آراء

عبد السلام فاروق: العالم بعد غزة!

هل لغزة حقاً كل هذا التأثير..

هل يمكن للمنظومة العالمية بأسرها أن تتأثر بفعل بقعة جغرافية صغيرة كانت منذ سنوات محاصرة ومعاقبة ؟! الحقيقة أننا نري بالفعل إرهاصات تغييير دراماتيكي سيأتي بعد سنوات أو شهور من توقف الحرب فى غزة. وهي تغييرات حتمية لمن يريد أن يقرأها ويستعد لها.

أول تلك التغييرات وربما أهمها أن تكتيكات الحروب واستراتيجيات المعارك تغيرت بالفعل. ليصبح السؤال الأهم هنا: كيف يمكنك التغلب على أعتي الجيوش بإمكانيات محدودة وبواسطة ميليشيات قتالية منظمة، أو قوة عسكرية ضعيفة؟

البعض رأي أن أقوى أسلحة المقاومة الفلسطينية تجاه القوة الغاشمة الإسرائيلية سلاح الأنفاق. وبالفعل تم استخدام الأنفاق عسكرياً بشكل بارع من جهة المقاومة. فمن خلالها كان يتم احتجاز الأسري ونقلهم لتغيير أماكنهم باستمرار. كما تمت من خلالها كل العمليات النوعية الناجحة. والأهم فى تلك الأنفاق أنها تظل مجهولة أمام العدو، فهو لا يدري حجمها ولا امتدادها ولا خريطتها. إنما هى مجرد تكهنات وظنون وتوقعات. والكلام يدور فى إطار أنها تمثل شبكة عملاقة تفوق فى تعقيدها وامتدادها الشبكة البريطانية للأنفاق، وكأنها مدينة كاملة تحت الأرض، بها من العتاد والمؤن، بل والمصانع، ما يكفي لتزويد القوات المقاتلة لعدة أشهر قادمة، ما يعني أنهم مستعدون لحرب طويلة لا تستطيعها إسرائيل ولا تحتمل تكلفتها الباهظة.

فى تلك الأثناء كان بوتين يحقق مكاسب مستمرة على أرض أوكرانيا بعد أن فقدت الأخيرة دعمها الأمريكي والأوروبي لصالح جيش الاحتلال الذي بدأ يتلقي كل ما كانت تتلقاه أوكرانيا وأكثر. فالأولوية القصوى لدي الغرب هى إسرائيل!

ثم أشيع أن بوتين بدأ تحت تأثير إعجابه بالملاحم القتالية التي سطرتها المقاومة الفلسطينية يبني شبكة أنفاق شبيهة بشبكة مقاتلي غزة. وربما لا يكون الوحيد الذي يفعل هذا الآن سراً. غير أن الأنفاق لم تكن هى العامل الوحيد للانتصار. فلا بد أن هناك عوامل أخري نعلم منها القليل، وهى محل دراسة الجيوش الآن فى كل العالم.

النموذج الأمريكي يتآكل!

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية هى الأفضل. فالنموذج الأمريكي فى الأفضلية والتفوق ينهار بالفعل.

كنا نقول هذا ونبرهن عليه بأدلة مختلفة فيما سبق. أما الآن فالكلام مختلف؛ لأن هناك أصوات كثيرة بدأت ترتفع فى كل الدنيا ضد الغطرسة الأمريكية. بل أزيد فأقول إن الداخل الأمريكي نفسه مناهض لسياساتها وأفكارها. لدرجة أن الكثير من قادة الفكر فى أمريكا ذاتها يحذرون من أنها تفقد قواها الناعمة داخلياً وخارجياً. وأن النغمة السائدة الآن هي نغمة الوقوف فى وجه أمريكا وصلفها وغطرستها التي لم تعد تُحتمل. وهو ما بدا واضحاً للغاية فى الاجتماع الأخير لمجلس الأمن حينما وافقت جميع الدول على الضغط لوقف إطلاق النار فى غزة، فإذا بأمريكا تقف منفردة فى جانب وحدها لتعلن الفيتو ضد كل هؤلاء، وكأنهم بلا قيمة تذكر.

الحرب في غزة دعمت تلك النغمة. لأن فشل إسرائيل أمام المقاومة الضعيفة، وانهزامها الذي بات واضحاً للعميان هى فى الواقع انهزام أمريكي. لأن السلاح الإسرائيلي بكامله سلاح أمريكي، والدعم الأمريكي كان حاضراً فى المعركة منذ اللحظة الأولي. الآن دعونا نفكر بطريقة الصين أو روسيا، وهي تري خصمها الأمريكي اللدود ينهزم فى غزة، بل وفى باب المندب. فكيف يكون تصوره لمعركته مع مثل هذا العدو الذي أبدي ضعفاً وانكساراً؟ بل كيف يكون استعداده للمعركة القادمة المؤجلة بين الفريقين التقليديين. فريق الشرق والغرب؟

ثمة مؤسسات ومنظمات ودول كانت على الحياد أو حتي فى الجانب الأمريكي اضطراراً، بدأت تفقد ثقتها وتأييدها لأمريكاـ لا لشئ إلا أنها تري طريقتها فى دعم المجازر الوحشية التي تنفذها إسرائيل دون رادع من قانون دولي أو مبدأ إنساني. وعلى الناحية الأخري رأينا تأييداً شعبياً عالمياً للقضية الفلسطينية سحب البساط من إسرائيل الآن وإلى الأبد. ولن يكون تعامل شعوب العالم مع الاحتلال الإسرائيلي كما كان قبل حرب غزة.

نحو فلسفة اقتصادية جديدة

الفلسفة الاشتراكية تداعت وحدها منذ زمن لأنها لا تفي بمتطلبات العمل الحر المتجاوز للحدود. والفكر الاستعماري بشكليه المباشر وغير المباشر أثبت أنه يؤول مع الزمن للانهيار والضعف عندما تواجهه قوة أعتي وأكبر، كما حدث مع الإمبراطورية البريطانية. ثم ها هو الفكر الرأسمالي الاستغلالي يثبت كل يوم أنه قائم على مبادئ رخيصة تفضي إلى انهياره. مثل استغلال ثروات الشعوب ومقدراتها وهو ما تمت مقاومته فى غرب إفريقيا مؤخراً. ومثل الاعتماد على سياسات العمل المصرفى والائتماني الورقي والتي تقفد الاقتصاد قوته الحقيقية وتحوله لاقتصاد هش قابل للانهيار مع أي هزة، كما حدث فى انهيارات البورصة والبنوك  عام 2008 ثم عام 2020. ومثل السماح للاقتصاد الموازى والأسود والخفي أن يكون جزءاً من الاقتصاد القومي لبعض الدول، فيتحول مع الزمن إلى غول فاقد السيطرة، يقضي حتي على الاقتصاد النظيف ويتغول عليه، وتبدأ أنواع المافيا المختلفة فى التكون حتي تصبح مشكلة مزمنة غير قابلة للحل.

بعد حرب غزة ستحدث عدة متغيرات اقتصادية. منها أن المشروعات الإسرائيلية لتسهيل عمليات النقل انتهت للأبد، ولا أظن أنه سيوجد مغامر غبي يأمن على بضائعه فى هذا الطريق المار بإسرائيل بعد أن بات استهدافها سهلاً ومتاحاً. ثم إن ما حدث فى باب المندب قد يدفع المؤسسات الدولية لتغيير قوانينها الملاحية طبقاً لتلك المستجدات، بحيث يتم تحييد القوي المسيطرة على المضايق حتي وإن كانت طرفاً فى معركة. أو أن يتجه العالم للطريق الآمن القادم، وهو الطريق الذي ستوفره الصين قريباً جداً، وهو طريق الحرير، وهو ما سيضمن للصين نفوذاً أكبر يخصم من النفوذ العالمي الأمريكي.

مصير القضية

التغير الأكبر فى مشهد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن المعادلة كلها انعكست. لأن إسرائيل ستكون مضطرة لتقديم تنازلات كبيرة ليس الآن فقط وإنما لسنوات طويلة قادمة. وستصبح المقاومة الفلسطينية هي ورقة الضغط الدائمة ضد إسرائيل وداعميها.

القضيىة الفلسطينية صارت لها الآن حاضنة شعبية عالمية أكثر اتساعاً وتأثيراً عن ذي قبل. بغض النظر عن الاستراتيجيات التي رسمتها الإدارة الأمريكية لما بعد حرب غزة، فإن كل تلك الاستراتيجيات ستظل رهناً بما توافق عليه المقاومة. وهى الآن فى موقف قوة. وستظل كذلك لفترة طويلة قادمة.

أغلب المحللين فى إسرائيل يؤكدون أن المهاجرين والنازحين من إسرائيل إلى أوروبا وأمريكا لن يعودوا من جديد للمستوطنات، وأن المستوطنين داخل إسرائيل فقدوا ثقتهم في وعود وأكاذيب حكوماتهم. وستصبح هناك صعوبة كبيرة لإقناع العمالة القادمة من خارج إسرائيل لتدوير مصانعها وشركاتها التي توقف أغلبها بسبب الحرب. كل هذا يعني أن الحياة لن تعود فى الداخل الإسرائيلي كما كانت من قبل. بل سيزداد التهديد والشعور بانعدام الأمان لدي كل المقيمين فى المستوطنات، لاسيما تلك القريبة من بؤر القتال، كالمستوطنات الشمالية ومستوطنات الغلاف.

التفاهمات التي ستأتي فى أية مفاوضات قادمة. وهي قادمة لا محالة. سوف تعزز موقف المقاومة الفلسطينية، بل وستصبح هى النموذج الأمثل لدي كل الفلسطينيين الذين رأوا كيف أخضعت المقاومة أعتي الجيوش وهزمتها هزيمة سيظل العالم كله يذكرها لسنوات وسنوات.

هكذا ستصبح المقاومة تتحدث بلسان نفسها دون الحاجة لوسيط. وسوف تكون قادرة بعد أيام قليلة أن تضع شروطها على موائد المفاوضات. وهذا للعلم والعمل به عند اللزوم!

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم