آراء

رشيد الخيّون: العراق.. «الفاتحو باب الرّدى»

ليتَ العراق لم يختر المثلث الصعب مكاناً، فلا يمر فارسٌ مِن الغرب إلى الشّرق، أو مِن الشّمال إلى الجنوب، إلا كان ساحةً للمبارزة، هكذا بالأمس واليوم كذلك. فترى أهل العِراق يتسننون ويتشيعون، حسب المتغلبين. نحتوا مِن هذا النّزاع كنايةً: «بيِن العجم والرُّوم بلوى ابتلينا» (العزاوي، العراق بين احتلالين)، وكان يُشار إلى الغرب بالروم، والشرق بالعجم.

لا تقف سنابك الخيل، القادمة من الأقاصي إلا ببغداد، فكم أطاح هولاكو (ت: 664هـ) بممالك، ومهد الجبال والوديان، وأخضع القلاع العصية، لكن لم يعلن استقلاله عن إمبراطورية أخيه، الخان الأكبر، إلا باجتياح بغداد. لهذا نقول: ليتها لم تكن عاصمةً، لنحو خمسمائة عام (145-656هـ)، وتزدهر على بقاع الأرض كافة، ثم تنتهي إلى حيث يتحكم بسلمها وحربها ولائيون لغيرها.

كان العراق وما زال مقصداً، فعندما جرى التفكير بشرق أوسط جديد، اُقترح أنْ تكون البداية خرابه، بعد حروب وحصارات جائرة، وما أثمره الغزو مِن مبكيات، وكان الغزاة جيوشاً وفصائل عقائديَّة، وبعدما صعب غلق الكارثة، ظهر أقطاب الغزاة يعتذرون، ولعبد الله البردوني (ت: 1999) بيتٌ يُغني عن المقال، قاله في كارثة، ما زال يئنُ مِن آثارها أهل عدن ولواحقها، ألا وهو يوم (13 يناير 1986): «ماذا أُسمّي ما جرى؟ حرفاً ولكن صار فعلاً/ الفاتحو باب الرَّدى/ لا يملكون الآن قفلا» (ديوان كائنات الشّوق الآخر/ فنقلة النَّار والغموض).

كان غزو العراق فاتحةً لموتٍ أحمر (لغزارة الدِّماء)، لا يملك أحدٌ غلق بابه، صفقنا له تحت إغراء «العراق الجديد»، وبدافع نظام لم يترك نافذةَ أمل. غير أنَّ العجب، رئيس مليشيا، دخل بفضل فاتحي باب الرَّدى، يتحدث وكأنه يملك رقاب الثلاثين مليون عراقي، لا يهمه ذبحهم قَرابين لعقيدته! يقول أحد فاتحي باب الرّدى، عابري الجغرافيا وحدود الدُّول، مِن ملجئه الحصين: صحيح، تُعرّض المقاومة شعوبها للمخاطر، لكنَّ العقيدة تستحق التّضحية! فلا وجود في عرفه لحكومات ووزارات دفاع تُقدر مصالح أوطانها وشعوبها!

بذلك التصريح وغيره يحبس العراقيون أنفاسهم، مستسلمين لمصائرهم، فطوال عشرين عاماً، مَن شبَّ فيها ومَن شاب، تعايشوا مع الأزمات والكوارث، حتَّى صار الموت عندهم بلا قتال ولا تفجير ولا اختطاف ولا اغتيال، رحمةً. لأبي الطّيب (قُتل: 354هـ)، وإن كان مِن المدائح: «كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِياً/ وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا» (الدِّيوان، قالها 346هـ، في كافور الإخشيدي).

أقول: يحبس العراقيون الأنفاس هذا العام (2024)، وكلَّ عام، يأملونه عاماً جديداً، استهل بحرب التّصريحات النارية والطائرات المسيرة. فهل سيعاد غزو العراق، والغزو فيه منذ (2003) غزوان، شرقاً وغرباً، مع اختلاف الشّكل. نحو سبعين فريقاً مسلحاً، صارت معسكراتها عواصم ليس لبغداد يدٌ عليها، وقواعد كبرى، ترى أنها صاحبة الفضل في وجود مَن يريد الانفراد بالغنيمة، بينما حكومتها تنتظر الرّحيل، لا تؤخذ كلمتها على محمل الجد، مِن قِبل الطَّرفين، فمَن لا يملك الأمر والمشيئة لتحرير مختطفٍ، هل يُطيعه قائد مليشيا أو آمر قاعدةٍ؟!

هذا، ولأن الحَجاج بن يوسف الثّقفي (ت: 95هـ) كان قد فتح باب الرَّدى، وأبقاه مشرعاً بعد موته، استعفى يزيد بن المُهلَب (102هـ) مِن إمارة العراق عندما كُلف بها. قال أبو جعفر الطَّبري (ت: 310هـ): «إن يزيدَ نظر لما ولاه سليمان، ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إنَّ العراق قد أخربها الحجَّاج، وأنا اليوم رجاءُ أهل العراق، ومتى قدمتها، وأخذت النَّاس بالخراج، وعذبتهم عليه، صرتُ مثل الحجَّاج، أدخل النَّاس الحرب، وأعيد عليهم تلك السُّجون» (تاريخ الأمم والملوك). كان ابن المُهلب بهذا الاستعفاء حكيماً، لكن ما رأيناه بعد (2003)، صار طلب الإمارة، بلا أمرٍ ونهيٍ، كالمتمني: «يَا حَبَّذَا الإمارَةُ ولَوْ على الحِجَارَةِ» (الميدانيّ، مجمع الأمثال).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم