تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

الطيب النقر: التطرف الاجتماعي في السودان

في الحق أن القوات المسلحة السودانية قد أدت واجبها، ونهضت بما ينبغي أن تنهض به، من الذب عن حياض هذه الديار، فكانت صارفة مانعة، لمآرب عربان الشتات ومخططاتهم، وسيرضخ عربان الشتات لقضائها، ويرضوا به، مهما طال العهد أو قصر، وسيلبوا تلك الدعوة التي وجهتها لهم، في مودة صادقة خالصة، فدعوة الموت التي كثر فيها الحوار، واشتد فيها الجدال، لن تستطيع جموع عربان الشتات، أن تجنح عنها، أو تخفق في تلبيتها، مهما بلغ بها الرفض أقصاه، فالجيش حريص أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يجتث شأفة الدعم السريع  في حدة وعنف، وزوال هذه المنظومة، حدث لا ينبغي الوقوف عليه، أو الالتفات إليه، ولكن ينبغي أن نلتفت إلى قضية تقتضي منا، أن نختلف اختلافا شديدا في تحصيلها، قضية تتطلب أن نستخرج فيها الحق من الشبه، وأن نطرح في مرارة وحزن، هذه الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها، إلى تفكير طويل، وروية متصلة.

أمزجتنا التي نختلف حولها ونختصم، لماذا أخذها هذا التطرف والغلو من جميع نواحيها؟ وهذا التعصب الذي لا نتحرج من استقبال زائريه من خارج قطرنا، حتى يَعْظُم جاه بعض القبائل، وشأنها يرتفع، متى ننكره، ونضيق به، وننصرف عنه؟ وهذا الجمود الفكري  الذي دمغ حصاتنا على ما فيها من ذبول وفتور، متى نميطه ونتحرر عنه؟ وهذه الأنا الضعيفة، الهشة، الهزيلة، كيف تترك عنها هذا الاسراف في الوهن؟، وتتوخى هذا الإلهام الشاحب اللون، الذي يجب أن يتزايد وأن يقوى، حتى يخلصها من عللها المتوطنة، إن الأزمة الحقيقية التي يشكو منها السودان، كل السودان، ليست هي أزمة تنافس بين خصمين راما السلطة، وتشبثا بحبالها، وإنما هي أزمة أعمق من هذا كله، وأيسر إصلاحا من هذا كله، كما يقول عميد "الفكر" العربي  الدكتور طه حسين رحمه الله، أزمة التكالب على السلطة في السودان هينة يسيرة، فليس التنافس بين الفريق أول "البرهان"، وقائد قوات الدعم السريع "محمد حمدان دقلو" هي الأزمة الحقيقية التي مست حياة الشعب السوداني مساً عظيما، وأصابته في مقتل، إن أزمتنا الفادحة أيها السادة، تتمثل في تلك الاضطرابات الشخصية التي طافت بنا، وفي نظامنا الاجتماعي الفاسد، الذي جعلنا لا نتعامل مع قضايانا الملحة في قصد واعتدال، فشخصيتنا المعطوبة، تأنف أن تعيش في نظام تتحق في ظله قيم الحرية والعدالة، فهي مأخوذه بمعالم الجنوح والتطرف، وتؤثر هذه الحياة التي تخلب بروعتها عقولنا الناضبة، التي تتيح لنا بأن نأخذ من الحرية قدراً غير مألوف، حتى لا نرعى لشيء حرمة، وحتى نقدم على كل شيء مثير للذة والامتاع، إلى أبعد حد مستطاع، دون أن يردنا عن مواتاتها فضل من خلق، أو بقية من دين، وحتى ندني هذه الاضطرابات من الوضوح، ونقربها إلى الفهم، نقول أنها اضطرابات مهلهلة فجة، تذودها الكثير من القبائل  في السودان بالفتور والاهمال، وتحتفي بها قبائل أخرى، وتسرف فيها، وأضرب لذلك مثالا واحداً، يجدر بنا أن نشير إليه، فالحق الذي لا شك فيه أن البيئة هي التي تغذي الحس، والعقل، والشعور، هناك بيئات تنزع نحو التطرف الاجتماعي، ولا تتعارض قيمها مع قبوله وهضمه، هذه القبائل يستحسن أن تقتصر عنايتنا بها، وأن نرفع أصواتنا رفعا عنيفاً، ونلقي في مسامعها تلك الكلمات التي تعزز من مشاعر الألفة، والمحبة، والتضامن الاجتماعي، ونجتهد أن نردها عن البغي والعدوان، وجملة القول، أن تتحمل هذه القبائل الميسور وغير الميسور، حتى تقتنع بفكرة يسيرة، هي أن العزة، والكرامة، مرتبطة بالسلام الذي يكفل لها، ولغيرها من القبائل أن تعيش في أمن ودعة، وأن الوقت قد حان لتقطع الصلة بينها، وبين ثقافتها الموروثة، تلك الثقافة التي لا تجد مضاً ولا غضاضة، في اظهار هذا المزاج العنيف، الذي يعلي من شأن الحرب، فحياة هذه القبائل بدوية كانت أو حضرية، ما زال يقوم على المعاظلة و الصراع والتناحر، ولعل العلة في ذلك هي الموارد، التي ما زال الناس يتنافسون حولها تنافساً مريعا، فالموارد رغم توفرها مدعاة حقاً، لأن تزيد من حنق القبائل وعداوتها ضد بعضها البعض، ولكن لأننا صادقين في تحديد أسباب هذا المزاج العكر، ووصفه، والتعمق فيه، نزعم أن شح الموارد أو وفرتها، ومعارك الرعاة والمزارعين على الكلأ والماء، التي تركت آثاراً خالدة، لا سبيل إلى أن تزول، ليست هي من الأسباب الجوهرية لاندلاع مثل هذه الحروب، السبب الرئيس الشائع، هو إظهار القوة والبأس، فإظهار القوة الفردية والاجتماعية، مقدما على ازدحام الناس حول الموارد، وعلى تنافسهم في جميع ألوان الحياة، إذن اظهار القوة تأخذ علينا الطرق، وتطوقنا من كل ناحية، وتضطرنا لأن نخضع لهذه الحياة البائسة التعسة، التي لا تدفعنا إلى الرقي ولا إلى الحضارة، بل إلى القتل والإغضاء، والاذعان، لفلسفة الحرب، ولن نتحرر من أغلال هذه الفلسفة، إلا إذا خلت حياتنا من هذه العواطف الحادة، واستطعنا أن نلقي ستاراً كثيفا، على صدى الذكريات الذي لو لم نخمده،  لمضينا في سفك الدماء، ولأخفقنا في أن ننتظم في توادد جميل، وستظل الضغائن تملأ نفوسنا، وتملك عليها أمرها،  وسيلازمنا هذا الشقاء المتصل طوال حياتنا.

 ونظامنا الاجتماعي، الذي قد تطرقت إليه من قبل في مقال عريض، ولا أود أن أعود إليه، أو استأنف الحديث عنه، ولكني أحمله في سفور، اخضاع نظمنا السياسية، و الثقافية، والاجتماعية لسطوته، لقد قوض هذا النظام البسيط الساذج، كل مظاهر البهجة في حياتنا، وأزرى بكل لذة فنية أو عقلية، كانت من الممكن أن تخفف علينا وطأة هذه الحياة،  نظامنا الاجتماعي، حال بيننا وبين التفكر والتروي، في مسائلنا ومشاكلنا المعقدة، وجردنا من الوطنية المحضة وتبعاتها،  قناديل الوطنية التي تفرض علينا النهوض بواجباتنا تجاه السودان، حتى يظفر بالاستقلال السياسي التام، ويتعافى من هذا الاعياء الذي تفرضه عليه تبعات تدخل الغير في شؤونه، نظامنا الاجتماعي هو الذي فرض علينا أن نحرص على هذا التقليد، وأن نمعن في هذه الحياة التي تشبه الحياة الجاهلية في الكثير من صورها وأشكالها، تلك الحياة العجفاء المتخلفة، التي نظهر لها كل هذه الطاعة، وهذا الاذعان، مع أن النشاط العقلي، الذي تموج به الأقطار من حولنا، يُحْتِم علينا أن نعدل هذا النظام القديم، بنظام طارف جديد، يتبين الأشياء في وضوح وجلاء، ويتناول موضوع وحدتنا القومية الضعيفة الواهية، بالدرس والبحث والاستقصاء، نحن نحس فعلا الحاجة إلى اصلاح نظامنا الاجتماعي، أو تغييره، فالنظام الذي ننشده و نبتغيه، واهماً من ظن، أنه هو ذلك النظام الذي يكفل لنا أن نعيش في خفض ونعيم، بل هو أيها الأماجد، ذلك النظام الذي نلتمس فيه تلك الرغبة الصادقة، بأن تعيش جميع أطيافه في وحدة عضوية متضامنة، تخضع للتطور، وتكره الانحطاط والتردي والجمود، نظام اجتماعي جديد، يسعى لاضعاف سلطان القبلية، ويعمل على تضاؤله، نظام يدرس كل شيء، ويحلله، ويرده إلى الأصول المشتركة بين الناس، نظام لا تستأثر فيه طائفة بالحكم والسلطان، ولا تتحقق فيه المنفعة العاجلة، لجماعة أو ايدلوجية، حتى ترتقي رقياً مضطرداً على حساب غيرها من الجماعات والأيدلوجيات، فالطموح الذي يجب أن يأخذ نصيبه، لأي فئة كانت، هو ألا تتقوقع  أي جهة حول السلطة، أو تسعى لاحكام السيطرة عليها، بل أن تظهر المرونة، والسلاسة في تداولها، وأن تمضي بالسودان نحو التطور في غير أناة.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم