تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

ماهر عبد المحسن: القضية الفلسطينية والوعي السياسي الغائب

ما يحدث في غزة الآن يحتاج إلى تأمل وإلى دراسة، خاصة ما يتعلق بردود الأفعال الدائرة حول الأحداث الكارثية التي تقع على مرأى ومسمع من العالم كله دون أن يحرك أحدهم، ممن يملكون سلطة اتخاذ القرار، ساكنا. والحقيقة المؤسفة أن الأحداث الكارثية لا يقابلها إلا صمت لا يقل كارثية، لأنه صمت متخاذل أمام عملية إبادة جماعية ممنهجة للقضاء على شعب كامل!

ويقينا لا يحتاج الأمر إلى تأمل ودراسة بقدر ما يحتاج إلى تدخل فعلي لإيقاف آلة الحرب غير الشريفة، التي لم تكتف بالقضاء على النساء والشيوخ، ولكن هجمت بوحشية لتغتال براءة الأطفال. غير أن موقف الصمت العاجز يفرض على الوعي الحائر هذه الوقفة التأملية الدارسة لأسباب الهزيمة النفسية وشيوع روح اللامبالاة تجاه ما يحدث للعرب عموما وللفلسطينيين على وجه الخصوص.

لا يخفي أن هناك اعتبارات سياسية وتاريخية معقدة يمكن أن تفسر موقف الحكام، وهي مسألة تخص علم السياسة، لكن يظل موقف الشعوب، العربية بخاصة، هو الذي يحتاج إلى دراسة من نوع آخر. دراسة فلسفية، فينومينولوحية، تتعلق بالفرد والمجموع، وتبحث في الكيفية التي تأسس بها المفهوم في الوعي، أي حضور القضية في العقل العربي الجمعي.

ولما كان البحث الفينومينولوجي يستوجب البدء من الذات، وتحديدا من اللحظة التأسيسية التي خبر بها الوعي موضوعه، فإننا سنبدأ من الأنا، ولتكن الذات الكاتبة، أو الساردة، هي موضوع هذا البحث.

وبهذا المعنى، أجد لزاما علي أن أعود إلى سنوات حياتي الأولى عندما كنت في الصف السادس الابتدائي وسمعت مدرس الحساب، الذي كان يدرس لنا المواد الاجتماعية! يتهكم قائلا: "فلسطين.. أولها فلس وآخرها طين". وكنت قد سمعت عن فلسطين والقضية الفلسطينية من قبل من خلال التلفزيون والإذاعة المدرسية، لكني كنت أصغر من أن أفهم أبعاد القضية، فظلت الصورة في وعييّ ضبابية. وربما لهذا السبب تفاعلت مع الدعابة اللغوية الممجوجة بالابتسام، لكني، مع ذلك، حاولت أن استنبط معنى القضية من التحليل اللغوي الهزلي الذي قدمه المدرس خفيف الظل! وفهمت أن المسألة ربما تتعلق بالأمور المالية للدولة وكونها أفلست فانحدر بها الحال.

وأذكر أن السنوات الست التالية، أي من الابتدائية وحتى الجامعة، لم ندرس القضية الفلسطينية بنحو يمكنه أن يعمق القضية في وعينا الناشئ، فلا أذكر سوى وعد بلفور وحرب ٤٨، أذكرها كأحداث تاريخية كانت تستوجب الحفظ من أجل الامتحان، في الوقت الذي كان فيه التركيز على أسباب الحملة الفرنسية، التي في مقدمتها إقامة مستعمرة فرنسية في الشرق، وكذا أهداف ثورة يوليو، والتي كان في صدارتها إقامة جيش وطني قوي. وهي، في المجمل، دروس تاريخية تعكس حقيقة العلاقة المتهافتة بين العرب والغرب، التي تعبّر عن ضعف الأنا وقوة الآخر. ولم تكن من أهمية لدرس دون آخر إلا بدرجة احتمالية طرحة كسؤال في الامتحان! لكن تظل التربية السياسية غائبة عن المنهج الدراسي الذي يأبى إلا أن يجعل التربية قاصرة على الأخلاق الفردية دون السياسة التي تمس قضايا المجتمع والأمة العربية والإسلامية بعامة. كما أن مادة التربية الوطنية التي كانت تُعرف بالتربية القومية كانت عبارة عن كتيب صغير لا يتم شرحه في الفصل ولا يُضاف إلى المجموع في نهاية العام مثل التربية الدينية في مفارقة تستحق التأمل!

وفي ظل غياب هذا الوعي أذكر أن صورتي نابليون بونابرت وكليبر كانتا معلقتين على الحائط في الفصل السادس الابتدائي، وسألتنا مدرّسة العلوم عن رأينا في هاتين الشخصيتين: هل نحبهما أم نكرههما؟ صمت الطلبة ولم يستطع أحد أن يجيب عن السؤال غير التقليدي المفاجئ، وهممت برفع يدي لأقول أني أحبهما لأنهما بطلان، وكان هذا هو الاعتقاد الذي ترسخ لدي لأن الصورتين كانتا بالزي العسكري. غير أن أحد الطلبة سبقني برفع يده، وأجاب بأنه ينبغي علينا أن نكرههما، لأنهما من المستعمرين. وهنا أفقت على تلك الحقيقة المباشرة التي درستها ضمن الأهداف الاستعمارية للحملة الفرنسية،  وتبخرت في لحظة أمام التعبير الفوتوغرافي الكاذب عن حقيقة الشخصيتين.

لكني تساءلت فيما بعد، لماذا صورتي نابليون وكليبر، زعماء الحملة الفرنسية، على الحائط بجوار صورة عمر مكرم، الشخصية الوطنية المعروفة،

 ولم أعثر على إجابة مقنعة عدا كون الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ممارسة للون من النشاط المدرسي يلتزم به الطلبة والمدرسون دون سياق فكري أو عقيدة سياسية يمكنها أن تميز بين ما يستحق أن يـُعلق على الحائط وما لا ينبغي أن يُعلق.

غياب التربية السياسية والوطنية جعل الوعي لدي، وبدرجة ما لدى جيلي، يتجه إلى موضوعات أخرى بدت أكثر جاذبية ومناسبة للسن الصغيرة التي كنا عليها وقتها مثل الأدب والفن والرياضة. فأذكر أني كنت لا أقرأ من جريدة الأخبار التي دأب أبي، رحمة الله عليه، على شرائها إلا الصفحة الثانية التي كانت تحتوي على برامج التليفزيون والكلمات المتقاطعة وأبراج الحظ، وكذا صفحة الرياضة خاصة ما تعلق بكرة القدم، بالإضافة إلى فقرة "نص كلمة" التي كان يكتبها الكاتب الساخر أحمد رجب، وكاريكاتير مصطفى حسين ومقال مصطفى أمين في الصفحة الأخيرة، وكلها مواد لا تمس الحياة السياسية إلا مسا خفيفا  من بعيد.

ويمكن أن يقال الشيء نفسه فيما يتعلق بقراءاتي الحرة في تلك السن، فبالرغم من أني كنت قارئ نهم إلا إن قراءتي كانت تقتصر على كل ما هو غريب ومثير مثل الروايات البوليسية وكتب السحر والخيال العلمي، كما كان كتّابي المفضلين هم أنيس منصور ومصطفى محمود ثم زكي نجيب محمود بعد ذلك، وفي كل الأحوال أنت لا تجد لدى هؤلاء ما يغذي لديك الوعي السياسي، أو قل أن اختياراتنا، وربما اختيارات المكتبة المدرسية، ومراكز الشباب التي كنا نتردد عليها لم تكن تتجه إلى ما يكتبه هؤلاء في السياسة وقضايا الأمة!

وبالرغم من أن التليفزيون كان يمثل أداة مهمة لنقل المعرفة السياسية إلا إننا لم نكن نهتم سوى بالأفلام والمسلسلات ومباريات الكرة، وكانت نشرة الأخبار بمثابة الجملة الاعتراضية البغيضة التي تلي مسلسل المساء وتسبق فيلم السهرة! هذا فضلا عن أن البرامج الحوارية السياسية كانت ثقيلة الظل، ولم تكن من الجاذبية بحيث نجلس أمامها طويلا.

اختلف الأمر في الجامعة، لكنه لم يختلف كثيرا، فقد تحولت القضية الفلسطينية، من خلال الأسر الطلابية، إلى صور مفجعة تنقل ما يحدث في فلسطين من اعتداءات سافرة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، وإلى شعارات تندد بالأحداث وتطالب المسؤولين، في الداخل والخارج، بالتدخل العسكري. لم يختلف الأمر كثيرا لأننا دخلنا إلى الجامعة بوعي سياسي وقومي متهافت، وكانت النتيجة أننا كنا نستقبل تلك الصور والشعارات بنوع من التعاطف الوجداني اللحظي، الذي ما كان يلبث أن يزول خلال دقائق قليلة، بعدها نواصل حياتنا اليومية وكأن شيئا لم يكن!

وبهذا المعنى كان الوعي متقلبا، يروح ويجيئ وفقا لدرجة سخونة الأحداث، حدث ذلك في الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، التي عُرفت بانتفاضة الحجارة، والانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، التي عُرفت بانتفاضة الأقصى. ففي كل مرة كان يخرج الطلاب باللافتات، وتذيع الفضائيات أغاني فيروز، وتتراوح المواقف السياسية العربية، بل والدولية، ما بين الشجب والمطالبة بضبط النفس، ويعود رجل الشارع للمطالبة بالتدخل العسكري. وفي ظل شعور عام بالضعف والعجز، يتم طرح السؤال المحرج حول حجم قوتنا العسكرية الحقيقية مقارنة بقوة السلاح الإسرائيلي!

وأذكر أن الرئيس مبارك خرج ذات مرة في وسائل الإعلام، وقال، معلقا على وقفة الشباب بالجامعات ومطالبتهم إعلان الحرب على إسرائيل، إنه يقدر هذا الموقف، ولو كان في نفس مكانهم لاتخذ الموقف نفسه وطالب بالحرب، لكنه كرجل دولة في موقع المسؤولية لا يستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار بسهولة، خاصة أنه رجل عسكري ويفهم معني دخول البلاد في حرب.

وتزامنا مع هذه المرحلة، الثمانينيات والتسعينيات، وحتى بداية الألفية الثالثة تحولت القضية الفلسطينية، في الوعي، من الشعارات والوقفات الاحتجاجية إلى موضوع فني، عندما بدأنا نقرأ اشعار محمود درويش ونستمع إلى أغنيات فيروز الوطنية، ونشاهد كاريكاتير ناجي العلي وشخصيته الأيقونية "حنظلة". وفي هذه المرحلة، كما المراحل الأخرى، لم تقربنا هذه الأعمال من القضية الفلسطينية بقدر ما أبعدتنا، لأننا، وفي مفارقة لافتة، لم نكن نتفاعل مع القضية قدر تفاعلنا مع العمل الفني، أي أننا كنا نتلقى الأحداث، رغم بشاعتها، بوعينا الجمالي لا السياسي، لأننا تربينا على الأول أكثر من الأخير.

وفي هذا السياق، ينبغي أن نلاحظ أن كل الوسائل التي كان من المفترض أن تقربنا من القضية كانت بمثابة المسافات التي أبعدتنا عنها، ما جعل الأحداث التي تدور في الأراضي المحتلة مسألة قائمة على هامش الوعي. ففلسطين بعيدة في الزمان لأنها صارت مسألة تاريخية، وبعيدة في المكان لأننا لا نعيش تحت القصف، وإنما تحت أصوات الأغاني الوطنية والتصريحات السياسية المؤدلجة!

وبقدر بعد هذه المسافات كان الوعي العربي يعيش متفرجا تحت مظلة كاذبة من الشعور بالأمان. وبقدر هذه المسافات كان الوعي العربي يتعامل مع القضية الفلسطينية في نسختها المعاصرة، في الألفية الثالثة، كريموت كنترول معطوب، لا يحرك ساكنا مهما ضغطت على أزراره! ساعد على ذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت القضية إلى أيقونة تاريخية وجعلت النضال العربي، من أجل القضية، رمزيا. فيكفي أن تضع على بروفايلك صورة للمسجد الأقصى أو كوفية لفلسطين حتى تشعر أنك قمت بواجبك تجاه القضية الفلسطينية، بل تجاه القصف والحصار والقتلى الذين يتساقطون يوميا بالمئات!

بعد طوفان الأقصى الذي وقع في السابع من أكتوبر، كان رد الفعل الإسرائيلي عنيفا جدا، ولا إنسانيا إلى أبعد الحدود، لكن الوعي العربي، العاجز دوما عن الفعل، ابتكر طرقا ملتوية للتعبير عن تضامنه مع القضية الفلسطينية، وهي طرق تحقق له راحة الضمير وتنقذه من وطأة الشعور بالذنب، دون أن يدفع فاتورة الإخلاص للقضية الفلسطينية. وكانت استراتيجية هذا الوعي في ذلك السياق هو نقل المعركة من أرض فلسطين إلى ساحات التواصل الاجتماعي، أي تحويل نضال الرصاص والدم إلى معارك كلامية، وتوجيه سهام النقد إلى أعداء وهميين بدلا من توجيهها إلى العدو الحقيقي!

وضح ذلك في الحملة التي شنها المصريون على محمد صلاح، نجمهم الساطع في سماء الكرة الإنجليزية، ومطالبته باتخاذ موقف مما يحدث في غزة، واستمرت الحملة أياما، وفي ظل صمت صلاح أمام الضحايا الفلسطينيين الذين يتساقطون كل ساعة، بدا الأمر سخيفا، لأن الوعي العاجز جعل القضية الفلسطينية كلها مرهونة بكلمة من لاعب كرة لا يجيد سوى التسديد على المرمى! ولتأكيد هذه الأهمية وسلبها من صلاح في الوقت نفسه عمل الغيورون على القضية (ظاهريا)، الراغبين في التخلص من عقدة الذنب، على استدعاء مواقف ايجابية لنصرة القضية من قبل لاعبين آخرين، مثل "أبو تريكة" و"رونالدو"، بل إن الأمر وصل إلى حد الاستشهاد بموقف لممثلة أفلام بورنو تبرعت بأموالها من أجل نصرة القضية!

ولأن المشهد عبثي في مجمله، خرج صلاح عن صمته ليسجل فيديو مفتعل، يخلو من الروح، ومن خلال صورة داكنة وأداء آلي، يتحدث بكلمات محايدة لا تدين أحدا، فقط تندد بالعنف من قبل الطرفين وتطالب بضبط النفس. وهو الأمر الذي استفز الداعمين للقضية على الفضاء الافتراضي، ودفعهم للقول " ليتك ما تكلمت"! بمعنى أن المسألة لم تكن أن يتكلم صلاح، لكن أن يتكلم بنحو ما يريد هؤلاء. والحجة أن كلمته مسموعة، بحكم شهرته العالمية، وبهذا المعنى يمكن أن يكون معبرا عن صوت الشعوب العربية.

 والحجة هنا منطقية ومقبولة، غير أن الصورة تتضح أكثر عندما يسجل باسم يوسف مداخلة تليفزيونية مع الإعلامي الانجليزي بيرس مورجان وينجح في إفحامه بأسلوبه الساخر، وهنا يهلل العرب، ويتم الاحتفاء بالمداخلة على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها نصرا مؤزرا للقضية الفلسطينية وللعرب بعامة. ومنذ هذه اللحظة يتحول باسم يوسف إلى بطل، و تنتشر مقاطع فيديو تصور باسم في صالات الجيم وهو يؤدي تمارينه الرياضية ببراعة، بعد أن تم نقل الصراع من الأرض الحقيقية (المحتلة) إلى العالم الافتراضي، وصار النصر يقاس بالقدرة على إفحام الخصوم على شاشات التلفزيون والموبايل، وليس في ساحات الحرب الدائرة فوق رؤوس الفلسطينيين!

ويعود المنطق نفسه للظهور، أن باسم شخصية عالمية وأن كلمته ستصل إلى العالم الغربي وهي مسألة تعد مكسبا للقضية في حد ذاتها، لكن الأيام التالية تكشف عن زيف هذا المنطق عندما يقرر المذيع الانجليزي استثمار النجاح الذي حققته مداخلة باسم في البرنامج، والتي لم تتعد الدقائق، ليشرع في تقديم حلقة كاملة حول القضية الفلسطينية، تتجاوز الساعتين بالاتفاق مع باسم يوسف. يصول فيها الأخير ويجول لتحقيق مزيد من المشاهدات. ويستمر باسم في دعمه للقضية بأسلوبه الاستعراضي عندما يشارك في حفل يرقص فيه رقصة الدبكة وهو متشح بالعلم الفلسطيني! في إشارة إلى أن البعد الرمزي للقضية هو السمة الغالبة على الوعي العربي.

فالوعي العربي يتعامل مع القضية من خلال استراتيجية خاصة يمكن اختزالها في مسألتين: البحث عن بطل رمزي، ومعركة افتراضية يمكن أن تُدار بملابس النوم! فنحن دائما في حالة بحث عن بطل للاحتفاء به أو نذل كي نصب جام غضبنا عليه، بعد أن تطهر الوعي من الذنب، وعرف طريقه نحو النضال الآمن. تأكد ذلك في واقعة اعتذار الممثل محمد سلام عن مسرحية كان من المقرر عرضها في السعودية، تضامنا مع فلسطيني غزة، وفي المقابل وقوف الممثل بيومي فؤاد على المسرح في الرياض للرد على موقف سلام بأنه لم يأت للإضحاك ولا لجمع المال، لكن من أجل تقديم فن! فيكفي أن تحتفي بموقف سلام وتكيل التهم لشخصية فؤاد حتى تشعر بأنك أديت واجبك تجاه ما يحدث في غزة!

وفي خطوة أخرى يتم استخدام القضية لأغراض سياسية. وهي مسألة ليست جديدة على مستوى الحكومات، لكن ربما صارت كذلك على مستوى الشعوب. حدث ذلك في الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث روج المؤيدون إلى مقولة أن الرئيس حمى البلاد من التورط في حرب مع إسرائيل، بينما روج المعارضون لمقولة أن عدم وصول المساعدات لمنكوبي غزة تم بالتواطؤ مع أمريكا وإسرائيل لاستكمال مشروع الإبادة الجماعية. والمسألة برمتها إنما تعني أن القضية لم تعد غاية في ذاتها بقدر ما أصبحت وسيلة لأغراض أخرى، وأن وعي رجل الشارع العربي لم يعد مهموما بالقضية الفلسطينية بنحو يتناسب وحجم الكارثة، لهذه الأسباب لم تشهد العواصم العربية مسيرات احتجاجية كتلك التي شهدناها، وما زلنا، في العواصم الأوروبية!

الوعي العربي، في التحليل الأخير، هو وعي مستلب سياسيا، بحيث لا تجده إلا غارقا في همومة اليومية، واهتماماته السطحية التي لا ترسخ إلا لوضعيته المستلبة، المهادنة للواقع، المستسلمة للتكرار البغيض، الذي لا يضيف إلا مزيدا من القهر والمعاناة، يؤكد ذلك ما حدث بعد الهدنة القصيرة التي توقفت خلالها آلة الحرب.

بعد الهدنة عاد القصف الإسرائيلي مرة أخرى تجاه سكان غزة بشكل أكثر عنفا، وفي ظل مباركة العالم للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، عاد الوعي العربي المتهافت لاهتماماته اليومية الأكثر سطحية، وعلى رأسها متابعة مباريات الكرة، كأس العالم للأندية بخاصة، وأخبار الفنانين من قبيل طلاق شيرين عبد الوهاب وزواج سامح الصريطي!

حدث ذلك في الوقت الذي ارتفعت فيه نبرة التطبيع مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية مثل السعودية والإمارات، وهب الإعلاميون المصريون، ربما لأول مرة،  للتصريح بأن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، ما يعني أن المسافة قد اتسعت بين الوعي العربي والقضية الفلسطينية، لتعود محض مسألة رمزية لدى رجل الشارع، يتم اختزالها في شعار "فلسطين في القلب"، وهو شعار يعلقه الناس فوق مركباتهم وداخل محالهم التجارية، لتظل فلسطين في القلب، لكن دون أن يتحول الشعار إلى فعل مؤثر في العالم الخارجي!

***

د. ماهر عبد المحسن

في المثقف اليوم