجماعية ، أقولُ أنَّ نضالنا من أجل إنتزاعِ حقوقنا المغتصبة في فلسطينَ، هو نضالٌ مصيريٌّ شريف.. لا يقتصرُعلى جبهاتِ المقاومةِ فقط، بل هو نضالٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ - إعلاميٌّ بإمتياز أيضاً!

فقد علّمَنا التأريخ أنَّ الشعوبَ لا تَستردُّ حقوقَها المُستلَبَة إلاّ بالعزيمة، وليس بالإستسلام والخنوع! وأَنَّ الكرامةَ لا تُصانُ، إلاّ بالثَباتِ على المباديء، وليس بالمساومة والتطبيع مع المستعمِر الغازي!

ولنا في تجارب الشعوب الحية، كالشعب الجزائري والفيتنامي وشعب جنوب أفريقيا وغيرها خيرُ مثال..!

فهذه الشعوب لم تنتزع حريتَها وتكنس المستعمِرَ الغازي إلاّ بتوحيد جهودِها، بتجاوزِ كل الخلافات العقائدية والحزبية الضيقة والأنانية، نعم بتوحيد جهودها في كل المجالات بما فيها السياسية والإعلامية والثقافية، دعماً لنضالها المقاوم بمؤازرة جماهيرها الشعبية – حاضنَتِها الأساسية – أولاً،  وبالتضامن العالمي مع نضالها العادل والمشروع، ثانياً!

فمهما قيلَ وما يقال، لا نستكثرُ على الشعب الفلسطيني، وبخاصة أهل غزةَ العزة، لا نستكثر عليهم هبّتَهم المجيدة في السابع من أكتوبر. فقد جرَّبَ الفلسطينيونَ على مدى كل العقود السابقات، جرّبوا كلَّ الوعود والعهود والإتفاقيات والمواثيق.. وما جَنَوا غير التهجيرِ والتقتيل والمجازر، وسطَ تواطؤ دوليٍ وإقليمي وخيانة "قومية"! وظلّوا يقاومون المحتل، منذ وعد بلفور حتى اليوم.. يُضمّدونَ جراحهم بيد ويقاومون باليد الأخرى!

...........................

سيكتِبُ التأريخُ السابعَ من تشرين بحروف من ذهب!

وسنكتبُ أسماءَ شهدائنا بحروفٍ من دمع! فنحنُ بَشَرٌ..!

نحزنُ كبقية الخَلق لفَقدِ أعزَّةٍ لنا!

لا نُكابر على الدمع.. ولا نَنْهرُ العينَ إنْ فاضَتْ بماء الوجع!!

لكننا، في الآنِ نفسه، لن ننسى!

وهذا ما يثير حَنَقَ المحتل ويؤرقه، فيوغلُ حتى في دم أطفانا، مخافَةَ أنْ يكبروا وتكبُرُ معهم ذكرياتُهم عن جرائم المحتل!

نحنُ قومٌ لا نشِدُّ جراحَنا... نَرُشُّها بالملح كي لا تندمل..! حتى تنقشعَ سُحُبُ الخوف من النفوس أولاً، ونتأهّلَ لإنتزِاعِ حريتِنا وإستقلالِنا الناجزين، دونَ وصايةٍ أو "أبوية" أجنبية، بشجاعة الثوّارِ ومؤازرة قوى الخير والحرية في العالم!!

.........................

***

في هذا المقام، لابُدَّ لي من وقفة سريعة، مع الغرب الرسمي الأعور، الذي لا يرى إلاّ بعينٍ واحدة!! تحديداً مع الفيلسوف الألماني  يورغن هابرماس، الذي" صمَتَ دهراً، ثم نَطَقَ كُفراً" كما يُقال! فقد نَشَرَ قبل بضعة أسابيع بياناً وقَّعه ثلاثةٌ هُمْ (كلاوس غينتر، نيكول ديتلهوف و راينر فورِست) أدان فيه ما سموه بـ "المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنيِّة إبادة الحياة  اليهودية بشكل عام"...!

ويقول هابرماس، ومنْ معه في بيانهم: "إنّ الوضع الحالي الذي تسبّبت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس، وردَّ فعل إسرائيل عليه، أفضى إلى سلسلة من المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية".

لنُعاينْ عبارة: "المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية"؛ لنسألَ الفيلسوف عما إذا كان فهمُه وتعريفُه للأخلاق هنا يتّفق مع أركان فلسفته العلمية النقدية، التي تطالب بالتجرد في بحث كل المواقف والمسائل والقضايا بحثًا دقيقًا يشمل كل الأطراف، ويغطي الامتدادَ الزمني من دون انحياز لطرف على حساب آخر؟

لكنَّ هابرماس قفزَ في الزمن ليعظَنا ويقول: "إن هناك بعض المبادئ التي يجب ألا تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساسًا لتضامنٍ مُفَكَّرٍ فيه ومُتَعَقَّلٍ مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا....كذا!!"

فأين هذا من مبادئ الفلسفة النقدية الاجتماعية التي صدّعتَ بها رؤوسنا، يا سيد هابرماس؟ أين الشمولية النقدية البحثية؟ وأين الدعوةَ للحرص على تمثيل كل وجهات النظر، وبحثها باستفاضة قبل صدور أي حكم أو تقويم؟!

أتدري سيدي أن عدد ضحايا القصف الإسرائيلي "المُتحضّر!!" في غزّة قد جاوزَ ستة عشر ألفاً، منهم إثنى عشر ألفاً من الأطفال والنساء...؟! ناهيكم عن آلافٍ أُخرى من المفقودين تحت ركام أنقاض القصف "الديمقراطي!".. هم ضحايا ما تُسمّيه حكومتكم وإعلامكم  "الحر!" بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"!! كأنْ – لا سامحَ الله!- أنَّ يكونَ الفلسطينيونَ هم مَنْ إبتدعَ المحارقَ لليهود وإحتلُّوا إسرائيل.. ليسومونَها سوءَ العذاب والتقتيل والإبادة الجماعية – لا قدّرَ الله -!!

الستة عشر ألفاً هم، يا سيدي، حَيواتٌ... إنهم بشرٌ، مثلكَ ومثل غيرك، لهم أسماؤهم ولكلٍّ منهم سرديّتُه وحقُّه في الحياة.. وليسوا مجرد أرقام مثلما تعاملت معهم آلة الوحشية النازية والصهيونية!

هل رأيت، حتى في الكوابيس! أكفاناً مُسطَّرةً مثل البضائع، هي الـ"بضاعة المُحبَّبة"للغزاة الصهاينة؟!

أيةُ كناية كونية تستصرخُ فينا إكتشافَ دِلالاتٍ لا نراها؟!

أينَ يقفُ الله في هذه المذبحة، مُتفرّجاً دون أنْ يَطرفَ له جفن؟! ولا يحرّكُ ساكناً؟!

***

أُزيدكَ علماً..! أنَّ ما يزيد على سبعين صحفياً قد إستشهدوا في قصف جماعتكم المدافعين عن النفس..!! خلالَ االأسابيع المنصرمة، يقابلهم 48 صحفياً، فقط، قُتِلوا خلال الحرب العالمية الثانية، كلِّها والتي دامت ست سنوات!!

وهل تعلم يا سيد هابرماس، أَمْ تَتَناسى أنَّ مجلسَ الأمن الدولي أصدرَ في عام 2015 قراراً إعتبرَ فيه قتلَ الصحفيينَ في الحروب يُعدُّ  جريمةً ضد الإنسانية؟!!

....................

بودّي أنْ أعرفَ حقاً ما تشعُرُ به، ومَنْ وقَّعَ معك البيانَ إياه، عندما تسمع طفلاً من غزّة لا يتجاوزُ التاسعة من العمر، حين سأله صحفيٌّ وسط خراب القصف والدمار الإسرائيلي، عمّا يتمنى أن يكونه في المستقبل بعد إنتهاء الحرب على غزة، فيجيب الطفل:

" ليس لنا، نحن أطفالُ فلسطين، أيَّ مستقبل! لأنَّ الإسرائيليينَ يقتلونَ الأطفالَ كي لا يصيروا رجالاً يقاومونَ المحتلَّ"!!

ألمْ تلاحظ، وتسمع أنَّ الكيان الغاصبَ يريدُ محو المستقبل من أحلام أطفال فلسطين؟!

يا حضرة الفيلسوف هابرماس! أتدري أنَّ سبينوزا، هيغل، ديديرو، نيتشه، أينشتاين،أدورنو، هوركهايمر وبرتراندرسل وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الأحرار سيختضّونَ في قبورهِم ويكسرون جِرارَ رمادِهم فَزَعاً، لو عَرِفوا بموقفكَ الإنتهازي المنافقِ هذا، وكأنَّكَ تريدُ به تفادي سوط الصهيونية بتهمة "معاداة السامية"!

أسفي عليكَ يا سيد هابرماس أنَّكَ لم تصطفَّ إلى جانب نعوم تشومسكي وغونتر غراس وبيتر هايندَكه، إيلان بابيه وميشائيل ليدرز وغيرهِم من المفكرين الأُصلاء، مِمَّن لم تُثنهِم عن قولَةِ الحق لومَةَ اللئامِ من أعداء الإنسانية، لمْ تُثنِهِم عن نصرة الحق والعدالة الإنسانية في فلسطين...

أما كان للعقل الفلسفي فيكَ أنْ يصرخَ إنتصاراً لشعب تجري إبادتُه بصورة منهجية من قِبَلِ دولة الإحتلال الصهيوني؟!

أما كانَ لك أن تُطالبَ بتصحيحِ موقفِ دولتك الخاطيء مرتين في التأريخ؟! مرةً من قبل النظام النازي من اليهود (لا حاجة في هذا الموضع للتطرُّقِ إلى علاقة الصهيونة العالمية بالنازية، فقد أُشبِعَ بحثاً وتوثيقاً..!) فإذا كنتم تشعرونَ بوخز ضميرٍ مجروح  إزاء ما فعله النازيونَ ضد اليهود، فلماذا ترفضون، بل تصمتونَ إزاء ما يفعله الصهاينة من مجازر إبادة جماعية (Genocide)؟!

أيّ نفاقٍ هذا؟! في الوقت الذي تَتَمسّحون فيه بمواثيقِ الأمم المتحدة، التي ثبَّتَتْ فيه حقَّ الشعوب في تقرير مصيرها والنضال المشروع ضد الإحتلال..؟!

ألأنَّ الفلسطينيينَ ليسوا بيضاً أو أوربيين، وبالتالي هم هَمَجٌ! لا مكانَ لهم في حضارة الغرب، ضمن سردية المستشرقينَ الأوائل وحفيدهم الحالي في بروكسل، بوريل، الذي قال قبلَ فترة [أوربا هي الحضارة... والبقيّة غابة!!] وبالتالي يجب السكوت عن الوحشية الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني؟!!

من يصطف إلى جانب الكيان الصهيوني/ العنصري في المَقتَلَة التي يقوم بها في غزة تحديداً، لا يمكن أن يكون إنساناً سَويّاً أو"جيداً"، فالإنسان الذي يخلو من الجودة الإنسانية، مهما بلغ علمه وتفكيره النقدي وثقافته، سيكون ضرره على البشرية أبعد بكثير من فائدته.

أُطمئنكَ،يا هابرماس، ستستعيد غزة عافيتها بعد حين، وسنستعيد ثقتنا بالأفكار والمبادئ والمثل  الإنسانية والعلوم الطبيعية بعد حين، وسيبقى مَنْ ساند وما زال يساند المحتلَّ والغاصب في قاع الحفرة المظلمة العميقة.. وستبقى غزة والتاريخ الشاهد على عذاباتها والموثق للمواقف تجاهها. وسيكون "يوم الحساب" التاريخي عسيرا، حين يوضع هتلر وأمثاله في كفة الميزان، ونتنياهو وشارون وكل مَنْ ساندهما في كفته المقابلة.. هي وجوه كالحة قميئة لعملة واحدة، ومكاييل متساوية لذات الوزن الشرير القبيح!!

كان حَرِيّاً بكَ، يا سيد هابرماس، أنْ تبقى "محايداً" كما صَدَّعتَ به رؤوسَنا في نظريتك عن "التواصل"! حينها كُنّا سنجدُ، أقولُ ربما، سنجدُ عُذراً للفيلسوف فيكَ! و لربما كنّا سنُتَوِّجُكَ قيثارةً للزينة، فوقَ الحيطِانِ، خُلوَاً من لَحنٍ نشاز!!

......................

وبعد..!

أحسبُ أنكَ ما سمعتَ بالشاعر الفلسطيني/ الغزّاوي مُعين بسيسو!

مُعين الذي قال في قصيدة له:

[إنْ  قُلتَها، قتَلَتكْ،

وإنْ لمْ تَقُلْها خَنَقتكْ..

..............

فقُلها ومُتْ!]

ماذا تنتظر، يا سيد هابرماس، وقد بَلَغتَ من العُمرِ عِتِيّا؟!

فالإنسانُ الحرُّ، موقفٌ وكلمة، ليسَ إلاّ!!

أخيراً، أقولُ لك ولمَن وقَّعَ معك، أنَّ نضالَ الشعب الفلسطيني ضد الخرافة وضد آخرِ قلعة للإستعمار الإستيطاني في العالم، أنَّ هذا النضال سيتواصل رغم المجازر الصهيونية، ورغم المؤامرة الدولية والأقليمية التي بدأت خيوطها تتَضح تباعاً.. فهذا شعبٌ عَصيٌّ على التطويع والخنوع، ولا بُدَّ أنه مُنتصرٌ في آخر المطاف، لأنَّ نضاله هو نضالُ تحرُّرٍ وطنيٌّ مُشرِّف وقضيتُه إنسانية عادلة وأخلاقية بأمتياز!

***

يحيى علوان

في المثقف اليوم