تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

الطيب النقر: قضايا المشاركة السياسية والخروج على الحاكم

عدد غير قليل من الناس يجهل تفصيلات الدساتير ولا يعرف ما هي قيمتها؟ نعم بعض الناس يجهل هذه الدساتير جهلاً تاماً، أو جهلاً يوشك أن يكون تاماً، فالدساتير مقيدة تماماً بالمحافظة على القيم الدينية والسياسية والاجتماعية، وأن مهمتها أن تفصل في هذه المسائل الكثيرة التي نشأت بسبب فئات تبيح لنفسها من اللذات ما أباح لها الدين وما لم يبح، كما أن الدساتير تكبح جماح النخب السياسية التي تريد أن تبسط سلطانها على البلدان، وأن تمارس سياستها القاسية الخشنة التي تخالف أسس العدل والحرية كل المخالفة، وقد أقرت الدساتير سواء التي تمت صياغتها في الشرق المسلم أو في الغرب المسيحي حق الشعب في مقاومة هذه الشرذمة التي أثرت في حياتهم تأثيراً ظاهراً، والتي قطعت الصلة بينهم وبين الحرية والأمن أو كادت تنقطع، والتي أفقرت الدول على كثرة غناها وثرواتها، و” أقرّ الإسلام حق الشعب في مقاومة الحاكم المستبد والثورة عليه، فالخليفة كان مقيداً باتباع أحكام القرآن والسنة وإجماع الصحابة، فإذا خرج عنها وجبت معصيته”. ولم يكن من الممكن أن ينصرف الحاكم للهو، ويعكف على اللذة ويسرف فيها، وينكل بشعبه، ويبالغ في تعذيبه، ويجابه كل من اعترض على ضيمه وجنفه بضروب من القسوة، أن نطالب شعبه بالصبر والجلد، وأن يظل هادئاً صامتاً، ينتحل الطاعة ويتمسك بها، ونحن لا نغير من أصول الدين وقواعده إذا زعمنا أن الشعب بصمته سيتورط في طوام ونكبات لا حصر لها، وهو غافل مسرف في الغفلة إذا ظنّ أن الإسلام قد نهى عن الخروج عن الحاكم إذا بغى وتجبر، هذا أمر يدعو إلى الإشفاق، فالإسلام يريد أن تكون أمته حية نامية، فكيف يتحقق لها هذا، وجلادها يميتها بعسفه وظلمه، ويمنعها من أن يجتمع حولها الناس فتتيح لهم طريقاً يوصلهم إلى الله.

ومن الأحاديث النبوية المتفق عليها التي تقصر الطاعة على الحاكم العادل قوله عليه الصلاة والسلام:” السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”.، وقوله كذلك:” أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر”. وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”. وأنه عليه -أفضل الصلاة وأزكى التسليم- قال أيضاً:” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد”

ولا شك عند الباحث أن موقف من لا يؤذيهم بطش الحكام، ولا يمضهم تجبر اللئام، غير مستقيم، هو خليق بأن يتغير، وأنه بدأ يتغير بدون شك، والدليل على ذلك ثورات الربيع العربي فهي نتيجة من نتائج التمرد على فرية عبثت بطائفة من الناس، زمرة أسرفت في الإساءة إلى نفسها حينما أذعنت لحاكم تجاوز كل حدود الدين والقيم والأعراف، حاكم يظلم شعبه ويسرف في الظلم، ويقضي بين رعيته فيشتط في القضاء، ولا يعرف عنه الناس سوى الغض منهم والإعراض عنهم، يتصرف في شؤونهم كما يشاء، ويتدبرها كما يحب، وهو في كل هذا لا يصور الحاكم المعتدل، ولا يقدم للناس أنموذجاً صالحاً يمكن احتذاؤه والتمثل به، “ولم يكن الخليفة حاكماً مطلقاً يجمع بين يديه سلطان التشريع والإرادة والقضاء، فالتشريع كان مصدره القرآن والسنة والإجماع، أما القضاء فكان بمنأى عن تدخل الخليفة، رغم أنه هو الذي كان يعين القضاة، وكان يمكنه مساءلة الخليفة أمام القضاء، شأنه في ذلك شأن الأفراد العاديين تماماً، ولم يسجل التاريخ حالة واحدة تدخل فيها أحد الخلفاء أو عماله في أعمال القضاء”. ويطول القول إذا أردنا أن نذكر أن الحاكم ليس من الميسور له، أو من السهل عليه، أن يمهد للسطوة أسبابها ووسائلها، وأن يقر نظماً اجتماعية وسياسية تجعل يده طاغية كل الطغيان، فالنظم التي تتنافى مع الإسلام الذي كفل حرية الفرد، وكفل حرية الجماعة، يخضع لها من لا يشقى الحاكم بشقائهم، ولا يسعد بسعادتهم، فهو يعيش معتزلاً في برجه العاجي، وقصره المنيف كما نعلم، ويمسي ويصبح في حياة مترفة رغدة ولا ينتظر أو يرجأ من أحد شيئاً، حفياً بنفر يدفعه إلى شيء آخر غير ظلم الرعية وهو تقريب طغمة فاسدة تعينه على الباطل، رهط يتودد إلى السلطان ويتقرب له، عساه أن يظفر منه بشيء يجعله يعيش في لين إن وجد إلى ذلك سبيلا،، فنراه بعد أن حظي من الباغي بمنزلة، يجحف كما يجحف السلطان، ويستبد كما يستبد السلطان، ويسرق ويرتشي، ويقتل وينتشي، ويأتي كل الموبقات التي يأتيها السلطان، ويستأثر دون الحفاة العراة بالمال، ويعين الغاشم على إعجابه بنفسه واختياله، ويقنعه بأنه من أهل التفرد الذي لا يحتمل شكاً، والنبوغ الذي لا يحوم حوله خلاف.

ولا شك أن الحاكم البائس المغتر بنفسه في حاجة إلى طائفة من الأخلاق لم يكن للنفر المحيط به فيها حظ، وليته تقّصْىَ مكانته عند الرعية، فإنها تنم من غير شك بما تضمره دواخلهم من حب له أو بغض، ولا شك أيضا أن طائفة غير قليلة ستعرض عن موكبه إذا لم تقهرها جلاوزته وزبانيته على الحضور والمشاركة، لأجل ذلك ابتدعت النظم الحديثة ثلة تحمل هذه الأعباء، وتنهض بتلك الأثقال، حشد يتضامون في وحدة متماسكة تحمل بعضها ثقل بعض، قوم يحرصون أشد الحرص على إرضاء هذه الجموع التي ابتليت بمثل هذا الصنف من الحُكام، وإخماد هذه الزفرات، وتسكين تلك العبرات التي تنطلق من دواخلهم المتعبة.

 ومن حق تلك الجموع أن تراعي تلك الطائفة عهدها، ولا تميل به إلى الإخلال، والتقصير القبيح، وأكبر الظن أن هذه الجموع كانت مخدوعة عن نفسها حينما توهمت أن الأحزاب التي تملأ الساحة السياسية سوف تقتحم كل مشقة، وتتكلف كل عناء من أجل أن تقبل على رئيسها إذا عدل، وتعرض عنه إذا طغى وظلم، وغاب عنها أن الأحزاب معظم الأحزاب لا تأبه لإعراضها ولا ازورارها، وأن هاجسها الذي يحرك لسانها، ويطلق صوتها، أن تدنو من الحاكم ويستريح هو إليها، وجهلت تلك الأحزاب التي تؤثر إرضاء الحاكم عن إرضاء قاعدتها” إن تكوين تلك الأحزاب منطلق من أمر رباني مباشر” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” آل عمران: 104. وأن أمة من هذا القبيل لا يمكن أن يعلق مصيرها بشخص الحاكم، بل هي التي ينبغي أن تكون صاحبة السلطان عليه”. لقد أصغت الشعوب كل الشعوب للأحزاب فكلفتها بعض تلك الأحزاب من الأعاجيب مثنى وفرادى، فهي لا تحفل برضاء شعوبها ولا تقف عنده، ومن المآسي التي تواجهها تلك الشعوب إذا أصبحت، وتواجهها إذا أمست، أن يكون ليس هناك توقيت يمكن أن تنجاب عنها هذه المحنة، فقد ألفها أجدادهم وتعايشوا معها، وقنع بها أباءهم ورضخوا لها، وها هم الآن يعيشون بسببها شراً متصلاً وألما أليماً، والمحنة باقية لم تنقضي، والأحزاب السياسية التي كل همها القهر والسلطان لابد من وجودها، ولا مناص من مضاء سيرتها بين الناس، رغم أنها لا تمثل عواطف الناس تمثيلاً صحيحاً، ولكنها “تلعب دوراً فعالاً في خلق الرأي العام، وفي تنشيطه وتنظيمه، فتقوم بتنظيم الاتجاهات السياسية وتوضح مصالح المواطنين بما يتصل بالشؤون العامة وتمدهم بالمعرفة والمعلومات، وتقوم بتجميع مصالحهم، وتحديدها في برامج محددة صالحة للاختيار فيما بينها وتعرفهم على المشكلات العامة التي تواجههم وتزودهم بالحلول المناسبة لها وتعرفهم بحقوقهم وحرياتهم التي يجب عدم تجاوزها”.

كما أن الأحزاب السياسية التي حظها من الأمانة ينقص، وقسطها من الالتواء يزيد “تعمل على تكوين ثقافة سياسية وتوجيه الرأي العام، فتمكنهم من فهم المسائل العامة، والمشاركة في مناقشتها والحكم عليها حكماً صحيحاً؛ فالأحزاب هي أشبه ما تكون بــــــ” مدارس الشعوب”.

والقول بالمشاركة السياسية تكثر فيه المبالغة، ويظهر فيه التكلف، ولا نجد مصطلح المشاركة السياسية عند شعوبنا في المنطقة العربية قد نضج في نفسها وثبتت عليه اعتقادها، ومن الحق علينا أن نتفهم ارتياب الشعوب حيال هذا المصطلح الذي يكثر الجدال واللجاج حوله، فليس هناك في الواقع ما يدل عليه، اللهم إلا في بعض الدول العربية التي نجحت في تحقيق الصلة بينها وبين الفلسفة الغربية، والتي أوجدت لنفسها مساحة من الحرية، لم يسلبها منها بطش حاكم، أو جحود عادة، وهي رغم جهادها وحرصها على توفير تلك المساحة لم تحتفظ إلاّ بأيسر ما نالته من تلك المشاركة، رغم ما لها من حس، وما لها كيد، وما لها تفكير، وما لها من إرادة.

“والمشاركة السياسية كما تعرفها” دائرة العلوم الاجتماعية” هي:” تلك الأنشطة الإدارية التي يشارك بمقتضاها أفراد مجمع في اختيار حكامه وفي صياغة السياسة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، أي أنها تعني اشتراك الفرد في مختلف مستويات العمل والنظام السياسي”. والشيء الواضح والجلي أن شعوبنا في الشرق الأوسط وعالمنا العربي والأفريقي لا تبلغ مشاركتهم السياسية إلا النذر القليل، وهي على قلتها لا تظهر في الأفق إلا إذا أعانها الحاكم ويسرها لأمته، ولعل من بلادة الحس، وفتور الشعور، أن ندعي أن حُكام هذه البقع من العالم يكبرها الناس في أفئدتهم ويؤثرونها بالمودة، لأنها كفلت لهم حرية المشاركة السياسية وأتاحتها لهم، فهم ذهبوا مذهب غيرهم من الطغاة الذين يبسطون القمع لشعوبهم ويجزلون العطاء، هذه الطائفة من البغاة عاجزة أن تلائم بين سيرتها وبين ما تقتضيه فقرات الدساتير في بلادهم، وتمثل المشاركة السياسية المعدومة أو النادرة في دول الشرق الأوسط والقارة الأفريقية “أحد أهم الأدوار الأساسية التي يقوم بها الحزب السياسي حيث يقدم للمواطنين فرصة لتنظيم وهيكلة أنفسهم مع من يشاركونه بالرأي والفكر والعقيدة السياسية من أجل ممارسة التأثير على السلطة الحاكمة، سواء على المستوى المحلي أو المستوى القومي ويصبح الحزب إحدى قنوات الاتصال بين الحاكم والمحكوم وأداة تمكن المواطنين من المشاركة والمساهمة في الحياة العامة وأشهر أنواع المشاركة السياسية هي الانتخابات”. والرؤساء في عالمنا لا يدركون المغزى من حرص الشعوب على هذه الانتخابات التي لا تفضي إلا لما يبتغونه هم وينشدوه، والتي يظهر كل فرد منهم نفسه فيها بمظهر العادل الذي لا يجور، والمتواضع الذي لا يتكبر، والرحيم الذي لا يتجبر، ولعل الأمر الذي يعجز العقل عن فهم فلسفته، كيف لا يتجشم عقل الطاغية أسباب حزن الرعية الذي انتهى بها شغفها إلى التغيير إلى هذه النتيجة المؤلمة، ولا يستقبل ما استقبلته من خيبات عسيرة الاحتمال، والباحث يريد أن يتجاوز طغيان الساسة وعسفهم وتملقهم للحكام والسلاطين، وزهد الرؤساء في تطبيق الدستور الذي أقسموا على العمل وفق حيثياته،  لكن هناك أمرين يعترضانه ويمنعاه من أن يقف عند هذا الحد، فالحاكم الذي يسعى أن يخدع أتباعه بإظهار صلاح لا يثبته نهجه، ولا تثبته أفعاله، لماذا يدأب دوماً في الاستهزاء بالدين؟، ويكره أن يحث عليه؟ ولماذا لا تأخذ جماهيرهم صلاتهم ونوافلهم من منطلق أنها خضوع تام لرب العزة الذي ملّكهم على رقاب الغير؟ ولماذا نشعر في كثير من الأحيان أن الأحزاب الإسلامية التي ينبغي أن نستبين في تفصيلاتها السياسية قيم الإسلام ورسوخه، نجدها تمانع أشد الممانعة، وتأبى أشد الإباء بتصرفاتها الفجة أن نقبل عليها، ونثق فيها، ونسمع لها؟

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم